نبيل محمد
اعتاد الفنان السوري عباس النوري إجراء لقاءات صحفية يتبعها جدل فتبرير واعتذار، فغالبًا ما يقوده أسلوبه في الحديث، وانسياقه خلف المصطلحات المعقدة حينًا والنظريات غير المفهومة حينًا آخر، إلى الوصول نحو مقولات يشعر المتابع إزاءها بأن الفنان نفسه لم يكن يقصدها تمامًا، أو لم يقصد تمامًا مغزاها حين قالها، وهو جزء مما حدث في مقابلته الأخيرة التي أجرتها معه إذاعة “المدينة” في برنامج “المختار”، ومن ثم تم حذفها، وبث اعتذار الفنان عن جزء مما قاله لاحقًا عبر البرنامج نفسه.
يؤكد الجدل حول قضية تصريحات النوري، وما أخذه هذا الجدل من صفحات “السوشيال ميديا”، أن مساحة “التململ” المسموح بها عبر الفضاء العام، هي بحدودها الضيقة ذاتها التي كانت عليها قبل عشر سنوات، بمعنى أن التعبير عن الانزعاج المسموح به حتى لنجوم الفن المعروفين بتأييدهم العميق للنظام السوري، هو ذاته ما كان مسموحًا به حين كانت قمة الحرية هي الحديث عن فساد دوائر الدولة ونوم أعضاء مجلس الشعب خلال الجلسات. ما عدا ذلك فسيكون على من يبالغ في تململه أن يعتذر، بعد شن حملة عليه، قد لا يكون لأي مؤسسة رسمية أو حتى أمنية دور مباشر فيها، إنما هناك اليوم على فضاء التواصل الاجتماعي جهات قادرة على أن تشعِر عباس النوري ذاته بالخطر، وبضرورة الاعتذار، دون أن يتلقى اتصالًا واحدًا من أي مكتب أو فرع.
كان ما قاله النوري، وهو أحد أوضح فناني الصف الأول في سوريا في دعم الدكتاتور، لا يتجاوز تعبيرات عامة، وأحاديث بعضها في التاريخ، بل إن طريقة خطابه تشبه طريقة خطاب النظام نفسه عندما يحلل التاريخ، ويكرر مصطلحات كالعثمانية والإنكشارية ويربطها بـ”الداعشية”. إلا أن قوله إن دول الخليج العربي أكثر ديمقراطية من سوريا، وإن العسكر في سوريا أطاح بالمدنيّة وبالدستور، جاء مزعجًا، خاصة أنه لم يوجه خلال الحديث عن موضوع العسكر أي تحية للجيش السوري على الجبهات، ولم يقل إنه لولا تضحيات هذا الجيش لم يكن مقيمًا في بيته اليوم، وهي جملة عادة ما تبرر ما قبلها، وتعطي قائلها صلاحية تجاوز الخطوط الحمراء نسبيًا في موضوعات أخرى. وهو بالضبط ما كان مطلوبًا الاعتذار عنه.
لا شيء استثنائيًا يلفت الأنظار في مقابلة النوري، سوى العناوين الرنانة التي استهلكتها الصحافة الصفراء وصفحات “السوشيال ميديا”، والتي كلّما عبّر فنان شهير عن انزعاجه من راهن حياته داخل سوريا، ومن الأزمات التي يعيشها، صُنِّف بأنه “يخرج عن صمته أخيرًا”، و”يتحدّى الدولة” و”يقف في صف الفقراء”. ويبدو أن حذف المقابلة من قبل الإذاعة التي أجرتها، أسهم بطريقة أو بأخرى بإضفاء الملحمية عليها، وهو أيضًا ما أدى إلى اعتذار الفنان سريعًا عما قال، وتقديم مراسم الطاعة مجددًا، والعودة إلى المكان الطبيعي الذي صنّف نفسه فيه منذ 2011، والذي لم يخرج عنه بالتأكيد حتى بكل ما قاله في هذه المقابلة.
في واقع الأمر، لم تكن جرأة عباس النوري في المقابلة المحذوفة إلى حد كبير يستدعي حذفها، فما قاله كرره قبله آخرون من أشباهه، من غسان مسعود إلى أيمن زيدان، وغيرهما من فناني الصف الأول المحسوبين على النظام، والذين يخرجون بين فترة وأخرى بوجوه متجهمة منتقدين الواقع السوري، ومتحدثين عن قمع الحريات وعن الفقر، وشاكرين الجيش في الختام، وهو ما يبدو أن النوري قد أهمله، فحصل ما حصل.
تحدث النوري عن العقائد الدينية ودورها في التخلف، وجاء على ذكر “داعش” أكثر من مرّة، وربط بينها وبين أعداء الداخل والخارج، ووجد في “السوشيال ميديا” فضاء مزيفًا بطريقة تتكرر على لسان كل نظرائه، لقد انتقد أصوات “بعض مؤذني الجوامع المقززة”. وكان كغيره من أولئك الذين يبحثون عن أي اختلاف أو ميزة في عيون جمهورهم، محاولًا بطريقة غير مباشرة، أن يغيّر من تلك الصفة التي لازمته سنوات طويلة بأنه فنان مؤيد لنظام سياسي قمعي، فأدرك أن ذلك لم يعد ممكنًا، وأن جملًا بسيطة على وسيلة إعلامية سورية معروفة بتوجهها وانتمائها، لن تنفع بتغيير صورته لا في عيون مؤيدي النظام ولا في عيون معارضيه.