منصور العمري- ترجمة عنب بلدي عن موقع “منظمة العفو الدولية”
“من يتعرض للتعذيب، لا يمكن أن يشعر بأن هذا العالم قد يكون موطنًا له بعد ذلك”
بهذه الكلمات للناجي من الهولوكوست جين آميري، افتتح المدعون الألمان المرافعة الختامية بمحكمة كوبلنز ضد ضابط الاستخبارات السوري السابق المتهم بالتعذيب، أنور رسلان.
بعد نحو سنتين، أصدرت محكمة كوبلنز حكمًا بالسجن مدى الحياة بحق أنور رسلان بعد ثبوت إدانته بجرائم تعذيب وقتل الآلاف من السوريين المعتقلين، موجّهة رسالة واضحة مفادها أن النظام السوري مسؤول عن تعذيب وقتل ممنهج ضد الآلاف من المعتقلين السوريين.
وكان رسلان ضابطًا رفيع المستوى في فرع الخطيب التابع لإدارة أمن الدولة في دمشق، ضمن شبكة من مراكز الإعتقال والتعذيب في سوريا والتي سمتها هيومن رايتش ووتش في تقرير لها بـ”أرخبيل التعذيب“، العائد لرئيس النظام السوري بشار الأسد. لم يعذب رسلان أو يقتل جميع ضحاياه 4000 بشكل شخصي، ولكن تمت هذه الانتهاكات بإشرافه وعلى يد موظفون آخرون في حكومة النظام. أحد هؤلاء المتهمون بارتكاب أفعال وحشية هو إياد الغريب الذي حكم عليه بالسجن أربع سنوات وستة أشهر بتهمة “التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية” في وقت سابق في نفس المحاكمة.
وشكلت محاكمة أنور رسلان سابقة ضد جرائم التعذيب التي تقوم بها حكومة النظام في سوريا وإدانة إضافية (حكم قضائي في هذه الحالة) تجاه الفظائع التي ارتكبت وما زالت ترتكب من قبل نظام الأسد، وكشفت عن أعماله الوحشية في وسائل الإعلام والمحافل الدولية. كما أحيت المحاكمة مبدأ الولاية القضائية الدولية لإدانة الجرائم الخطيرة المنصوص عليها في القانون الدولي. وتعتبر المحاكمة التاريخية خطوة مهمة في طريق الجهود المبذولة لتحقيق العدالة للسوريين.
كما أظهرت المحاكمة أهمية جهود التوثيق، مشاركة الضحايا، جهود الشركاء غير السوريين من حيث إقامة حلقات العمل الاستراتيجية، مشاركة المعلومات، وتمويل مبادرات العدالة.
وبالنسبة للعديد من السوريين ،خاصة ضحايا التعذيب، كان للمحاكمة تأثير رمزي وعاطفي كبير. وخالص الشكر لكل السوريين وغير السوريين الذين ساعدوا بطريقتهم الخاصة في تحقيق مقدار ضئيل من العدالة والنصرة.
فرص ضائعة
الحكم على الجاني وتعويض الضحايا هما نتيجتان رئيسيتان متوقعتان للإجراءات القانونية في أنظمة العدالة بجميع أنحاء العالم. ومن المتوقع أيضًا أن تكون إجراءات المحكمة نفسها عادلة لمجتمعات الضحايا.
ولكن محاكمة كوبلنز لم تحقق هذه النتيجة، حيث أنها حكمت على رسلان و لكنها لم تعوض ضحاياه.
يشتمل القانون الدولي على التزامات قانونية واضحة يجب على الدول التصرف وفقًا لها مع واجب تعويض ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان. هذه الالتزامات من حيث وضعها لم تكن محصورة ضمن الدول التي وقعت فيها الانتهاكات.
على سبيل المثال، أمرت المحكمة في السويد في قضية مهند دروبي، اللاجئ السوري المدان بجرائم حرب في سوريا، بتعويض مالي قدره 30 ألف دولار أمريكي لطرف الادعاء السوري ويتوجب على الدولة دفع مبلغ التعويض بحسب القانون السويدي في حال لم يتمكن الشخص المدان من تدبر المبلغ.
بحسب خبراء الأمم المتحدة، فإن تعويضات ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان ليست اختيارية وتنص مبادئ الأمم المتحدة الأساسية بشأن الحق في الانتصاف والجبر لضحايا الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان بوضوح على أنه ينبغي توفير سبل انتصاف فعالة للضحايا، بما في ذلك تعويض كاف وفعال وفوري عن الضرر المتكبد.
وغاب التعويض عن طرف الإدعاء السوري في محاكمة كوبلنز عن “الفرص الضائعة، بما في ذلك من فرص عمل وتعليم”، و”الأضرار المادية وفقدان الدخل”، بما في ذلك “خسارة الكسب المحتمل”.
ويجب أن يكون هناك أيضًا تعويض عن “الأذى الجسدي أو النفسي”، و”التكاليف المطلوبة للمساعدة القانونية أو مساعدة الخبراء، والأدوية والخدمات الطبية، والخدمات النفسية والاجتماعية هي أجزاء أساسية من التعويضات، وكذلك إعلان رسمي أو قرار قضائي يعيد الكرامة والسمعة وحقوق الضحية والأشخاص الذين هم على صلة بالضحية عن كثب، والاعتذار العلني، بما في ذلك الاعتراف بالوقائع وقبول المسؤولية”.
الحق في الحصول على المعلومات ذات الصلة المتعلقة بالانتهاكات
تنص مبادئ الأمم المتحدة التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة على أن للضحايا الحق في “الحصول على المعلومات ذات الصلة المتعلقة بالانتهاكات” وتقتضي “إدراج وصف دقيق لما وقع من انتهاكات في مواد التدريب والتعليم على جميع المستويات في مجال حقوق الإنسان الدولية والقانون الإنساني الدولي”، إلا أن محكمة كوبلنز حرمت السوريين من هذه الحقوق من خلال عدم الاحتفاظ بأرشيف رسمي أو توفير الترجمة الشفوية العربية للجمهور.
ويحتاج نظام القضاء الألماني إلى المزيد من التحسينات، فعلى سبيل المثال، أعلنت محكمة فرانكفورت الرئيسية أنها لن توفر الترجمة الشفوية العربية في محاكمة علاء موسى، الطبيب السوري المتهم بالتعذيب في ألمانيا. كما منعت المحكمة الحضور من تدوين الملاحظات أثناء جلسة الاستماع. هذه القيود تعتبر غريبة وعكس ما يريد السوريون العاملون على تعزيز حقوق الإنسان رؤيته في المحاكمات المقبلة.
ورغم الجوانب الإيجابية للغاية لمحاكمة كوبلنز، ينبغي أن تكون هناك ضمانات لتعويضات المدعين وحقوق مجتمعات الضحايا. ونحن كسوريين، تعلمنا من محاكمة كوبلنز الكثير وسعداء بحدوثها، ولكن يتعين علينا أن نعمل بجهد أكبر من أجل تحقيق عدالة أفضل من خلال مبدأ الولاية القضائية العالمية، بالاستناد إلى ستة إجراءات رئيسية:
1- مشاركة الضحايا
2- التعويضات
3- الترجمة الشفوية العربية
4- المتابعة
5- إعداد التقارير
6- الأرشفة الرسمية
ينبغي أن نواصل العمل لضمان أن يكون الضحايا السوريون في مركز كل هذه الإجراءات القضائية، فإن إعلاء صوت الضحية لا يكفي و يجب التركيز على حقوقهم أيضًا.
الإجراءات التي تتبعها المحاكم الألمانية لحرمان مجتمعات الضحايا من حقوقها في متابعة المحاكمة وفهمها بلغتها تعمق الفجوات والانفصال بين الضحايا والعالم الذي يعيشون فيه، “فلا يشعروا بأن هذا العالم قد يكون موطنًا لهم بعد تجربة التعذيب.
العدالة التي أريدها
في عام 2012 وبينما كان السجانون يسحبونني خارج زنزانتي وهم يقومون بضربي وشتمي، لم يكن لدي الوقت لأجد فردة حذائي في كومة أحذية المعتقلين الباقين. لبست فردة الحذاء اليسرى فقط ومشيت بخطوات متعثرة وبظهر منحني من شدة ضربهم وإهانتهم.
قد يبدو للبعض أمرًا غير ذي أهمية، لكنني أفكر في ذلك الحذاء الذي فقدته. الممتلكات البسيطة لها أهمية كبيرة في حفر الجحيم الخاصة بنظام الأسد. أريد استعادة حذائي الأيمن. أريد استعادة ملابسي. إنها الرمزية لخسارة أكثر أهمية، حياتي السابقة للتعذيب، وتمثل ذاكرة متلاشية لتلك الحياة قبل كل هذا الأذى والخسارة.
أنا، مثل العديد من السوريين، أريد أن أرى العدالة تتحق، والعدالة الحقيقية فقط التي تعني التعويض عن كل يوم فقدته في الاعتقال وعن العلاج البدني والنفسي الذي سأحتاجه دائمًا بسبب التعذيب. العدالة الحقيقة تعني محاسبة كل سجان قام بتعذيبي وإهانتي، بما في ذلك الممرضة التي غرزت قلم الحبر الأزرق في جرح ركبتي بعد أن دفعني سجان من أعلى الدرج. من أدنى رتبة إلى أعلى رتبة مسؤول، أريد أن يُحاسب كل من أمر ونفذ اعتقالي وتعذيبي. أريد أن أشعر أن هذا العالم قد يكون موطنًا لي.
منصور العمري صحفي سوري ومدافع عن حقوق الإنسان حاصل على ماجستير قانون في العدالة الانتقالية والصراع. يعمل العمري مع منظمات حقوق إنسان دولية وسورية لمحاسبة مرتكبي الجرائم الدولية في سوريا. في عام 2012، اعتقل العمري وتعرض للتعذيب من قبل الحكومة السورية لمدة 356 يومًا لقيامه بتوثيق فظائع النظام السوري بينما كان يعمل مع المركز السوري للإعلام وحرية التعبير كمشرف على مكتب المعتقلين.