عنب بلدي – زينب المصري
عبر قناته في تطبيق “تلجرام”، طرح قسم “الأبحاث والدراسات” في شركة استثمارات محلية بسرمدا شمالي سوريا، استفتاء حول تحويل مدينة إدلب إلى مجتمع غير نقدي، كأحد الحلول لمشكلة التضخم وارتفاع الأسعار، وعدم القدرة على ضبطها بسبب تداول عملتين، الليرة التركية والدولار الأمريكي.
الأهالي في إدلب والشمال السوري عامة يشتكون من الغلاء، بسبب ارتهان أسعار السلع والمنتجات بسعر صرف الدولار الأمريكي مقابل الليرة التركية التي عانت من انخفاضات عديدة خلال الأشهر القليلة الماضية، قبل أن تستقر عند سعر 13.5 ليرة تركية للدولار الواحد تقريبًا.
وكانت حكومة “الإنقاذ” العاملة في إدلب وأجزاء من ريف حلب الغربي، اعتمدت الليرة التركية كعملة للتداول في حزيران 2020، ومنعت منعًا باتًا التعامل بالليرة السورية في تموز 2020.
ومنذ ذلك الحين، لم تُحل مشكلة التضخم والغلاء بسبب عدة عوامل، أبرزها شراء التجار البضائع بالدولار الأمريكي وبيعها بالليرة التركية، وغياب الفئات النقدية الصغيرة من كلتا العملتين.
المجتمع اللا نقدي أو المجتمع غير النقدي هو حالة اقتصادية تتم فيها المعاملات المالية وتبادل الأموال بين الأطراف المتعاملة من خلال الوسط الإلكتروني (نقل بيانات رقمية)، عوضًا عن إجراء المعاملات بأموال في شكل أوراق نقدية أو عملات معدنية مادية.
توجد المجتمعات غير النقدية منذ ظهور المجتمعات البشرية، إذ كان الاعتماد على المقايضة وطرق التبادل الأخرى، وفي العصر الحديث، صارت المعاملات غير النقدية ممكنة باستخدام بطاقات الائتمان وبطاقات الخصم والمدفوعات عبر الهواتف المحمولة والعملات الرقمية. |
وسائط دفع مركزية
شارك في الاستطلاع الذي طرحته شركة “نماء” للاستثمارات 2118 شخصًا، أيّد 41% منهم فكرة تحويل إدلب إلى مجتمع غير نقدي، و26% لم يؤيد الفكرة، بينما صوّت 33% من المشاركين لخيار “لا أعلم”.
وجرت مشاركة هذا الاستطلاع ونقاشه في مجموعات اقتصادية عبر تطبيقات التواصل الإلكترونية، أُرفق في إحداها بتوضيح مفاده أن البائع في الشمال السوري، يحسب، في المعاملات العادية، ثمن البضائع عند بيعها بحسب تصريف الدولار بالنسبة إلى الليرة التركية، إذ يشتري بضاعته بالدولار بينما يبيعها بالليرة.
وإذا أراد المشتري دفع ثمن مشترياته بالدولار، سيعود البائع لحساب قيمة “الفكّة” بالليرة التركية، إذ لا توجد فئات نقدية صغيرة للدولار الأمريكي متداولة في الشمال، ولن تكون عمولة التصريف متساوية في كلا الأمرين، إذ لن يبيع التاجر الدولار بسعر ما يشتريه، وسيكون الزبون خاسرًا في كلتا العملتين.
وحمل التوضيح اقتراحًا كتفعيل خدمة الائتمان التجاري حتى أصغر التعاملات، كأن يشتري الشخص حاجياته كلها ولا يدفع ثمنها، لكن تسجل عليه بالدولار، ليسدد المستحقات المتراكمة عليه عند بلوغها حدا معيّنًا أو زمنًا ما، أو أن يطرح التجار بطاقات مسبقة الدفع لتُحسم منها مشتريات الأفراد حتى يتم استهلاكها بالكامل.
كما استعرض فكرة إنشاء بطاقات أو وسائط دفع مركزية أشبه ما تكون بالعملة أو الرصيد البنكي، ليتم دفعها عند الحاجة لأي جهة، مع إلزام جميع الجهات بقبول وسيلة الدفع هذه، علمًا أن العملة المعتمدة هنا يجب أن تكون الدولار الأمريكي.
وحتى تكون وسيلة الدفع هذه سهلة الاستعمال وشائعة بين الناس، يجب ربطها بالهواتف المحمولة، لا أن تكون بطاقات ائتمانية (credit card)، إذ تستلزم البطاقات الائتمانية وجود قارئ في كل محطة ومحل يتعامل بخدمة الدفع الإلكتروني، بينما لا يستلزم الدفع عبر الهاتف المحمول سوى وجود حساب وورقة صغيرة عليها رمز “RQ-cod” مميز لكل محفظة إلكترونية، وهي الوسيلة المعتمدة لتداول جميع العملات الرقمية.
حلول ممكنة؟
عنب بلدي ناقشت مع وزارة الاقتصاد والموارد في حكومة “الإنقاذ”، والباحث في الاقتصاد السياسي الدكتور يحيى السيد عمر، إمكانية العمل بهذه الاقتراحات في الشمال كحلول لمشكلة التضخم، ولإنهاء حالة عدم ثبات الأسعار، وارتفاعها مع ارتفاع سعر صرف الدولار الأمريكي أمام الليرة، وبقائها ثابتة عند انخفاض سعر الصرف.
وقال الباحث يحيى السيد عمر لعنب بلدي، إن أهمية التوجه إلى الاقتصاد اللا نقدي تزداد على مستوى العالم أجمع، وبعض الدول قطعت أشواطًا مهمة في هذا المجال، وتعد سنغافورة الدولة الأولى في العالم من ناحية نسبة تعاملها بالاقتصاد اللا نقدي، فنسبة الدفع الإلكتروني فيها تبلغ 61%.
ويقصد بالاقتصاد غير النقدي، تعزيز التبادل التجاري الإلكتروني وتقليل التعامل بالنقد الورقي التقليدي، وله فوائد عدة، منها معالجة مشكلة التهرب الضريبي، ومكافحة تمويل الإرهاب وتبييض الأموال والتجارة غير المشروعة، وغيرها من الفوائد.
وحول فرص نجاح التوجه نحو اقتصاد غير نقدي في الشمال السوري، أضاف السيد عمر أنه حل من حيث المبدأ، ولكنه ليس حلًا جذريًا، ومن حيث التطبيق، لا يمكن أن ينجح، فالشمال السوري لا يملك بنية تحتية تكنولوجية، ولا يملك بنوكًا، وحتى في حال توفر البنوك، فإن نسبة الأفراد المتعاملين معها شبه معدومة، لذلك فهذه الفكرة غير صالحة للشمال، وفقًا للسيد عمر.
من جانبه، قال مدير العلاقات العامة في الوزارة، حمدو الجاسم، لعنب بلدي، إن اعتماد البطاقات الائتمانية وغيرها، وربطها بالجوال، تقنيات موجودة في العديد من الدول في أنحاء العالم، وهي مطبّقة سواء كانت في دول متقدمة أو دول نامية، ولا يوجد مانع من تطبيقها ضمن مناطق الشمال، ولكن المشكلة في الشمال هي مشكلة فقر وبطالة مرتفعة.
وأضاف أن حكومة “الإنقاذ” مثلها مثل أي حكومة موجودة في العالم، تعمل على تهيئة بنية تحتية مناسبة للاستثمار، سواء كان في القطاع الصناعي أو الزراعي أو الخدمي، وإحدى هذه البنى التحتية المهمة التي يمكن استعمالها هي قطاع الاتصالات، إذ تعمل الحكومة عبر المؤسسة العامة للاتصالات، وقطعت مراحل جيدة في الربط الشبكي ضمن “المحرر”.
وأوضح أن العديد من التعاملات غير النقدية متوفرة في البنوك الموجودة بالشمال، وذلك عبر بطاقات أو خدمات دفع إلكتروني، إذ إن العديد من المؤسسات الحكومية والخاصة متعاقدة مع البنوك، ويتم العمل بموجب بطاقات الدفع وعبر الحسابات البنكية الجارية.
ظهرت “المؤسسة العامة لإدارة النقد” في محافظة إدلب شمال غربي سوريا لأول مرة للعلن في 11 من أيار 2017، بعد إعلان “هيئة تحرير الشام” عن تأسيس “المؤسسة العامة لإدارة النقد وحماية المستهلك”، بهدف تنظيم عمليات الصرافة ومنع الاحتكار والتلاعب بأسعار العملات.
وتُعنى المؤسسة بإدارة حركة النقد ضمن “المناطق المحررة”، وهي مسؤولة عن متابعة عمل شركات الصرافة والحوالات المالية، وعن منح تراخيص لجميع شركات الصرافة والحوالات المالية في تلك المناطق.
وفي عام 2018، أنشأت “هيئة تحرير الشام” بنك “الشام” في مدينة إدلب، بعد تحويل شركة “الوسيط” للحوالات المالية التي كانت تديرها إلى بنك مالي، موقعه “البنك الصناعي” سابقًا.
وتتوزع أفرع مؤسسة البريد والشحن التركية (PTT)، التي تُعد بمثابة بنك تركي بالشمال السوري، في 11 مدينة بريف حلب الواقع تحت سيطرة “الحكومة السورية المؤقتة”، ولا يوجد أي فرع في مناطق سيطرة حكومة “الإنقاذ”.
وتوفر مراكز البريد إمكانية فتح حسابات شخصية بنكية، يمكن للمواطن إيداع أمواله فيها أو سحب المبالغ المودعة في أي وقت، كما يتم من خلالها تسليم معاشات الموظفين، إذ مُنح الموظفون في تلك المناطق، من معلمين وشرطة وموظفي مجالس وأطباء وخطباء، بطاقات مصرفية لسحب رواتبهم، بالإضافة إلى خدمات الحوالات النقدية والشحن الخارجي.
وتحويل التداول في أي مجتمع إلى تداول غير نقدي يحتاج إلى عمل كثير وإلى تغيير الوعي لدى الأهالي، بحسب الجاسم، كما يحتاج إلى عامل الثقة بين المؤسسات المالية الموجودة والأهالي والأشخاص والشركات والمستثمرين في مناطق الشمال.
ولكن أهم عائق لهذه الخطوة هو الفقر، إذ إن نسبة كبيرة من الأهالي تعيش تحت خط الفقر، الأمر الذي يحول دون تطبيق هذه التقنية، بحسب الجاسم الذي أشار إلى أن الحكومة تعمل على “تذليل العقبات” أمام هذه المشاريع، وأمام بنية تحتية شاملة تخدم المجتمع غير النقدي، ولكنها تحتاج إلى الوقت.
ما أسباب التضخم؟
يعود التضخم الموجود في الشمال السوري إلى سببين، الأول، انخفاض قيمة الليرة التركية أمام الدولار لتصل إلى حوالي 13 ليرة للدولار، بعد أن كانت قيمة الدولار في بداية العام حوالي ثماني ليرات.
والسبب الثاني هو الطلب العالمي المتزايد وأزمة الطاقة العالمية، وأيضًا الأزمة الموجودة على السلع الأساسية، ما أدى إلى ارتفاع في أسعار معظم السلع، وهذا أدى إلى تضخم في الأسعار، بحسب حمدو الجاسم.
وأوضح الجاسم، أن شراء التجار البضائع بالدولار وبيعها بالليرة التركية، هو سبب من أسباب التضخم وتخفيض التحويلات المالية بين عملة وأخرى، يؤدي إلى تخفيض الأسعار نسبيًا.
تضخم مستورد
لا يمكن البدء بحل مشكلة التضخم في الشمال قبل الوقوف على أسبابها، بحسب ما قاله الباحث الاقتصادي يحيى السيد عمر، فالحل في جوهره هو حل للأسباب.
ومن أهم أسباب التضخم في الشمال التضخم في مناطق النظام، وهذا ما يسمى بالتضخم المستورد، ففي الواقع لا يمكن فصل اقتصاد الشمال عن اقتصاد النظام فصلًا تامًا، فرواتب المتقاعدين والحوالات المتبادلة والتهريب، كلها نقاط تقاطع، لذلك ينتقل التضخم من مناطق النظام إلى الشمال.
وفي ذات الوقت، تعاني تركيا من معدل تضخم مرتفع، واقتصاد الشمال السوري مرتبط بقوة بالاقتصاد التركي، لذلك يتم استيراد التضخم من تركيا، وتأثير التضخم التركي يفوق نظيره في مناطق النظام، بحسب ما أضافه الباحث.
وفيما يتعلق بتأثير الليرة التركية والدولار على التضخم، فالدولار لا يؤثر، والليرة التركية تؤثر ليس من منطلق أنها عملة، ولكن من منطلق أنها ناقلة للتضخم من تركيا.
وأمام هذه الاقتراحات الاقتصادية وإمكانية تطبيقها، يواجه السوريون في الشمال وفي مختلف المناطق السورية على اختلاف الجهات العسكرية المسيطرة صعوبات اقتصادية ومعيشية، ويعيش نحو 90% منهم تحت خط الفقر، بحسب إحصائيات أممية.