خطيب بدلة
هناك فروقات شخصية بين البشر. واحد كريم، يقولون في الأمثال إن “اللقمة الواصلة إلى فمه، ليست له”، يعني، إذا كان على وشك يدحش اللقمة في مشداقه، ورأى إنسانًا محتاجًا، يحول مسار يده، ليضعها، بحنان، في فم المحتاج. وهناك البخيل، الكحتة، قبحه الله، الذي إذا كانت حرارته أربعين وشحطة، وثمة رجل بردان، تلزمه شحطة واحدة لتكتمل حرارة جسمه، لا يعطيه الشحطة، حتى ولو كانت الحرارة ستهلكه.
سأتحدث في هذه المساحة الصغيرة من صحيفة “عنب بلدي” عن شخصين، عرفناهما خلال السنوات الأخيرة. الأول، واسمه، فرضًا، “محمد”، أصله من ريف دمشق، أبوه غني جدًا، ثروته طائلة، ورزقه على عرض الدروب. عندما أصبح على فراش الموت، جمع أولاده، وأوصاهم بطاعة الله، والرسول، وأولي الأمر، وقال لهم إنه يشفق عليهم من دخول المحاكم، والسجلات العقارية، وجشع الموظفين والمحامين والقضاة ومقطعي الدعاوى، لذا قرر أن يعطي كل واحد منهم ميراثه بيده، (هذا مالَك، والله بدالَك). وأومأ الرجل المحتضر بإصبعه، فحضر أمامه رجال أولو عزم، أحضروا لكل واحد من الأولاد بضعة زنابيل ملأى بالدولارات المشدودة بشرائط مطاطية صفراء، وكلها طازجة، مكتوب عليها “نحن نؤمن بالله”، بالإضافة إلى خاتم البنك المركزي الأمريكي الذي بحجم نضوة الجحش، وبلا طول سيرة، كانت حصة كل واحد من الأولاد عشرة ملايين دولار وكسور.
الرجل الثاني من درعا الثورة والصمود، اسمه “أحمد الفاتح”، مات والده قبل أن يتمكّن من جمع أبنائه وتوزيع الميراث عليهم مثلما فعل “محمد”. المهم، اجتمع الأشقاء والشقيقات، بعد انتهاء مراسم التعزية، وحمدوا الله على العز الذي خلفه والدهم، إذ لم يبقَ كبير أو صغير في المنطقة إلا وقدم لهم واجبات العزاء، وهم لم يقصروا بذبح الخرفان والعجول والجدايا، وإحضار الشعيبيات والكنافة أم النارين، ناهيك بالشاي والقهوة العربية، وهكذا حتى جاء دور الميراث، والمشايخ يقولون إن التوارث حلال، والمثل يقول “تعاطوا كالأمراء وتحاسبوا كالأعداء”. وبلا طول سيرة، كانت حصة الواحد منهم حوالي 15 مليون دولار، لها نفس المواصفات، من حيث المطاطات الصفراء، والأختام التي تشبه النضوة.
ودارت الأيام، ومرت الأيام، وقامت في البلاد ثورة. نحن السوريين، أبناء المناطق الوسطى والساحلية والشرقية والشمالية، لم نكن نعرف شيئًا عن ذينك الرجلين الثريين، “محمد”، و”أحمد الفاتح”، لولا الثورة المباركة، وقد فاتني أن أحكي لكم، أن الرجلين، كليهما، يتمتعان بمواصفات قيادية بارزة، وأخلاق وطنية وإسلامية عالية، ولذلك سرعان ما احتلا مكانيهما اللائقين في قيادة الأمة الثائرة ضد الفسوق والضلال والديمقراطية والعَلمانية، ولكن، في هذه البرهة التاريخية الفارقة، بدأت الفروقات بين الرجلين من حيث الكرم والبخل تظهر للعيان. فالأخ “محمد” لديه قناعة بأن الإنسان يجب أن يداري نعمة الله، ولا يبعزقها على الذي يسوى والذي ما يسواش، وصار يشتري مطعمًا هنا، وقصرًا هناك، من مال أبيه طبعًا، وأما “أحمد الفاتح” فقد ظهر أن كفه مبخوش، لا يمسك مالًا، وآخر موقف شهدناه له، تبرعه بمليون دولار لأجل بناء بيوت للاجئين، من مال والده طبعًا.