دمشق تتعرّى وتواجه حربًا من نوع آخر
بيلسان عمر
تحكم دمشق الآن، إضافة إلى حكومة الأسد وميليشياته وأفرعه الأمنية، ثقافة “دخيلة”، تنتشي بتكسير وتحطيم بعض المبادئ التي تربى عليها السوريون، مقدمة لهم قيمًا مبتذلة ما أنزل الله بها من سلطان.
في العاصمة، تنتشر ثقافة العري الأخلاقي، دائبة على إزاحة الفئة النخبوية، وإقصائها، وأضعف الإيمان إجبارها على استمراء إغوائهم لمن حولهم، فيستعرض الشاب رجولته في قارعة الطريق، بضمة أو قبلة جنونية لصديقته، ربما لا تحمل من معناها الحقيقي إلا المجون وشهوة عارمة خاطفة، دونما تلك القيم من المودة والسكينة وغيرها، دون أن يكلف الأمر تلك الصديقات أكثر من مئات الليرات وساعات لقضاء وطر “حماة الوطن”، والكل تحت سقف الوطن، الذي لم يعد يتسع إلا لهم ولأمثالهم، ويضيق ذرعًا بغيرهم، وبمن لا يستعذب سياستهم، التي تهوي بمتبعيها إلى درك “الحيوانية”، بدل أن ترفع من شأوهم.
مذ كنا صغارًا ونحن نرضع مع حليب أمهاتنا تقاليد بالية، حيث كتب أجدادنا بحروف الوهم دستورًا خاصًا بهم، علمونا من خلاله أن الفتاة قطعة أثرية للاستمتاع فقط، ويجب أن تبقى بأبهى زينة حتى تلفت الأنظار وتجذب انتباه الخاطبين لها، ومع كل سلبيات ذلك لا ننكر أنهم لم ينسوا أن يعلمونا أن زينتها لبيتها وزوجها فقط، وليست مشاعًا تباع وتشترى.
على بعد بضع كيلو مترات، أو حتى مئات الكيلو مترات من دمشق يقتل المدنيون والمحاصرون، في غوطتيها الغربية والشرقية، وكذلك في حلب وحمص ودرعا وحماه والجزيرة السورية، بصواريخ الطيران السوري والروسي، وبالقنابل الغازية والكيماوي، وتصبح وتمسي تلك المناطق على مجازر قل أو كثر عدد شهدائها، وتنزف كما لم تنزف عدوة النظام السوري المزعومة “إسرائيل”، بينما دمشق وكأنها صبت في آذانها وأعينها الخردل، تسمع وترى، ولكن وكأنها صم بكم عمي، لا حراك تملكه، غير استعراض عناصر الأمن لرجولتهم وأقصى ما تعلموه في الطرقات والحدائق، مع بنات لسن بغريبات، ولم يتم استقدامهن من خارج البلاد.
تحت شوارع دمشق أقبية الأفرع الأمنية، والتي يملأ صدى صمت المعتقلين حجارتها، في حين يملأ شوارع دمشق صدى المهازل التي لم تخبرها من قبل، من قصص عشاق لا يملكون إلا الوعود لمحبوباتهم، وخيانات زوجية، وصداقات وعلاقات مشبوهة، وكله في قارعة الطريق من جديد.
على أحد الحواجز في دمشق، يستعرض عنصر الأمن كل سماجته على شيخ عجوز جالس في السرفيس (بدا بنظره فاقد العقل)… “هات هويتك حجي وتأجيل العسكرية!!..عم وين ولادك الشباب؟” ليجيبه والدموع غرغرت في عيونه وعيون كل من سمع “ولادنا ما بقي لهم مكان بينكم.. ولادنا اللي لازم يسافروا ويلملوا كرامتهم وأنتو عم تمسحوها بأخواتهم بنص الطريق.. ولادنا اللي لازم يهربوا من سلاحكم اللي عم تتقوّوا فيه ولولاه ما حدا بخاف منكم.. ولادنا اللي لازم يموتوا مية موتة ليأمنوا حق بيت وسيارة وأنتو بقذيفة بتروحوا كل تعبهم…وبتسرقوا سياراتهم وبتشفطوا فيها بينهم لتعملوا عجقة تخنقهم وما يوصلوا لبعد ساعات ع غرفة بقبو مكومين ونازحين فيها”.
ومع الدموع من الجالسين في السرفيس، يحاول أحدهم إسكات العجوز خوفًا عليه من غدر ذاك العنصر، ولكنه يشير له ساخرًا “اتركه يحكي.. مسكين مجنون.. سافروا ولاده وتركوه لحاله حتى جن”، وفعلًا يتابع “ولادنا اللي بدهم بالسراج والفتيلة يدوروا ع عروس عذراء ما ضحك عليها واحد منكم.. وأنتو مستبيحين الأعراض.. ولادنا وأحفادنا منخجل ناخدهم ع الحدائق ومنخاف ع أخلاقهم بعد ما احتليتوها بأبشع الجلسات مع البنات بدون لا خجل ولا حياء ولا دين… ولادنا اللي لازم يتركوا جامعاتهم ومدارسهم لأنو بكل مقعد في عوايني أو عنصر أمن ناطرهم ع الكلمة.. وولادكم بياخدوا الوظايف والمناصب والرواتب.. ولادنا اللي لازم يغرقوا بالبحر وهنن هاربين منكم ومن بطشكم.. ويموتوا خنق بالسيارات مع المهربين.. أو يبقوا محاصرين بين موت هارب منهم وموت ناطرهم ع الثانية.. أنتو من عمركم عايشين ع الفتات. ورح تبقوا هيك.. وولادنا رح يرجعوا”.
لا أجد متسعًا من مكان في هذه المقالة لأستعرض شهادات أناس عانوا أو عاينوا مثل هذا العري الأخلاقي في دمشق، لا لقلة القصص، وإنما حفاظًا على ما تبقى من كرامة مهدورة قد داسوها تحت أقدام ذاك البوط العسكري، كما داسوا بها رقاب آخرين كثر، ورأفة بالإنسانية والتاريخ بأن يدونا مثل هذه القصص في جعبتيهما، أمام التعرّي بكل أبعاده، والحرب الأخلاقية التي تشهدها دمشق.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :