طاولة بوتين الطويلة

  • 2022/02/13
  • 10:05 ص

إبراهيم العلوش

أثارت الطاولة التي استقبل بها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ضيفه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، سخرية الصحافة، ووسائل التواصل الاجتماعي منذ 7 من شباط الحالي، فالطاولة البيضاء التي كانت أطول من سنة الجوع، بدت وسيلة دبلوماسية غريبة من رئيس متسلّط وغريب الأطوار.

تناولت الصحف الطاولة على شكل متاهة تصل بين الرئيسين حسب غلاف “الليبراسيون” الفرنسية، وفي “الميديا” كانت عبارة عن لعبة أطفال يتمرجح بها رئيسان في لعبة التوازن التي كثيرًا ما نراها في حدائق الأطفال، وفي إحدى الصفحات الاجتماعية، بدا الرئيسان وهما يتحدثان بمكبرات الصوت من أجل أن يسمعا بعضهما بعضًا، ولا شك أنكم رأيتم المزيد من التعليقات الساخرة عن تلك الطاولة.

لم يفرغ الرئيس الروسي من تدمير سوريا بعد، فطائراته لا تزال تبحث عن المستشفيات والمدارس والأسواق الشعبية، ولم يلتفت أي من الرؤساء الغربيين للتفاوض مع الإجرام الروسي ضد الشعب السوري، فأوكرانيا التي وصل الرئيس الفرنسي ماكرون للدفاع عنها ومنع اجتياحها من قبل الرئيس الروسي المتعطش للمجد والانتصارات، هي جزء من أوروبا وتوشك أن تدخل في حلف “الناتو”، بينما سوريا تم تركها صيدًا دمويًا يتسلى به الروس ويسترجعون بها أوهام الاتحاد السوفييتي المندثر.

التدخل الروسي في سوريا في أيلول 2015 كان محاولة للبرهان على أن روسيا تستطيع أن تتحدى العالم الغربي، فبعد احتلالها جزيرة القرم 2014، باشرت باحتلال سوريا لفتح طاولة التفاوض مع الغرب، لكنّ أيًا من الرؤساء الغربيين لم يلتفت إلى التفاوض مع بوتين حول سوريا، وتم ترك بوتين وحده على الطاولة البيضاء الطويلة بانتظار الرئيس الأمريكي أو أي رئيس غربي للتفاوض على سوريا.

لا شك أن القسوة الدبلوماسية مع الرئيس الفرنسي والتعامل الخشن له خلفياته، فالرئيس بوتين قد يكون سمع من ضيفه الغربي كلامًا لا يعجبه، وتهديدات جادة ولا يمكن تجاهلها، حتى لو لجأ بوتين إلى الصين والتحق بمعسكرها ضد الغرب، ووقف صفًا واحدًا هناك خلف القيادة الصينية مع الخامنئي ومادورو وخليفة حفتر وبشار الأسد ومراهقي العداء للغرب الآخرين.

رغم الحشود العسكرية الروسية قرب أوكرانيا، فإن الغرب استطاع أن ينقل المواجهة مع الروس خلال 30 عامًا من جدار برلين في وسط أوروبا إلى جزيرة القرم الأوكرانية، ولم تفلح القوات الروسية عندما احتلت سوريا في نقل خط المواجهة بعيدًا عنها إلى سوريا، لأن الغرب ببساطة لم يلتفت إلى الشعب السوري، ولم يحاول إنقاذه من النازية الروسية، ولا من الفاشية الإيرانية التي تبحث في قمامة التاريخ عن ثارات مثيرة للتقزز.

لماذا ترك الرئيس الروسي ضيفه الفرنسي خلفه ولم يقم بواجب الضيافة ومرافقته عند الخروج، ولماذا طُرد المترجمون من حول الطاولة البيضاء الطويلة، أسئلة تثير الكثير من التكهنات، وتسلّط الضوء على حجم الضغط الغربي على بوتين الذي قد يفهم أن الذهاب إلى أوكرانيا ليس كالذهاب إلى سوريا.

لقد نقل الرئيس الفرنسي تفاصيل التهديدات الغربية التي أثارت حفيظة بوتين وجعلته يتصرف بعدم اللباقة، ولعل من أبرز تلك الضغوط وقف استيراد الغاز الروسي، وخلق بدائل عنه من أمريكا ومن الجزائر ومن قطر، ولن تكون المشتريات الصينية كافية لتعويض الخسائر المنتظرة، خاصة أن مجرد التهديد بالحرب الأوكرانية جعل البورصة الروسية تخسر الكثير من قيمتها.

ولعل الرئيس الفرنسي نقل لنظيره الروسي أن غزو أوكرانيا لن يجعل الغرب يخوض حربًا مع روسيا، ولكن الخسائر الروسية ستكون أكبر من أن يتصورها الرئيس الذي يوشك أن يرتدي حلة الجنرالات للإشراف على الحرب المحتملة.

هل سيعود الرئيس الروسي صاغرًا ويترك الحرب في أوكرانيا ويتسلى بالقصف اليومي في سوريا، حيث يبدد بعض قلقه ويعينه ذلك على الشعور بالعظمة المفقودة؟

لن تظهر النتائج إلا مع نهاية شباط الحالي، بسبب الأجواء الباردة المناسبة لعبور الدبابات إلى كييف العاصمة الأوكرانية واحتلالها، فروسيا قادرة على احتلالها في غضون 72 ساعة كما تقول التقديرات الغربية، فالقوات الجوية الأوكرانية لا تشكّل إلا 10% من قوات روسيا، وثمة فارق كبير بالتعدادات العسكرية الأخرى التي ترجّح التفوّق الروسي، ولكن هذا التفوّق لن يضمن لها النصر، ولن يبقي أوكرانيا بلدًا مجاورًا صديقًا، بل سيكون بلدًا مثيرًا للاضطراب والحروب ضد روسيا، خاصة أن حروب القرم لها تاريخ طويل منذ منتصف القرن الـ19، وهي التي قهرت روسيا وأبقتها خنيقة خلف ضفاف البحر الأسود، عندما أعان الغرب الدولة العثمانية في حربها ضد روسيا آنذاك، وكان لفرنسا دور كبير في هزيمة الروس وفي حصار ميناء “سيفاستوبل” بالقرم الذي كتب عنه ليون تولستوي. وليس من المصادفة أن يأتي الرئيس الفرنسي في السيناريو المحتمل لحرب القرم المقبلة، وأن يحمل التهديد الغربي بنفسه، بعد أن طردت، قبل أيام، قوات “فاغنر” الروسية السفير الفرنسي من مالي، المستعمرة الفرنسية السابقة.

على الصعيد السوري، فقد مات عدد كبير من السوريين في حروب القرم 1853- 1856، ولن تجد عائلة سورية واحدة ليست لها ذكريات بعيدة عن حرب القرم، رغم مرور أكثر من قرن ونصف عليها، واليوم قد تموت أعداد أكبر من السوريين نتيجة حروب روسيا ضد أوكرانيا وضمّها لجزيرة القرم، وصار ميناء “اللاذقية” المحتل من قبل روسيا هو الميناء الوحيد الذي يتعامل مع مواني القرم المحتلة من قبل روسيا أيضًا، فهل كانت سوريا وموانيها ومصير شعبها على طاولة التفاوض البيضاء الطويلة في “الكرملين”؟

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي