عنب بلدي – إسطنبول
يبدو أن لا شيء قادر على الوقوف بوجه السوريين الراغبين بالوصول إلى أوروبا وركوب قوارب الموت عبر بحر إيجة من تركيا، ويمكن القول إنهم على حق رغم كل ما يقال عن خطورة الطريق وإمكانية الموت في أي لحظة برًا أو بحرًا، فالوضع في سوريا يزداد سوءًا كل يوم وقوافل اللاجئين مؤخرًا ازدادت، وخاصة من مناطق ريف حماه وإدلب وحلب، حيث تسقط حمم الطائرات الروسية على المدنينن وقوات المعارضة.
منذ أربع سنوات أعلنت تركيا عن اتباعها سياسة “الباب المفتوح”، واستقبلت قرابة مليوني سوري، يتوزعون على الحدود السورية وفي أرجاء المدن كذلك. إذ وجد السوريون في تركيا ما فقدوه في بلدهم بسبب الحرب، وساهمت التسهيلات الحكومية في تذليل صعوبات العيش في مجتمع يعد اختلاف اللغة وعدم إجادتها من قبل السوريين أبرز تحٍد يواجه لاجئي سوريا منذ اندلاع الثورة.
وقد عملت الفعاليات الاجتماعية والمنظمات المدنية الناشطة في المدن التركية الحدودية مع سوريا وكذلك في الداخل السوري، على تسهيل اندماج السوريين في المجتمع بالإفادة من الروابط الكثيرة المشتركة بين الشعبين كالدين والعادات الاجتماعية المتقاربة.
وفي تقرير أعده الهلال الأحمر التركي في مدينة شانلي أورفا، الحدودية مع سوريا، ونشرته صحيفة “العربي الجديد”، خلال الفترة الممتدة بين 12 كانون الثاني إلى 12 شباط الماضيين، وشارك فيه 327 لاجئًا، أبدى نحو 78% من اللاجئين السوريين، رغبتهم بعدم مغادرة الأراضي التركية، إلى أي مكان، حتى لو سنحت لهم الفرصة للسفر إلى دولة أخرى، أو الرجوع إلى بلادهم، ولفت التقرير إلى أن متوسط دخل الأسرة السورية الواحدة يتراوح ما بين 20 و29 ليرة تركية في اليوم، أي ما يعادل 10 دولارات تقريبًا، ويدفعون نحو 200-500 ليرة تركية كإيجار شهري للمسكن.
ويبلغ عدد اللاجئين السوريين في تركيا نحو 1.8 مليون لاجئ، يعيش 11% فقط منهم في مخيمات اللاجئين، مقابل 89% يعيشون في المدن التركية، وتأتي إسطنبول في صدارة المدن التركية كثافة بالسوريين، تليها مدن أورفا وغازي عينتاب، وإقليم هاتاي جنوب البلاد.
لكن بعد مضي قرابة العام على هذا المسح، يبدو أن شيئًا ما تغير، جعل السوريين يهمون بالهجرة ويركبون البحار، بحثًا عن مكان نهائي للاستقرار بعد رحلة المعاناة من سوريا إلى دول الجوار، فبدأت أوروبا تستقبل لاجئين سوريين ومن جنسيات أخرى تدّعي أنها سوريّة لتستفيد من حالة ووضع السوري في أوروبا، إذ يمنح حق اللجوء فور وصوله في دول الاتحاد الأوروبي الـ 27 مع مزايا الإسكان والحماية والتعليم وغيرها.
هذه المحفزات جعلت طرقات التهريب البرية والبحرية إلى أوروبا تنتعش خلال الصيف الماضي، وتعج باللاجئين وسط ظروف مأساوية صعبة عبر الحدود وفي الغابات وعلى سكك القطارات فامتلأت المخيمات، لكن سرعان ما اختلفت معاملة اللاجئين بسبب كثرة الأعداد الوافدة وادعاء تلك الدول باستقبال أعداد تفوق قدرتها الاستيعابية.
أوروبا سيئة وتركيا أفضل
أمام هذا الواقع، بدأ السوريون يفكرون بجدوى اللجوء إلى أوروبا بعد أن شاهدوا الحال التي وصل إليها أقرانهم بعد وصولهم أوروبا، لجهة التأخر بالتوزيع على المخيمات والمجمعات؛ ما اضطرهم للنوم في الحدائق وصالات الرياضة وافتراش الأزقة، وكذلك عدم امتلاك الأوراق الثبوتة اللازمة لتسهيل الحركة، وباتوا يسألون أنفسهم.. هل تستحق أوروبا والوصول إليها هذه المخاطرة المادية والمعنوية؟.
يرى طارق، 25 عامًا، شاب سوري يعمل في أحد المطاعم السورية في إسطنبول أن فكرة الهجرة واللجوء إلى أوروبا مرفوضة بالنسبة له، فقد شاهد وسمع ما حل بزملائه وهو الآن مستقر ماديًا كونه يعمل بأجر جيد يكفيه، ولا يفكر بتغييره أو السفر إلى أي بلد اخرى”.
وفي السياق، يروي أحمد 21 عامًا شاب سوري، والذي وصل إلى ألمانيا قبل شهر، تفاصيل رحلته إلى ألمانيا عبر اليونان ومقدونيا ثم كرواتيا فألمانيا، بأنه لم يكن يتخيلها بهذه الصعوبة وأنه اضطر للنوم مرات كثيرة في الشوارع رغم البرد هو وزملاؤه الذين عرفهم على متن القارب.
ويقول “إلى الآن لم يستقر وضعي، لم أبصم من أجل الحصول على الإقامة، ومنذ شهر أنام في صالة كرة سلة … دفعت 3 آلاف دولار حتى وصلت إلى برلين، أفكر كثيرًا بالعودة إلى تركيا وإكمال حياتي هناك”.
ويؤكد أحمد أن حالات عديدة لشباب سوريين بدؤوا يغادرون أوروبا باتجاه تركيا، نظرًا لشعورهم باليأس.
أرباب الأعمال يفتقدون الشباب
هجرة الشباب السوريين إلى أوروبا أربكت أصحاب رؤوس الأموال السورية في تركيا، هؤلاء التجار وأصحاب المهن الصغيرة والمتوسطة الباحثين عن استمرارية لأعمالهم بعدما دمرتها الحرب في سوريا، إذ وجدوا في تركيا، وبالتحديد في المدن التي يعيش فيها سوريون، أرضًا خصبة للاستثمار ومتابعة نشاطاتهم، فمنهم من استثمر في مجال العقارات ومنهم في المطاعم والخدمات وغيرها.
وتتمثل معاناة هؤلاء في عدم قدرتهم على تأمين العمالة السورية الماهرة بمختلف الاختصاصات رغم النزوح الكبير من سوريا لشريحة الشباب، إلا أنهم يعتمدون تركيا كـ “محطة”، ومنها ينتقلون إلى أوروبا وهذا ما يحول دون استمرارهم في أي يعمل يزاولونه أو وظيفة يشغلونها في تركيا.
يقول أبو زياد، مدير مطعم سوري في إسطنبول، “لا أعلم سبب هجرة الشباب إلى أوروبا بالتحديد، أرى أن أوضاع السوريين هنا جيدة ونحن نوظف سوريين لكننا نعاني من عدم استمرارية الموظفين، ونتفاجأ بمدى اندفاعهم للتوجه إلى أوروبا”.
أبو زياد، ومنذ عام تقريبًا، لم يعتمد موظفًا دائمًا على “سيخ الشاورما” بسبب رغبة كل من وظفه بالهجرة إلى أوروبا طلبًا للجوء. وهذا ما دفعه لوضع إعلان يطلب فيه عاملًا “لا يرغب بالسفر إلى أوروبا”.
يقول جهاد الأحدب صاحب شركة الأحدب للغذائيات لعنب بلدي إن اغلب السوريين يعانون من مشكلة الإجراءات الحكومية في سعيهم للحصول على تراخيص لمزاولة العمل في مختلف المجالات، لأن القوانين المتعلقة بالإقامة السياحية والاستثمارية “ليست سهلة”. فهو كمستثمر في تركيا قدّم أوراقه منذ عامين من اجل الحصول على إقامة وإذن عمل لكن حتى الآن لم يحصل عليها.
ويضيف: إقامة العمل في تركيا ليست سهلة، أغلب السوريين يعانون، ولهذا السبب تجد الكثيرين يعملون بشكل مخالف.
وحول رأيه بهجرة العمالة السورية إلى أوروبا من تركيا، لفت الأحدب إلى أبرز عامل يدفع السوريين للهجرة هو “ضعف اللغة” وكذلك “الغلاء وارتفاع تكاليف المعيشة” بشكل عام.
أما معاذ، صاحب مطعم آخر في إسطنبول، فيدعو الشباب السوري للتفكير قبل الخروج من تركيا، “يومًا ما سنعود إلى سوريا، في الحقيقة لا أفكر بالهجرة رغم امتلاكي لتكاليف الرحلة.. فألمانيا وأوروبا ليست جنة وتَعلّم لغتها ليس بالأمر السهل”، مطالبًا الشباب السوري بعدم الهجرة إلى أوروبا، فكثير من الشباب وصلوا ثم عادوا بعد أن شاهدوا صعوبة التأقلم والاندماج في المجتمعات الأوروبية عمومًا، على حد قوله.
مطالبًا الشباب السوري بعدم الهجرة إلى أوروبا، فكثير من الشباب وصل ثم عاد بعد أن شاهد صعوبة التأقلم والاندماج في المجتمعات الأوروبية عمومًا، على حد قوله.
احتل المستثمرون السوريون المرتبة الأولى في قائمة الأجانب الأكثر تأسيسًا للشركات في تركيا بنسبة وصلت إلى 25.5%، حيث أسس نحو 1131 سوريًا في العام الماضي شركات جديدة بقيمة 32.8 مليون دولار.
وبحسب “العربي الجديد” أشارت بيانات اتحاد غرف التجارة والبورصات في تركيا إلى ازدياد حجم الشركات التي تم تأسيسها في تركيا خلال النصف الأول من العام الجاري بنسبة 18.12% مقارنة مع نفس الفترة من العام الماضي، لترتفع من 29.7 ألف شركة إلى 35 ألفًا، وشغل رجال الأعمال السوريون النصيب الأكبر من تأسيس هذه الشركات، حيث كان نصيبهم واحدة من كل ثلاث شركات ذات شركاء أجانب أُسِّست في تركيا، خلال الأشهر الستة الأولى من العام الجاري. وبلغ عدد الشركات التي يشترك فيها رأس المال السوري خلال النصف الأول من العام الماضي 238 شركة، ما يعني أن عدد الشركات السورية في تركيا ازداد أكثر من ضعفين.
هروب جماعي
خلال صيف العام 2015، شهدت أوروبا زيادة كبيرة في تعداد اللاجئين من السوريين والعراقيين الذين دخلوا اليونان، وتحدثت المفوضية في تقريرها عن “تقديم النازحين السوريين ما يفوق الـ 270 ألف طلب للجوء إلى دول أوروبية”.
وقال المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أنطونيو غوتيريس إن “اللاجئين السوريين يشكلون أكبر مجموعة من اللاجئين جراء صراع واحد خلال جيل واحد، وإنهم بحاجة إلى دعم العالم فهم يعيشون في ظروف مزرية ويزدادون بؤسًا”، لافتًا إلى أن “الأحوال المتدهورة تدفع أعدادًا متزايدة للتوجه إلى أوروبا وأبعد من ذلك”، وأضاف “لا يمكننا أن نسمح لهم وللمجتمعات التي تستضيفهم أن ينزلقوا في مستنقع اليأس أكثر من ذلك”.
وتعاني مفوضية اللاجئين من نقص التمويل لسد احتياجات السوريين، فالمنظمة وشركاؤها طالبوا بتوفير مبلغ 5.5 مليار دولار أمريكي لعام 2015 للمساعدات الإنسانية والتنموية الدولية، لكن لم يتم الحصول إلا على أقل من ربع هذا المبلغ (24 %)، كما تقول المفوضية، وهذا يعني “أن اللاجئين سوف يواجهون انقطاعًا حادًا وإضافيًا من حيث المساعدات الغذائية، ما سيجعلهم يصارعون من أجل تحمّل نفقات الخدمات الصحية المنقذة للحياة، أو إرسال أطفالهم إلى المدرسة”.
القصف الروسي يزيد عدد اللاجئين
مع نهاية سبتمبر 2015 بدأت روسيا بشن حملة جوية ضد أهداف “إرهابية” على الأراضي السورية ممثلة بقوات تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة، لكن المعارضة السورية المسلحة تتهم موسكو بقصف قواتها بشكل مباشر، وقد أدى عنف الضربات واستهدافها المدنيين إلى زيادة حجم النزوح السوري باتجاه تركيا، وكانت المفوضية سجلت وصول أكثر من 24 ألف لاجئ في شهر حزيران الماضي من شمال سوريا وتل أبيض إلى تركيا.
وعليه فإن ارتفاع معدلات العنف وتزايد التدخل الروسي ومعه طيران التحالف الدولي، والمعارك المحتدمة بين قوات النظام والمعارضة يرتبط بشكل مطرد بتزايد أعداد اللاجئين السوريين إلى تركيا وأوروبا في آن معًا. لكن السوريين في أوروبا يقصدون بلدانًا بعينها أملًا بمعاملة أسرع من حيث لمّ الشمل وجودة الخدمات الصحية والتعليمية. إذ كشف تقرير عن سبب ارتفاع طلبات اللجوء المقدمة من السوريين في ألمانيا والسويد تحديدًا، وفق دراسة صادرة عن مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية عن اللاجئين السوريين للعام 2015، فيعود إلى “وجود عائلات وأقرباء، شرحوا ميزات اللجوء لأقربائهم من الوافدين الجدد، ورغبة من هذه العائلات بلمّ شمل عائلاتهم ضمن الدولة الأوروبية الواحدة، وأما السويد فتحتل المرتبة الأولى ضمن دول اللجوء، وذلك بسبب سياسة التسهيلات والميزات المغرية التي تتبناها تجاه اللاجئين، من خلال سياسات التمكين والاندماج ضمن المجتمع السويدي.
وبالنسبة لطلبات اللجوء ضمن ألمانيا فهناك تسهيلات للاجئين السوريين في الرعاية والحقوق والحماية الإنسانية، بالإضافة إلى أن ألمانيا تقبل طلبات اللجوء حتى لو كان هناك للاجئ بصمات في دول أوروبية أخرى، ويدخل هذا ضمن التسهيلات والميزات في ألمانيا للاجئين والمهاجرين غير الشرعيين”.
ووفق الدراسة يشكل الأطفال القادمون من سوريا إلى أوروبا عبر القوارب ما نسبته 20% من نواة الأسرة المهاجرة، فيما بلغت نسبة الأطفال القصّر القادمين دون أي وصيّ نسبة 3.5% من إجمالي الأطفال المهاجرين من جميع الجنسيات. كما احتلت سوريا المرتبة الثانية بعد أفغانستان من إجمالي عدد الجنسيات ممن وصلوا إلى إيطاليا عن طريق البحر المتوسط. في العام 2014.