“حفّار القبور”.. كي تتضح الجريمة أكثر
نبيل محمد
في كل مادة فيلمية وثائقية تنتج عن تفاصيل ما حدث ويحدث في سوريا منذ 2011 وحتى اليوم، يتركّز متناقضان أساسيان، شدّة وضوح الجريمة وضعف وضوح الوثيقة، وهو ما يعبّر بشكل لا ارتياب فيه عن أن النظام السوري برع في هذين التفصيلين الأساسيين اللذين عادة ما يتمتّع بهما المجرم المحترف، ارتكاب الجريمة الفاقعة، وإخفاء الأدلة.
عشرات آلاف الصور تلك التي سرّبها “قيصر” وقبلها وبعدها، قدّمت للعالم أجمع صورة واضحة لجريمة منظّمة تُرتَكب ضد شعب، جاهزة للدخول إلى المحاكم الدولية، تنقصها شهادات الوفاة، وتقارير الطبابة الشرعية، وموقع وجود الجثة، وهو ما يظهر واضحًا في الفيلم الأخير الذي أنتجته قناة “الجزيرة”، ونشرته تحت عنوان “حفّار القبور”.
في الفيلم اجتمعت مجموعة من أهالي الضحايا، والناشطين الحقوقيين السوريين، والعاملين الدوليين بقضية المختفين قسرًا في سوريا، برفقة الشاهد الأساسي في الفيلم، وهو “حفّار القبور” الذي مُنح رمز “Z30″، والذي كان واحدًا ممن تولوا مهمة دفن جثث القتلى تحت التعذيب في القبور الجماعية بين عامي 2011 و2018 في سوريا، ولعلّه كان الحدث الجديد الوحيد في القضية، خالقًا التماسك بين أطرافها، ومانحًا الباحثين خطوطًا يمكنهم اتباعها عن طريق الأقمار الصناعية، أو عن طريق مقاطعتها مع الشهادات الأخرى لاكتشاف مواقع وأساليب دفن الجثث.
تظهِر الشهادة ما هو معروف عن النظام إنما بمزيد من التفاصيل ذات الدلالة، كالأسلوب الموحد في التعامل مع الجثث، من طريقة تجميعها في برادات اللحوم، التي كان ترمي الجثث في المقابر، ثم تعود لتوزيع اللحوم في الأسواق، ثم طريقة حفر المقابر الجماعية، وحصارها بالأسوار العالية، ودفن الجثث على طبقات تعلوها طبقة الموتى المدنيين المتوفين بأسباب طبيعية، والذين يخفون تحت أجسادهم أكوام الجثث الخارجة من المعتقلات. تحيط عملية الدفن تلك مجموعات من العناصر والحراس الذين يكفلون سرية الدفن، ومنع التصوير أو التحري من أي كائن كان.
تسمية الضباط المسؤولين مباشرة عن عمليات الدفن، والحديث عن أشكال الجثث، وعن الروائح والطقس العام لنقل الجثث ثم دفنها، منح الفيلم وثيقة غير مكتوبة، لا شك بصدقيتها للعارفين بطبيعة النظام السوري، وأسلوب تعامل الأفرع الأمنية، لكنها قد لا تحقق الكفاية، كغيرها من الوثائق والأفلام، للمجتمع الدولي الباحث عن وثيقة أكثر دقة، رغم إدراكه باستحالة الحصول عليها في أغلبية ملفات المفقودين قسرًا.
أفضل ما تقدّمه المواد الوثائقية التي تنحو نحو توثيق الجريمة الفظيعة المرتكبة يوميًا في سوريا، هو عدم القدرة على المواربة في استخدام المصطلحات، إذ يرد في الفيلم مصطلح “الإبادة الجماعية في سوريا”، وهو مصطلح قد تتردد القناة المنتجة نفسها في استخدامه في سياق تحريري آخر، لكن طبيعة كلام الشهود، والنقاش القانوني الإنساني، سيفرض لغة هي الأدق والأفضل في الاستخدام، في مواجهة جريمة بهذا الشكل من الفظاعة والاستثنائية.
يُختَتم الفيلم بمشهد علّه الأكثر تأثيرًا، ويأخذ بعدًا سينمائيًا من الصعب على أفلام تناقش قضايا كهذه أن تأخذه، وهو الحوار بين والدة أحد القتلى تحت التعذيب التي تبحث عن قبر ابنها وحفّار القبور، لتريه صورة ابنها وعلى جبينه رقم جثته ورمزها، وتسأله أن يتذكّر إن كانت هذه الجثة مرّت بين الأكوام التي كان أحد المشرفين على نقلها ودفنها، فيستدل بطبيعة الرمز المرفق مع الجثة، بأنها في غالب الأمر دُفنت في منطقة “نجها”، شارحًا طريقة رمي الجثث بطريقة عشوائية في الخنادق الطويلة، وردم التراب فوقها لتصبح ملائمة للدفن مجددًا حتى تستوي مع الأرض، فيتم فتح خندق آخر وهكذا دواليك حتى تمتلئ المقبرة ويبدأ العمل على تشييد مقبرة جديدة في خارطة الموت المتسعة في تلك البلاد المطلقة يد الجزّار فيها.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :