داريا… توالت الأعوام ومازال العنب ثائرًا

  • 2013/01/06
  • 9:11 م

داريا…. تلك المدينة الريفية العريقة، والتي تقع إلى الجنوب الغربي من مدينة دمشق وهي عاصمة الغوطة الغربية. ذكرت في التاريخ حين قاوم معين الدين الفرنجة. أقام ومات ودُفن فيها العديد من التابعين والعلماء كأبي مسلم الخولاني أبي سليمان الداراني، كما أنها تحتضن مقام نبي الله حزقيل عليه السلام أحد أنبياء بني اسرائيل.  وكلمة داريا أصلها سرياني، وتعني البيوت الكثيرة، والنسبة إليها داراني.

وتضم داريا في نسيجها الاجتماعي انموذجًا للتعايش بين الطوائف، ففي داريا تتطابق الواجبات والحقوق بين المسيحيين والمسلمين، وتتشارك قلوب أبنائها من كلتا الطائفتين مشاعر الفرح والحزن في كل مناسبة.

كان لداريا حضور قوي منذ بداية الثورة السورية، في آذار من عام 2011 والتي جوبهت بآلة القمع والنار والحديد الأسدية، لكن أشد المتشائمين لم يكن يعتقد بأن العام الذي يليه (2012) ستصل فيه  دموية ووحشية النظام إلى المستويات التي شهدها. وكان لمدينة داريا من هذا التحول في المسار الثوري مركزٌ متقدم، حيث شهدت مدينة داريا خلال هذا العام أحداث مفصلية

 

داريا.. وإحصائيات 2012

شهدت داريا خلال العام المنصرم أحداثًا مؤلمة ترافقت مع زيادة كبيرة في أعداد الشهداء والمعتقلين والمفقودين.

• شهداء داريا 2012:

استقبلت مدينة داريا سنة 2012 بالشهداء، فكان تيسير حبيب أول شهدائها في 1/1/2012، كما ودعته بالشهيد محمد حامد رجب في 31/12/2012.

وبلغ عدد الشهداء خلال العام 2012 ما مجموعه 1118 شهيدًا.

إذ استشهد في الربع الأول 39 شهيدًا،

واستشهد في الربع الثاني 55 شهيدًا. بينما كان للربع الثالث الحصة الأكبر من الشهداء إذ بلغ عددهم 623 شهيدًا (معظمهم شهداء المجزرة التي ارتكبتها قوات النظام أواخر شهر آب 2012).

واستشهد في الربع الرابع 401 شهيدًا.

• معتقلو داريا 2012:

بلغ عدد المعتقلين من أبناء المدينة  خلال العام 2012 – والذين لايزالون في سجون النظام- أكثر من 830 معتقلًا، ويضاف إليهم 70 معتقلًا لازالوا قيد الاعتقال منذ العام 2011، ليتجاوز عدد المعتقلين من أبناء المدينة الـ 900 معتقل مع بداية العام 2013.

• المفقودون في 2012

بعد وقوع المجزرة المروعة الكبرى في مدينة داريا ارتفعت أعداد المفقودين لتسجل أرقامًا تعتبر من أضخم أعداد المفقودين المسجلة على مستوى سوريا. حيث بلغ عدد المفقودين حوالي 118 مفقود بينهم إمرأتين. وهذا العدد مرجح للزيادة مع تكشف آثار جرائم النظام في ظل الحملة العسكرية الحالية على داريا والمستمرة منذ ما يقارب الشهرين.

• النازحون:

ارتبط النزوح من مدينة داريا بازدياد وحشية النظام ودمويته في الربع الثالث من العام 2012، حيث لم تشهد المدينة حالات نزوح للعائلات حتى أواخر شهر آب الذي شهدت فيه داريا ارتفاع حدة القصف عليها، وبعد ذلك اقتحام المدينة وارتكاب مجزرة داريا الكبرى، حيث شهدت المدينة ارتفاعًا طفيفًا في أعداد النازحين، لتصل مع منتصف تشرين الثاني إلى أكثر من 90 % من سكان المدينة، حتى وصل عدد أبناء المدينة الذين لم يغادروها حوالي 7500 شخص فقط من أصل ما يقارب 275000 نسمة. وتشهد العديد من مناطق النزوح مشاهد مأساوية لأحوال النازحين من أبناء داريا، تترافق مع صمت رهيب من المجتمع الدولي على الرغم من التقارير المتتالية حول تدهور الأوضاع الإنسانية في أماكن النزوح، وحول التضييق الأمني والحصار على النازحين في أماكن نزوحهم واعتقال أعداد كبيرة منهم.

داريا والحراك السلمي

طوال تاريخها كانت داريا مدينة مسالمة تستوطنها الوداعة، وتستمد من طبيعتها الرائعة وترابها الخصب ملامحَ بلد يحب الحياة. وكان لابد لهذه السمات من أن تكون عنوان حراكها الثوري، وقد أصبحت رمزًا من رموز الحراك السلمي في سوريا. فمع بداية 2012 أعلن ثوار المدينة إصرارهم على المضي في درب الحرية، ورفعوا في أول أيام عامهم الجديد علم الاستقلال على سارية في قلب المدينة تحضيرًا لاستقبال لجنة المراقبين العرب والتي لم تصل في ذلك اليوم وإنما كانت قوات الأمن وشبيحة النظام هي الضيف الغير مرغوب به ليسقط شهيدان وعدد من الجرحى.

واستمرت المظاهرات والتي كانت تخرج بشكل شبه يومي. ويوم السبت 4/2/2012 تحوّل تشييع بعض شهداء المدينة إلى مجزرة مروعة، والتي كانت أولى المجازر في المدينة والتي تمت تسميتها بمجزرة السبت الأسود أو السبت الدامي والتي راح ضحيتها 17 شهيدًا من شباب المدينة.

كما شهدت المدينة حراكًا نسائيًا متميزًا، واعتقِلت عدة ناشطات على خلفية الاعتصام النسائي للمطالبة بالمعتقلين. كما اشتركت المدينة بكل مكوناتها (الطلابية والتجارية وغيرها) في الإضرابات والعصيان المدني.

وكان للمدينة تميز واضح في بعض أشكال الحراك السلمي في حزيران وتموز 2012، من حملات تنظيف وترميم شوارع المدينة وتزيين الشوارع الرئيسية باللافتات التي تحمل رسائل التوعية المجتمعية. ومازالت المدينة تعلن حتى اليوم استمرار الحراك السلمي فيها من خلال المظاهرات التي تخرج كل يوم جمعة والتي يشارك فيها من بقي من أهالي المدينة والناشطين؛ رغم الحملة الهمجية التي تشنها قوات النظام على المدينة.

داريا والجيش الحر

شهد عام 2012 تحولًا في مسار الثورة السورية، تجلى بدخول الحراك المسلح إلى ساحة المواجهة مع النظام بسبب دموية النظام وممارساته اللأخلاقية، إضافة إلى ارتفاع أعداد المنشقين من صفوف جيش النظام وانضمامهم إلى الثورة.

هذا التحول في المسار الثوري كان لابد من انعكاسه على داريا، كيف لا؟ وهي من المدن السباقة في الثورة وصاحبة الموقع الاستراتيجي. وبدأت تتعالى الأصوات من بعض الناشطين بضرورة تسليح الحراك في داريا، خشية أن يقوم جند النظام ببعض الانتهاكات التي ارتكبوها في مناطق أخرى من البلاد، إضافة لمواجهة الإهانات المتكررة والمواقف المستفِزة التي كانت تقوم بها دوريات المخابرات الجوية عند دخولها الى المدينة. وقد لاقت هذه الدعوات قبولًا عند البعض وإحجامًا من الكثيرين ممن فضلوا المحافظة على سلمية الثورة في داريا.

وبدأت داريا تنتقل من ورودها وشعاراتها السلمية إلى التسلح والعسكرة. ولم يكن يوم 21/1/2012 يومًا عاديًا، إذ قام أفرادٌ من الجيش الحر باستعراض عسكري قاموا فيه بالتجول في داريا وهم يحملون السلاح الخفيف والمتوسط، ليكون هذا اليوم بداية تاريخ جديد في مسار الثورة في داريا. ومنذ  ذلك اليوم بدأ الظهور المسلح في داريا يتصاعد تدريجيًا، وكان الظهور في ذلك الوقت محدودًا، يتزامن مع خروج المظاهرات بهدف حمايتها، وبعض عمليات التصفية التي كان يقوم بها الجيش الحر ضد بعض عناصر الأمن كما حدث في 4/2/2012 وَ 26/3/2012، إلا أن هذا الظهور لم يبقَ محدودًا، حيث أن تطور التنظيمات والهيكليات لم يكن محصورًا بالعمل السياسي، بل امتد إلى المجال العسكري، فكان تشكيل كتائب الصحابة في دمشق وريفها والتي كان معظم قيادات كتائبها من رجالات الجيش الحر في داريا. وليشهد بعد ذلك شهر حزيران عملية نوعية قام بها أبطال الجيش الحر بنسف موكب الامن والشبيحة الذي دخل المدينة، فقضوا على معظم عناصر الموكب، وكانت هذه العملية أول إنذار بتعاظم حجم وقوة الجيش الحر في داريا.

لكن هذا التعاظم في القوة كان يشوبه الانقسام بين بعض قادة الحر، حيث شُكّلت في ذلك الوقت كتيبة الفيحاء إلى جانب كتيبة سعد التابعة لكتائب الصحابة. واستمرت الخلافات (أو عدم التوافق والتنسيق) بين قادة الكتيبتين في الوقت الذي لم تكن العصابة الأسدية لتقبل بوجود قوة عسكرية مجاورة لمركزها الأمني في مطار المزة، وفي المدينة التي لاتبعد عن وكر رئيس العصابة سوى بضعة كيلومترات. وكان الرد قاسيًا في شهر آب، حيث اقتحمت قوات الأسد المدينة في 25/8/2012 وعاثت فيها فسادًا وارتكبت بحق المدنيين مجزرة مروعة، مستفيدة من غياب التنسيق والانقسام الحاصل في صفوف الجيش الحر في داريا، وأخطائه في الانسحاب من المدينة يومها.

وبعد المجزرة والخسائر الفادحة، كان تصويب المسار أمرًا لا مفر منه، بل كان مطلبًا شعبيًا، وكان للشعب ما أراد. فشُكّلت هيئة قضائية لمحاسبة المستهترين والمخطئين في صفوف الجيش الحر، وحُلّت مشكلة الانقسام من خلال تشكيل كتيبة جديدة جامعة لكل عناصر الجيش الحر في داريا حملت اسم «كتيبة شهداء داريا» في إشارة إلى توحيد الصفوف والجهود وفاءًا لشهداء المدينة. وكان لهذا التوحيد الدور الأساسي في تصحيح الأخطاء وتحسين الأداء وهو ما نلمسه في نجاح كتيبة شهداء داريا في التصدي لمحاولات اقتحام المدينة من قبل قوات الأسد حتى اللحظة وهي تسطر أروع ملاحم البطولة، وتكبد العدو خسائر كبيرة في المعدات والأرواح.

داريا  والاعلام

توجهت الكثير من شاشات التلفزة والصحافة العربية والأجنبية لتكتب بتمعن حروف القصة الدارانية في ثورة الكرامة. هذا الظهور الإعلامي بدأ يتعاظم وخصوصًا بعد مجزرة داريا الشهيرة، وهي المجزرة الأكبر في تاريخ الثورة السورية، والتي ذهب ضحيتها أكثر من 780 شهيدًا بينهم أطفال ونساء، وفُقِد على إثرها الكثيرون. ولم يكن الحديث عن مجزرة داريا محصورًا في نشرات الأخبار وسطور الصحف، بل تناول المجزرةَ فيلمٌ وثائقي انتجته قناة الجزيرة وبمساعدة عدد من الناشطين والإعلاميين، والذي حمل اسم «داريا…. أخوّة العنب والدم» وهو الاسم الذي اختاره الثوار للجمعة التالية. كما تناولت قنوات أخرى شهيرة مثل فرانس 24 والعربية العديد من القضايا المتعلقة بمدينة داريا في نشراتها وبرامجها الإخبارية.

وكان لابد لناشطي داريا من أن يكون لهم مشروعهم الإعلامي الخاص بهم، والذي يسهم في بناء إعلام سوريا الحرة. فبدأ التحضير في كانون الثاني من عام 2012 لإصدار جريدة «دارانية» ولتكون بذلك انطلاقة «عنب بلدي» التي يقوم على إصدارها مجموعة من أبناء داريا وبناتها، دفعهم إلى ذلك حبهم لوطنهم ورغبتهم في المشاركة في الثورة والمساهمة في التأسيس لسوريا الجديدة القائمة على العدل والحرية والكرامة ولينتشر العنب الداراني في جميع أنحاء سوريا، فكانت الجريدة هدية أبناء داريا وبناتها إلى أبناء شعبنا على امتداد الوطن. وصدر العدد الأول من الجريدة الأسبوعية في شباط 2012، ولتتابع صدورها منذ ذلك الوقت دون انقطاع رغم كل الصعوبات والتحديات.

وفي أبرز تحديات الكلمة الحرة لآلة القتل والاستبداد الأسدية، صدر العدد 45 من عنب بلدي في 30/12/2012 وتمت طباعته ورقيًا وتم توزيعه في المدينة برغم ما تشهده من ظروف.

داريا مدينة العنب والدم

كان شهر آب 2012 هو الأقسى على داريا، حيث ارتكبت قوات النظام  اقسى واشنع المجازر في تاريخ الثورة السورية حيث اقتحمت قوات الاسد البربرية المدينة على خلفية  تعاظم الظهور المسلح في داريا وقيام كتيبة الفيحاء بقصف مساكن الفرقة الرابعة ومطار المزة العسكري والقصر الجمهوري بقذائف الهاون، وقدر عدد القوات التي اقتحمت المدينة بأكثر من 10000 جندي من قوات النخبة الأسدية كما أفادت العديد من الشهادات بوجود إيرانيين بين القوات النظامية، المجزرة راح ضحيتها أكثر من 700 شهيد، كان أحد أبرز معالمها اكتشاف أكثر من 140 جثة في مسجد أبو سلميان الداراني، وخلفت المجزرة أكثر من 150 مفقود بينهم نساء وأطفال، وتدمير العديد من المباني والمرافق الخدمية في المدينة

 

داريا والمجلس المحلي

كان أحد أهم ثمرات تصحيح مسار الثورة في داريا بعد المجزرة الوحشية أواخر آب 2012، توحيد الجهود والصفوف وصولًا إلى تأسيس المجلس المحلي لمدينة داريا. وهو المجلس الذي تم تشكيله من قبل ناشطي المدينة وعدد من الشخصيات الاجتماعية الداعمة للثورة. ويتألف المجلس من عدد من المكاتب المتخصصة في المجالات الإعلامية والمالية والعلاقات العامة والإغاثة والقانونية والشرعية. وجاء تأسيس المجلس ليكون مديرًا ومشرفًا على الحراك الثوري في المدينة، وضامنًا لاستقرار المدينة وتسيير الخدمات فيها بعد سقوط النظام. ولعل أبرز إيجابيات تشكيل  المجلس هو انضواء الجيش الحر تحت مظلته وكونه أحد مكوناته من خلال المكتب العسكري، كي تكون إدارة النشاط العسكري من ضمن مهام المجلس، وهذا ما يميز تجربة مجلس داريا عن مثيلاتها في باقي المدن السورية. كما لعب المجلس من خلال مكتب العلاقات العامة دورًا كبيرًا في وأد الفتنة الطائفية التي كانت تلوح في الأفق بين داريا وصحنايا المجاورة ذات الأغلبية الدرزية.

وكان لوجود المجلس المحلي أثر كبير في صمود المدينة في المعركة الحالية التي تخوضها في مواجهة قوات الأسد منذ مطلع تشرين الثاني 2012. كما كان له أثر كبير في التصدي للكثير من المشاكل التي عصفت بالمدينة وتزامنت مع هذه الحملة، وفي مقدمتها مسألة إغاثة المنكوبين والمتضررين سواء منهم من بقي في داريا أو من نزح منها، وذلك على الرغم من عِظم المصاب وشح الموارد وعدم كفاية الدعم المقدم.

داريا ومعركة الحسم

في مطلع تشرين الثاني من عام 2012، بدأ جيش النظام بقصف المنطقة الشرقية  من داريا المتصلة ببساتين كفرسوسة، إضافة لقصفه المنطقة الغربية المتصلة بجديدة عرطوز، وذلك ردًا على قصف الثوار القصر الجمهوري ومطار المزة، وكخطوة إستباقية لقطع اتصال الغوطة الشرقية بالغربية، بعد أن اشتعلت كل المناطق الفاصلة بين الغوطتين. وبدأت وتيرة القصف على داريا تتصاعد، وترافق ذلك مع اقتحام وتمشيط المنطقة الشرقية من المدينة وصولاً إلى الكورنيش القديم الممتد من دوار الفرن الآلي وصولًا إلى دوار أبو صلاح، حيث وضعت قوات النظام حاجزين ثابتين عند هذين الدوارين. ولم يكن الجيش الحر في المدينة ليقبل بوجود حواجز أمنية للنظام في المدينة، لما تشكله من عائق لتحركاته باتجاه أتستراد دمشق – درعا الدولي، والذي نفذ فيه الجيش الحر العديد من العمليات النوعية لما يمثله هذا الأتستراد من شريان رئيسي لإمداد كتائب الأسد. ومساء يوم الإثنين 12/11/2012 قامت كتيبة شهداء داريا بنسف هذين الحاجزين، ولتبدأ معركة داريا والتي تعد من أشرس المعارك التي يخوضها الجيش الحر في الريف الدمشقي. ولا تزال هذه المعركة مستمرة منذ أكثر من خمسين يومًا، قضى فيها أبطال داريا على مئات الجنود من قوات الأسد، ودمروا عشرات الآليات العسكرية بين دبابة وعربة مدرعة، واستشهد في هذه المعارك الطاحنة العديد من أبطال الجيش الحر والعديد من الناشطيين المدنيين.

عندما تتجول في داريا اليوم، تحسبها مدينة أشباح يعلو فيها صوت الصواريخ وأزيز الرصاص، لكن الشعار الذي يرفعه أبطال داريا اليوم «على أقدامنا سقط المحال… وأورقت الرجولة والرجال».

داريا بإذن الله وعزيمة الأبطال وصمودهم ستكون داريا الحرة… داريا الثورة… داريا النصر.

مقالات متعلقة

ذاكرة سورية

المزيد من ذاكرة سورية