يعد التراث الثقافي في سوريا أرضية مناسبة للإسهام في الوصول إلى تسوية نفسية، تعالج ندوب النزاع التي يعاني منها مجتمع اللاجئين السوريين، خصوصًا السيدات منهم، والعمل على بناء سلام دائم يؤدي في النهاية إلى إعادة الانتماء لصورة غير منقوصة للبلد، تسمو فيها المواطنة الفاعلة، بحيث يكون المجتمع بتنوعه الفكري محميًا وممكنًا.
مع موجات اللجوء التي عاشها المجتمع السوري خلال 11 عامًا، هُجّرت مجموعات بشرية كاملة من بعض المناطق بسبب النزاع المسلح ونتائج “التسويات”، حملت هذه الجماعات معها جزءًا من تراثها الثقافي، حاولت في مدن اللجوء، خصوصًا أوروبا، وضع برامج وخطط للحفاظ على هذا التراث، واستثماره كأداة تعافٍ نفسية من آلام انتهاكات حقوقها.
آمنت مؤسسة ومديرة ملتقى “حنين” الثقافي، رجاء بنوت، حتى وفاتها في 13 من آذار الحالي، بالممارسات والتصوّرات والمهارات الثقافية السورية التي أبدعتها فئات مجتمعية منذ عقود قديمة، من أجل أن تسهم بتغيير وتطوير المجتمع بعيدًا عن العمل السياسي التقليدي من خلال المؤسسات والأحزاب السياسية.
الفن كبوابة للتغيير
نجحت بنوت في تأسيس ثلاث فرق للغناء الجماعي (كورال) في ثلاث دول، هي سوريا وتركيا وألمانيا، حيث حصلت مطلع القرن الحالي بدمشق على ترخيص لجمعية فنية حملت اسم جمعية “النهضة الفنية”، بالتزامن مع إطلاق منتديات “إعلان دمشق”، الذي عرف زيادة في النشاط الثقافي والسياسي المناهض للسلطة حينها.
تمحور الهدف المباشر لتلك الجمعية حول “إعطاء الفن دوره في النهوض بالإنسان والمجتمع”، بحسب ما قالته بنوت خلال مقابلة مع موقع “العربي الجديد” عام 2018، وأنشأت الجمعية “كورالًا” ضم رجالًا ونساء، وبالتزامن مع تجهيز إطلاق حفلات جماعية غنائية، انفجرت الاحتجاجات في سوريا عام 2011، واستمرت الجمعية في عملها الذي تقلّص إلى حد كبير، مع مغادرة بنوت إلى خارج سوريا وتوجهها إلى دبي.
من العوامل الثابتة التي تساعد في حفظ التراث الثقافي غير المادي وجود العلاقة المتينة بين هذا التراث والمجموعات البشرية المنتجة له، يُمرر عبر الأجيال، لتستمد منه أصالتها وفنونها التي لا ترتبط بالذاكرة فقط، وإنما تمتد لتتوافق مع ظروف حاضر هذه الجماعات ومستقبلها.
مخازن الموسيقا صدور أهلها
شكَّلت بنوت في دبي مجموعات ثقافية وفنية، وحولت منزلها إلى صالون ثقافي ينظّم برنامج فعاليات شهرية، بحسب ما قالته خلال المقابلة.
تابعت بنوت خلال حديثها، “أحييتُ فكرة الكورال التي حقَّقت نجاحًا، وغيَّرت حياة كثير من الناس نحو الأفضل في زمن السلم. ففي وقت الحرب الصعب، ربما يكون مردودها أكبر، فوجدت أن فئة كبار السن تعيش صعوبة مضاعفة في اللجوء. لأن هؤلاء الناس انقطعوا في الجزء الثاني من حياتهم، فهذه الفئة رُميت في الهواء، وهي غير قادرة على أن تلم نفسها. وبالنسبة للسيدات المسنّات، كانت مصيبة حقيقية، فهن غير قادرات على التأقلم، ولديهن حزن غير عادي، وحالة مأساوية من الإحباط بشكل كبير. توقعت مرة ثانية أن يحدث (الكورال) تأثيرًا إيجابيًا”.
صدّقت سوريا عام 2017 على اتفاقية “صون التراث الثقافي غير المادي“، وأُسّس في وزارة الثقافة بالتعاون مع “الأمانة السورية للتنمية” المشروع الثقافي الذي يدير أمور هذا التراث، من خلال “وحدة تطوير ودعم التراث الثقافي الوطني“.
وحصرت الوحدة 100 عنصر من التراث الثقافي غير المادي كمخزون حي، ويتبع هذا المشروع لـ”الأمانة السورية للتنمية” التي تشرف عليها أسماء الأسد، زوجة رئيس النظام السوري، بشار الأسد.
إلا أن التنوع في الموسيقا التقليدية في سوريا لم يلقَ لعقود طويلة العناية اللازمة، إذ لم يتم صونه أو جمعه أو حفظه حتى ضاع الكثير منه، وفق كتاب “الموسيقى التقليدية في سوريا” للمفكر والكاتب السوري حسان عباس.
ولم تنجُ الموسيقا التقليدية من النزاع المسلح، فأغلقت أماكن ممارستها، إن لم تُدمّر، وتشتت صانعوها وحافِظوها وخبراؤها في بلدان العالم، إن لم يُخطفوا أو يقتلوا.
والموسيقا التقليدية، التي تحتاج دومًا إلى مؤسسات للصون والحفظ والتوثيق، تبقى مخازنها صدور أهلها، بحسب الكتاب، فتبقى جذورها حية مهما ارتفع الركام فوقها وزاد حجم الرماد حولها.
بعد 2011، قررت بنوت غناء التراث السوري الذي يشمل جميع المحافظات السورية من الشمال إلى الجنوب، وباللغات الموجودة حتى غير العربية، مثل الكردية والتركمانية والآشورية والسريانية، وأسست في مدينة غازي عينتاب جنوبي تركيا “ملتقى حنين الثقافي”، وضم “كورالًا” من السيدات المسنات في هذا الملتقى.
كانت أهداف “الكورال” والملتقى نفسية واجتماعية، ومساعدة السيدات على الخروج من حالة الاكتئاب، ليعدن لرؤية حياتهن من منظور آخر. ويعتمد الملتقى بشكل أساسي على العلاقات والأصدقاء، لأنه تطوعي ولا يوجد أي عائد ربحي من عمله.
مباركة غنائية لكل امرأة
في أواخر 2016، وصلت بنوت إلى برلين، لينتقل النشاط الأساسي للملتقى إلى هناك، ووضعت ضمن اهتمام الملتقى التبادل الثقافي والتعامل مع المجتمع الألماني لإيصال الرسائل السورية إلى المجتمع الألماني، فضلًا عن خلق حالة إيجابية لدى السيدات السوريات والتضامن في المناسبات.
قدّم الملتقى عام 2021 في اليوم العالمي للمرأة، جوقة غنائية من التراث السوري، بمنزلة مباركة لكل امرأة حملت حكايات الفقدان والتهجير في سوريا.
كان الملتقى مكانًا تجتمع فيه السوريات للقيام بالعديد من النشاطات الاجتماعية، مثل اللقاءات الدورية التثقيفية، وورشات العمل، وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي من خلال تشكيل مجموعة غنائية نسائية لإحياء التراث السوري والتعريف به والحفاظ على الهوية التراثية، وليكون بمنزلة دعوة للاحتفاء بالحياة حتى في وقت النزاعات والأزمات.
وبحسب وصف الموقع الرسمي للملتقى، فبعد النجاح الذي حققه الملتقى في مدينة غازي عينتاب، أُسست مجموعة ثانية في برلين عام 2016، ثم توالى تشكيل المجموعات في عام 2018 بالتعاون مع عدد من السيدات السوريات في بلدان الشتات السوري، لتتشكل “شبكة كورال حنين” التي تتألف حاليًا من 11 مجموعة موزعة على ستة بلدان هي: ألمانيا، وتركيا، وفنلندا، وكندا، وأمريكا، والسويد، ويطمح العاملون في “حنين” إلى استكمال إنشاء مجموعات في كل دول الشتات السوري.
في عام 2018، سُجّل الملتقى رسميًا ضمن قانون منظمات المجتمع المدني في ألمانيا تحت اسم منظمة “NESWA”، لتصير “شبكة كورال حنين” أحد مشاريعها الأساسية.
تضم المجموعات في هذه الشبكة حوالي 175 سيدة، تدير كل مجموعة سيدة مسؤولة عنها وتعمل على التعاون مع الجهات والمنظمات المحلية، وهناك برنامج سنوي مشترك تتدرب عليه جميع المجموعات، بالطرق المتاحة، ومشاريع غنائية عامة لـ”الكورال”، يكون فيها التدريب والتقديم عبر الإنترنت حصرًا، فيما تقوم كل مجموعة بنشاطات منفردة وفق ظروفها في أماكن وجودها، للحفاظ على خصوصية ومرونة عمل كل مجموعة، ويتم تنظيم النشاطات المشتركة من قبل إدارة الشبكة وتقديم الدعم اللازم بكل السبل الممكنة.
–