أنور أبو الوليد – حمص
تقلّصت مساحة الحياة في أعينهم، وضاقت عليهم الأرض الوسيعة بما رحبت، لينتهي بهم المطاف في صندوق شاحنةٍ أصبح بيتهم ومأواهم، إثر نزوحهم خلال الحملة العسكرية الأخيرة التي شنتها قوات الأسد على ريف حمص الشّمالي.
القصة بدأت منتصف الشهر الماضي، بغارات مكثّفة من سلاح الجو الرّوسي على عددٍ من القرى التي كانت تعدّ مراكز رئيسيّة لتجمّع المدنيين، مثل تير معلة والمحطة وجوالك وغيرها في الريف الحمصيّ، مسبّبة نزوح أكثر من عشرة آلاف عائلة باتّجاه بلداتٍ أخرى لا تشهد محاولات تقدّم بريّة في الريف ذاته، المحاصر أصلًا، والذي يعاني منذ فترة طويلةٍ من أزمةٍ إنسانيّةٍ حادّة.
العنوان العريض المسمّى بـ “النّزوح” بات المشهد الأبرز، وفي خفاياه تكمن تفاصيل مؤلمة، لعلّ من أبرزها قصّة العوائل التي كانت تسكن قرية تير معلة منذ عامين بعد نزوحها السّابق من حي دير بعلبة في مدينة حمص.
لم تستطع تلك العوائل السّبعة كما غيرها إخراج المستلزمات الأساسيّة من بيوتها؛ بفعل القصف العنيف واشتداد المعارك، فخرجت هائمة على وجهها، وأكبر همٍّ للآباء إنقاذ الأبناء من الموت الذي يتربّص بهم حتّى في طريق هروبهم.
افترشوا العراء بداية، ثم لم يجدوا أمامهم سوى السّكن في صندوق شاحنةٍ نتيجة أزمة السّكن المتفاقمة التي تعاني منها المناطق التي توجّه إليها النّازحون، وعجز ساكنوها عن استيعاب الاعداد الكبيرة لضيوفهم الجدد.
أبو فوّاز، معيل إحدى هذه الأسر، قال “هربنا من القصف والطّيران والمعارك، ولكنّنا بتنا نعاني الآن من البرد والجوع وشيءٍ آخر أشدّ قساوة وهو القهر”.
قال هذه الكلمات وهو يلقي ببصره على أبنائه وأبناء إخوته الذين تكدّسوا في صندوق الشّاحنة، ومن بينهم أحمد، الطفل الذي توقّفت جميع أمنياته عند بيتٍ بسيطٍ يجمع شتات عائلته وفي فكره يدور تساؤلٌ يعيد ترديده “ما ذنبنا حتى يحلّ بنا كل هذا؟ نحن الأطفال ما ذنبنا؟”.
وما يزيد من عجز الكبار عن إجابته على تساؤله المر، واقع الحصار المفروض على المنطقة، والذي أدى إلى عدم دخول أي نوعٍ من المساعدات إليها منذ مدّة طويلة، وعدم قدرة المجالس والهيئات الإغاثيّة على سدّ العجز الحاصل.
هي جزئيّة صغيرة إذًا من أصل مئات القصص الأخرى التي يكتمل بها المشهد، سُلّط الضوء على بعضها بينما تبقى قصصٌ كثيرةٌ دفينة بعيدًا عن أعين العالم، وتبقى أحداثها غصّات في حلوق أصحابها، أو ربما آلامًا محصورة ضمن صندوق شاحنةٍ أخرى.