سوريا تصدّر “الرابسودي”.. لا “الكبتاجون”
نبيل محمد
تهرب الأعمال الفنية الخارجة من سوريا إلى بلدان أخرى دائمًا نحو التاريخ، فهو الملجأ الذي يحمل قيم الأصالة والحضارة والتعايش بعيدًا عن الراهن، وهو البيئة التي يمكن فيها ترديد جُمل التمجيد المكررة لهذا البلد التعيس بكل تفاصيل حاضره. في التاريخ فقط يمكن الحديث عن سوريا الحضارة والموسيقا والأبجدية الأولى والياسمين، وغيرها من التوصيفات الرنّانة التي تتسوّل باستخدامها مؤسسات هذا البلد الاحترام والتقدير في الخارج، حيث لا يخفى ما تعيشه سوريا اليوم على أحد.
“الرابسودي السوري” عمل موسيقي فني وُصِفَ بالضخم، قدّمه مئة موسيقي سوري على خشبة “اليوبيل” في “إكسبو دبي 2020” قبل أيام. عمل ألّفه إياد الريماوي وقاد “الأوركسترا” فيه ميساك باغبودريان ذو التجربة الطويلة في قيادة الفرقة السيمفونية الوطنية في سوريا. عمل يبدو من اسمه أنه يبحث في التاريخ عن مكامن الجمال والأصالة، وينسلخ كليًا عن الحاضر من محض ضرورة مباشرة تتيح لوزيرة الثقافة السورية القول قبل إطلاق العمل، إنه قادم من دمشق “التي ترفل بثوب إنساني ناصع لتجوب الآفاق وتمطر خيرًا وإبداعًا. سنكون اليوم موشحين بثقافة جمعت الحسنيين، الأصالة والتجدد”، فكيف لعمل قادم من دمشق أن يرفل بشيء من الجمال ما لم يكن ضاربًا في التاريخ، وهل هناك ما يمكن التغني به إلا التاريخ وإمكانية المبالغة بصوغ حكايته بالطريقة السورية الرسمية المعتادة.
يتنقّل العمل موسيقيًا بين القديم المتمثّل بترنيمة “نيكال” المكتشفة في أحد ألواح أوغاريت الطينية، والتي تعود وفق المؤرّخين إلى 1400 سنة قبل الميلاد، إلى الترانيم السريانية الكنسية وصولًا إلى الموسيقا الصوفية الإسلامية بغناءين فردي وجماعي، يدمجان بين موسيقا “أوركسترالية” تتنقّل بين هويتين غربية وشرقية، تصل إلى حدّ المزج في القطعة الواحدة بين الغناء “الأوبرالي” والأدعية الصوفية، تمتد عبر أكثر من 40 دقيقة، قيل إن مؤلفها استهلك تسعة أشهر في العمل لإنتاجها، فيما تكفّلت المؤسسات الرسمية السورية في إضفاء الاستثنائية والملحمية على العمل، وتقديمه وكأنه أسطورة جديدة خارجة من رحم بلاد المعاناة التي ما زالت صامدة، كأي منجز سوري ينتجه القطاع الرسمي السوري أو المؤسسة التي تعمل بإمرته كـ”الهيئة السورية للتنمية” التي أُنتِج “الرابسودي السوري” بدعمها.
لو أن هذا العمل عُرض على خشبة “دار الأسد” في دمشق لمرّ دون أثر، كغيره من الأعمال الفنية والموسيقية التي تُقدَّم بين حين وآخر في المناسبات الكثيرة التي يجدد فيها النظام السوري علك التاريخ وتقديمه بطريقة مستهلكة بين حين وآخر، لكن حضوره في محفل عالمي كـ”إكسبو دبي”، بعد عزلة طويلة عانتها سوريا خلال السنوات السابقة، لتجد بعدها متنفسًا نسبيًا من خلال الإمارات، يمكنها من خلاله أن تعيد أسطوانة التاريخ نفسها، لتطلب من جمهور “إكسبو دبي” إعادة النظر إليها كبلد ضارب في الحضارة، حيث ما الراهن سوى مرحلة يمكن عبورها.
لا شيء استثنائيًا في “الرابسودي السوري”، ولطالما قدّمت الموسيقا الجماعية في سوريا أعمالًا مشابهة، وعلّها تتفوق على هذا العرض، من خلال فرق رقص و”أوركسترات” متعددة، فكم كان حفل افتتاح مهرجان “دمشق” السينمائي سنويًا يحمل عروضًا موسيقية بسويّة فنية مماثلة، بل وأكثر إبهارًا، وبالتأكيد كان دائم الرجوع للتاريخ، المورد الذي لا ينضب للأنظمة التي لا تمتلك شيئًا تسوقه في بلادها سوى تاريخ عريق، اهترأت صفحات كتبه من كثرة تقليبها والتمحيص بها بحثًا عن تفصيل لم يتم الاستناد إليه بعد للحديث عن ملحمة سورية.
سيبتسم من يرى سوريا في “إكسبو 2020″، وتتردد إلى مسامعه موسيقا “الرابسودي”، وسيتساءل عن أي شيء يمكن لسوريا أن تقدمه في الخارج اليوم إذا لم تهرب إلى الحضارات القديمة، بالتأكيد لن يجد سوى “الكبتاجون”، إنه “الرابسودي السوري” المعاصر الذي يجتاح دول المنطقة، التي لا يجد بعضها بدًّا من فتح الأبواب لعودة النظام السوري الميليشيوي إلى حياته الطبيعية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :