عنب بلدي – صالح ملص
سهولة المنال، والإتاحة، وإمكانية الوصول إلى المعلومات، أو استعمال أدوات تعين الجمهور على تمكينهم من الوصول إليها، مرتبط بحقوق الإنسان في مسار تحقيق جزء من العدالة لضحايا الانتهاكات في سوريا.
ويعدّ تدفق المعلومات، وسهولة الوصول إليها، من الأمور الأساسية التي من شأنها أن تساعد في فهم الحقوق ومعطياتها وحجمها، ضمن قضية معيّنة بالنسبة إلى الضحايا، وطرح التفسيرات اللازمة لتقديرها بشكل أفضل، بعيدًا عن أي مغالطات، أو معطيات سلبية يمكن أن ينتج عن عدم فهم واعٍ للقضية.
بعد أن انتهى الادعاء من تلاوة لائحة التهم الموجهة إلى الطبيب السوري علاء موسى، بـ18 تهمة تشمل التعذيب والعنف الجنسي وقتل مدنيين، داخل المحكمة الإقليمية العليا في فرانكفورت غربي ألمانيا، في 19 من كانون الثاني الحالي، سألت المحكمة المتهم إذا ما أراد أن يتحدث، فردّ بالإيجاب.
أصرّ موسى على الحديث باللغة الألمانية وليس العربية خلال الجلسة الأولى من محاكمته، وسرد سيرته الذاتية بطلاقة، وقال إنه “طبيب مدني”، ولم يحمل يومًا رتبة عسكرية.
ضمن هذه الحالة، لن تكون هناك ترجمة فورية إلى اللغة العربية في محاكمة موسى، إذ تنازل المتهم عن حق الترجمة، وبالتالي سيخصَّص مترجم فوري فقط في حالة وجود صعوبات بالفهم ضمن حالات استثنائية.
وفي ألمانيا، فإن حق الترجمة مكفول للمتهم دائمًا، لكن الحديث هنا عن إتاحة الوصول إلى الترجمة للجمهور والصحفيين في أثناء المحاكمة المرتبطة بانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا.
إنكار التهم
لم يأتِ الطبيب موسى على ذكر التهم الموجهة إليه، خلال حديثه أمام المحكمة، ولم يكشف كذلك عن الدفاع الذي سيعتمده، وفي هذا الأسبوع، سيتم بدء الاستماع إلى الشهود الذين جمعهم الادعاء العام، ومن المتوقع أن تستمر المحاكمة على امتداد 15 جلسة على الأقل.
وورد في أمر توقيف الطبيب، أنه في نهاية نيسان 2011، بدأت قوات النظام السوري باستخدام “القوة الوحشية” لقمع جميع أشكال الحراك المناهض لسياسة النظام، وقامت المخابرات السورية حينها بدور أساسي في ذلك، وكان الهدف وقف الحركة الاحتجاجية بمساعدة من المخابرات في أسرع وقت ممكن، وتخويف السكان.
ولهذه الغاية، أُلقي القبض على شخصيات معارضة، واحتُجزوا وعُذبوا وقُتلوا في جميع أنحاء سوريا، بحسب بيان أمر التوقيف.
وعمل علاء موسى طبيبًا في سجن للمخابرات العسكرية بمدينة حمص عام 2011، في الفترة من 23 من تشرين الأول إلى 16 من تشرين الثاني 2011، وفي تلك الفترة، تعرّض أحد المعتقلين المحتجز لمشاركته في مظاهرة (يدعى محمود من مدينة حمص)، لجلسة تعذيب، ثم أُصيب بنوبة صرع، وطلب أحد زملائه المعتقلين من أحد الحراس إبلاغ الطبيب، وبعد وصوله، قام موسى بضرب المعتقل بأنبوب بلاستيكي، واستمر في ضربه وركله على رأسه.
دون شك، فإن هذه المحاكمة هي خطوة إيجابية في ملف محاسبة مرتكبي الانتهاكات في سوريا، ولكن لغة المحكمة هي الألمانية، وغياب الترجمة إلى العربية في المحكمة سيمنع العديد من السوريين وغيرهم من المشاركة، فضلًا عن إعاقة وصول المعلومات الخاصة بمسار المحكمة إلى الجمهور السوري.
ويعتمد الضحايا والشهود وغيرهم من غير الناطقين بالألمانية على تقارير من يتمكّن من حضور الجلسات لمتابعة أخبار هذه المحاكمة.
العربية في “كوبلنز”
حكمت “كوبلنز” ضد الضابط السابق في المخابرات السورية العامة أنور رسلان بالإدانة، والسجن المؤبد غير المشدد، بتهم ترتبط بجرائم ضد الإنسانية، بما فيها التعذيب، و27 جريمة قتل، و25 حالة اعتداء تشمل العنف الجنسي.
علّلت المحكمة حكمها وترجمته بشكل فوري من اللغة الألمانية إلى اللغة العربية، وقالت، “العنف لم يكن يتم استخدامه بصورة فردية وعرضية وحسب، بل إنه كان يُستخدم في إطار استراتيجية شاملة للنظام (…) وفقًا لتقييم مجلس القضاء، فإن هذا الهجوم على السكان المدنيين السوريين لم يكن موسعًا من الناحية الكمية وحسب، بل إنه كان أيضًا منهجيًا من الناحية الكيفية”.
أدت ترجمة الحكم ضد رسلان إلى فهم المعلومات الدقيقة حول رأي المحكمة في القضية، وذلك من أجل خلق فرصة للتقليل من حدة الغموض حول الحكم، ولإضعاف احتمالية التشكيك بنزاهة القضاء من قبل الجمهور السوري والناجين والناجيات، الذين يعتبرون أصحاب المصلحة الأولى في كل هذه القضايا.
الترجمة كجزء من العدالة
جاء التوجه بترجمة الحكم من محكمة “كوبلنز” بعد مطالب حقوقية سورية بإتاحة الترجمة العربية في محاكمة رسلان والغريب، ففي آب 2020، قدّم كل من “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، والحقوقي السوري منصور العمري، شكوى مشفوعة بطلب اتخاذ تدابير مؤقتة إلى المحكمة الدستورية الألمانية في مدينة كارلسروه جنوبي ألمانيا، لمنح الجمهور حق الوصول إلى الترجمة العربية في محاكمة “كوبلنز”.
وفي الشهر نفسه، حكمت المحكمة الدستورية الألمانية في كوبلنز بمنح الصحفيين المعتمَدين الناطقين بالعربية حق الوصول إلى الترجمة الفورية باللغة العربية لجلسات المحاكمة، إذ إن أجهزة استقبال الترجمة الفورية تُركت دون استخدام، في حين لم يستطع الجمهور السوري متابعة ما يُقال في المحاكمة.
وأوضح المركز في بيان نشره حينها، أن الترجمة العربية من شأنها أن تجعل الإجراءات في متناول الأشخاص المعنيين في المقام الأول، وهم السوريون، ولا سيما الناجين منهم، وعائلاتهم والمجتمع المدني السوري ككل.
و”لا يجب تحقيق العدالة فحسب، بل يجب أن يقتنع الجميع بتحقيقها. نعتقد أن الجمهور الأكثر تضررًا من الجرائم يجب أن يتمتع بوصول فعلي إلى الإجراءات”.
وتوفير الترجمة العربية للجمهور العام في أي محاكمة من شأنه أن يعزز من تأثيرها ويرسل رسالة إلى العالم بشكل عام، وخصوصًا لمن يعيشون في سوريا، مفادها أنه لا إفلات من العقاب على الجرائم الفظيعة.
غياب الترجمة في محاكمة علاء موسى
“اللغة الألمانية هي المستخدمة في محاكم البلاد، كما تتوفر ميزة الترجمة إلى العربية للمتهمين والمدعين، إلا أن محكمة (كوبلنز) كانت تمنع وصول الجمهور والصحفيين إلى هذه الترجمة الفورية”، بحسب ما قاله الصحفي والحقوقي السوري منصور العمري لعنب بلدي.
وأضاف أن “الأمر الأولي الصادر عن المحكمة الدستورية، يؤثر على اثنين من الحقوق الأساسية للمدعين، الحق بالمساواة في المعاملة والحق بحرية الصحافة”.
وامتثلت “كوبلنز” لحكم المحكمة الدستورية في محاكمة رسلان والغريب، في الوقت الذي رفضت فيه دعوى مشابهة، بحسب العمري، واصفًا الحكم بإتاحة الترجمة بـ”غير العادي”، والذي لا يجب أن يقتصر على محاكمة “كوبلنز” فقط، بل المفترض أن يشمل المحاكمات المستقبلية المشابهة بألمانيا، مثل محاكمة علاء موسى في فرانكفورت.
وصحيح أن بإمكان المشاركين في المحاكمة، بالإضافة إلى مجموعة من الصحفيين المعتمدين، الحصول على ترجمة عربية لإجراءات محاكمة علاء موسى، إلا أن هذه الخدمة غير متاحة للمجتمعات الأوسع المتضررة، أو الناشطين الذين يتابعون المحاكمة، أو الصحفيين السوريين والناطقين بالعربية الذين ينشرون أخبار هذه القضية.
وبموجب المبادئ الأساسية بشأن الحق في الإنصاف وجبر الضرر لضحايا الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان، فمن حق الضحايا “الوصول إلى المعلومات ذات الصلة المتعلقة بالانتهاكات وآليات الجبر”.
وبحسب ما أوصت به “هيومن رايتش ووتش“، فإن “على سلطات المحكمة إتاحة الترجمة العربية لعدد أكبر في هذه القضايا التي تتضمن أفظع الجرائم المرتكبة في الخارج. يرتبط أثر جهود المحاسبة على المجتمعات المتأثرة ارتباطًا وثيقًا بمدى التوعية حولها”.
ومن شأن إتاحة ترجمة عربية للجميع في مثل هذا النوع من المحاكمات بسهولة أكبر، أن يشجع السوريين الآخرين على المجيء إليها والمشاركة فيها، وأن يقدموا المعلومات التي يمتلكونها كشهود، لتحقيق بعض من العدالة، ويذكّرهم بأن العالم لم ينسهم.