عنب بلدي – صالح ملص
احتشدت في المحكمة الإقليمية العليا كوبلنز، جنوب غربي ألمانيا، عشرات قصص ضحايا التعذيب في الفرع “251”، التابع لإدارة المخابرات العامة (أمن الدولة) بدمشق، كانت مهمتها الوحيدة خلال عام ونصف من المحاكمة، سرد تجارب تستجدي الاعتراف، لأول مرة، بمسؤولية جنائية قضائية، تتحمّلها أجهزة المخابرات السورية، عن حقيقة بديهية لطالما عرفها السوريون، وهي التعذيب الجسدي والنفسي بحق المدنيين المعارضين للسلطة، والقتل تحت التعذيب.
محاكمة “كوبلنز”، التي انتهت في 13 من كانون الثاني الحالي، بإصدار الحكم الثاني ضد الضابط السابق في المخابرات العامة السورية أنور رسلان (58 عامًا)، بالسجن المؤبد (15 عامًا على الأقل)، أظهرت إفادة شهود قالوا إنهم احتُجزوا داخل الفرع “251”، وعاشوا تجارب متشابهة بعد أن أوقفتهم قوات الأمن.
وبموجب القانون الألماني، فإن الحكم المؤبد يعني السجن لمدة غير محددة، مع إمكانية إطلاق السراح بعد 15 عامًا، بموافقة قاضي المحكمة.
أدانت المحكمة رسلان بتهم ترتبط بجرائم ضد الإنسانية، بما فيها التعذيب، و27 جريمة قتل، و25 حالة اعتداء تشمل العنف الجنسي (قابلة للاستئناف).
وكانت المحكمة أصدرت، في 24 من شباط 2021، حكمها الأول بحق العنصر السابق في المخابرات العامة إياد الغريب (45 عامًا)، بالسجن لمدة أربع سنوات ونصف السنة، لإدانته بالتواطؤ في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
“إن أعظم عمل إنساني هو رد العدالة لمن فقدها”، بحسب تعبير الكاتب الفرنسي فولتير، ولذلك فإن نتيجة الحكم التي انتظرها كثيرون من السوريين تحمل معها دلالات عدة.
تستعرض عنب بلدي في هذا الملف وجهات نظر مختلفة لحقوقيين سوريين قريبين من أحداث المحاكمة، بالإضافة إلى عاملين في مجتمعات الناجين والناجيات من سجون النظام السوري، حول الحكم الصادر بحق أنور رسلان في محكمة “كوبلنز”، بالإضافة إلى الأثر الذي يمكن أن يتركه هذا الحكم والمحاكمة عمومًا على جهود العدالة السورية في المستقبل.
تجربة ملهمة لتحسين الجهود
الحقوقي السوري والموثّق المختص بانتهاكات حقوق الإنسان ضمن نطاق القانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان حسام القطلبي، يرى أن الحكم بحق أنور رسلان مهم معنويًا وأخلاقيًا، لأنه أول حكم يصدر على مرتكب انتهاكات لحقوق الإنسان في سوريا منذ استقلالها حتى اليوم، رغم ما شهده التاريخ السوري من فظائع متتالية.
من ناحية أخرى، وبالنظر إلى حجم هذه الفظائع نفسها، اعتبر القطلبي أن الحكم “ضئيل الأهمية للغاية”، لأنه لا يشكّل بأي حال جزءًا من استراتيجية شاملة للعدالة، والبناء عليه محدود للغاية.
ويرجع القطلبي، خلال حديثه إلى عنب بلدي، ضآلة أهمية هذا الحكم بالإضافة إلى السبب الأول، إلى أن السوريين أنفسهم لا يمتلكون مسار تحقيق العدالة، ولا يسهمون في صياغته، إلا من خلال دورهم كشهود وضحايا، في مقابل الملكية الكاملة لمنظمات دولية وللقرار السياسي الألماني.
وانضم 17 ضحية على الأقل إلى محاكمة أنور رسلان بصفتهم “مدعين متضامنين”، ويحق لهذه الفئة ولمحاميها حضور المحاكمة، وطلب معلومات عن وضع الإجراءات، وإعطاء الإفادات في المحكمة، والوصول إلى الملفات، وطلب قبول أدلة إضافية، وطرح أسئلة على الشهود والخبراء.
والحكم على أنور رسلان “يشكّل عنوانًا عريضًا لعجز العدالة الدولية أمام الملف السوري، وتقديمها بدائل سريعة ومجتزأة من نوع هذا الحكم”، وهو أيضًا يشكّل جزءًا من “مسار ونمط يتم تكريسه لمحاكمات لهاربين وخارجين، تحت عناوين مختلفة من المنظومة والهيكلية الإجرامية في سوريا”، وفق الحقوقي السوري، وضمن هذه المعاني كلها، فالحكم هو “عنوان عجز كبير عن العدالة بدل أن يكون عنوان انتصار لها”.
المعلومات والبيانات المتوفرة بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، لم تساعد على إحراز تقدم في الجهود الدولية نحو تحقيق العدالة على الجرائم الدولية الماضية والحالية، لأنها (سوريا) ليست دولة طرفًا في “المحكمة الجنائية الدولية“.
ولذلك، في حال لم تقبل حكومة النظام السوري ولاية المحكمة للنظر في الجرائم التي ارتكبتها خلال العقد الأخير طوعًا، ستضطر المدعية العامة في هذه المحكمة إلى إحالة الوضع في سوريا إليها من قبل مجلس الأمن، حتى تفتح تحقيقًا هناك.
وفي 2014، استخدمت روسيا والصين حق “الفيتو” اعتراضًا على قرار لمجلس الأمن كان من شأنه منح المدعية هذه الولاية، الأمر الذي حال دون القيام بأي خطوات على طريق ضمان المحاسبة الحقيقية لحكومة النظام، في سوريا أو خارجها، ما أسهم في وقوع مزيد من الانتهاكات.
وفي ظل تعطّل مسار العدالة الدولي لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، سعت المراكز الحقوقية السورية والأوروبية نحو التحقيق في تلك الانتهاكات، والملاحقة القضائية لمرتكبيها، لإحراز قدر محدود من العدالة، وذلك ضمن محاكم محلية أوروبية.
مسار محكمة “كوبلنز” وأحداثها بإمكانه أن يكون بالغ الأهمية، وفق القطلبي، لكن هذه الأهمية مشروطة بإمكانية استخلاص دروس قد تشكّل “بروفة مبكرة” تدفع باتجاه بناء استراتيجية حقيقية لملف العدالة في سوريا.
كذلك فإن أهمية الحكم ضد رسلان تتوقف على القراءة الصحيحة للمحكمة وشهودها، ودور المنظمات الدولية وأجنداتها والتأثير السياسي الدولي فيها، والأطراف المختلفة التي تستثمر في مسار كهذا سياسيًا ودبلوماسيًا وماليًا.
خدمة العدالة بعيدًا عن استثمارها
محاكمة “كوبلنز” هي “نموذج جيد للقياس عليه” بخصوص حرية النقاش المتاحة، برأي القطلبي.
النقد الممكن لمسارات تتعلق بمصير حقوق مئات آلاف الضحايا هو ضرورة في أي عملية قضائية يمكن أن تحدث في المستقبل، دون “إشهار السيوف وتصعيد لغة عنيفة تحتمي بعناوين كبرى وتابوهات مسبقة، بأن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.
كما يجب ألا تشكّل العدالة مجالًا استثماريًا لمصالح خارج مبادئها ونصوصها، بحسب ما أوصى به القطلبي، وكل هذا بحاجة إلى مناخ وفضاء حر لنقاش كل شيء، الأمر الذي “لم يكن بأي حال وفي أي وقت متاحًا خلال مسار محكمة (كوبلنز)”.
خلال المحاكمة، لم تسر الأمور كما هو مأمول لها، بوجود قصور في جوانب عدة، منها تضارب إفادات بعض الشهود، الذين أدلوا بشهادات متباينة حول دور أنور رسلان بانتهاكات حقوق الإنسان في أثناء رئاسته قسم التحقيقات في الفرع “251”، منذ كانون الثاني 2011 حتى أيلول 2012.
بموجب قانون “الجرائم المرتكبة ضد القانون الدولي” الألماني، يمكن للسلطات الألمانية أن تحقّق في الجرائم الدولية الخطيرة المرتكبة في الخارج، وأن تحاكمها حتى عندما لا تكون لهذه الجرائم صلة محددة بألمانيا، ويمكن إجراء التحقيقات في هذه الحالات حتى وإن لم يكن المشتبه به موجودًا على أراضيها أو مقيمًا فيها.
سلطة الادعاء الفيدرالي الألماني والشرطة الجنائية الفيدرالية الألمانية، مسؤولتان عن التحقيق في الجرائم الخطيرة ومحاكمتها بموجب “قانون الجرائم المرتكبة ضد القانون الدولي”. |
مصارحة علنية بشأن التعذيب في سوريا
لا يعترف النظام السوري بالتعذيب في مراكز الاعتقال التابعة له، بالإضافة إلى إنكاره صور “قيصر” التي سرّبها مصور عسكري منشق، والتي كانت الدليل الأبرز في محاكمة أنور رسلان.
أما الضحايا الذين يُقتلون في أقبية وسجون النظام، فيتم تسجيل سبب الوفاة بأنه “سكتة قلبية” أو “فشل تنفسي”، مع الحرص على توثيق الجثث عن طريق تصويرها وترقيمها بما يدل على صاحبها، وهو ما أدى لاحقًا إلى تسريب هذا الكمّ الكبير من الصور على يد “قيصر”، وهي 55 ألف صورة لجثث معتقلين قُتلوا في المعتقلات.
وفي حالة قتل المعتقل تحت التعذيب، يتسلّم أهله شهادة وفاة وقد لا يتسلّمونها، وأغلب أهالي الضحايا لم يتسلّموا جثث أبنائهم، وقد يجبَرون على التوقيع على شهادة بأن “العصابات المسلحة” هي من قتلت ابنهم أو ابنتهم، مقابل تسليم الجثة.
هذه هي الطريقة الشرعية التي يفسر فيها النظام السوري كيف مات معتقلوه، ويظهر في هذه الحالة نمط فردي في تناقل القصص والأحاديث بين الناس حول أشكال التعذيب التي يتعرض لها المعتقل داخل السجن.
إلا أن إدانة أنور رسلان بأربعة آلاف حالة تعذيب داخل الفرع “251” بحكم قضائي ألماني، هو بمنزلة اختبار لمدى جدّية الأدلة التي يمتلكها السوريون بشأن ملف المعتقلين، وجدواها في البناء عليها خلال المحاكمات في المستقبل، بحسب ما قاله مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، في حديث إلى عنب بلدي.
ضمن محاكمة “كوبلنز” ثمة مساحة لسرد تجارب الضحايا والناجين من السجون السورية بشكل جماعي وعلني، وفق ما قاله العبد الله، يستمع لهذه الشهادات قضاة، وتتناقلها وسائل إعلام عربية وعالمية، وهذا الحدث يعتبر سابقة في تاريخ سوريا.
كما أن حجم الشهادات التي استمع إليها القضاة كان معززًا لشرح تفاصيل الحياة اليومية داخل الفرع “251”، وإدخال القضاة نسبيًا إلى صورة التعذيب في الفرع، لأن القضاة حين يشاهدون صور “قيصر” لن يفهموا كيفية حدوث ذلك، والأسباب التي أدت إلى قتل الضحية بهذه الطريقة.
بعيدًا عن العناوين الرنانة
تضخيم المحاكمة ليس من مصلحة الضحايا
على الرغم من أهمية المحاكمة، لن يكون لتضخيم أثرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام من مصلحة الضحايا، وفق ما يراه الناشط الحقوقي محمد العبد الله، إذ قد يخيّم على المجتمع الدولي الاعتقاد أن “العدالة قد تحققت وانتهى الأمر”، الأمر الذي يشجع أكثر بعض بلدان الاتحاد الأوروبي على ترحيل اللاجئين السوريين، وإجراء محاولات لعودة العلاقات مع النظام السوري.
ذكرت “الآلية الدولية المحايدة والمستقلة لسوريا“، أن عدد المفقودين منذ بداية الصراع في سوريا يقدّر بأكثر من 100 ألف شخص، رغم تعذّر التحقق من دقة الحصيلة.
يستخدم النظام الاختفاء القسري كنوع من أنواع العقاب والانتقام، ويمكن أن يطال أقارب لشخص مطلوب للأمن، أو يمكن أن يطال عنصر الأمن أو الجيش الذي يرفض إطلاق النار على المتظاهرين، في الوقت الذي يوجد فيه رفض منهجي من قبل السلطة للكشف عن مصير المعتقلين، حتى إنه لا يتم الاعتراف باعتقالهم أصلًا.
وتجاهلت محكمة “كوبلنز” المطالب الحقوقية بتضمين الاختفاء القسري كجريمة إضافية ضد أنور رسلان، إذ طالبت عدة شخصيات ومنظمات سورية حقوقية، خلال تشرين الثاني عام 2021، بتضمين هذه التهمة في قائمة الاتهام ضد رسلان، مستندة إلى اعتقاد يقيني بوجود ارتباط عضوي بين الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري في جميع مراكز الاعتقال التابعة للنظام السوري، ومن ضمنها الفرع “251”.
وإدراج المحكمة هذه الجريمة بلائحة الاتهام، كان من شأنه تعزيز رواية الضحايا والناجين الذين ادّعوا بوجود أشخاص دخلوا دائرة مجهولي المصير، بعد أن اُعتقلوا داخل مراكز الاحتجاز التابعة للنظام السوري، ما يجعل القضاء الأوروبي مطالَبًا بالتحقيق بمصير أولئك الأشخاص، بهدف تسليط الضوء على الجريمة والتعريف بها وبنتائجها.
وفي قرارها الصادر في 10 من تشرين الثاني 2021، أكّدت الجمعية العامة للأمم المتحدة انتشار ممارسة الاختفاء القسري في مراكز الاحتجاز المشار إليها في تقارير لجنة التحقيق الدولية الخاصة بسوريا، بما يشمل، على سبيل المثال لا الحصر، الفرع “215”، والفرع “227”، والفرع “235”، والفرع “251”، وفرع التحقيقات التابع لـ”المخابرات الجوية” في مطار “المزة العسكري”، وسجن “صيدنايا”.
الاعتراف بالانتهاك الجنسي
أهمية الحكم، وفق ما يراه مدير مبادرة “تعافي”، أحمد حلمي، في حديث إلى عنب بلدي، لا تأتي من أهمية المحكوم عليه، ولا من أهمية منصبه أو رتبته العسكرية، أو مدة الحكم الذي صدر بحقه، إنما تكمن في مكافحة الإفلات من العقاب الذي كانت تعيش ضمن فلكه جميع المؤسسات الأمنية السورية.
كما أُدين رسلان بحكم قضائي تاريخي باعتداءات عامة ضد المعتقلين في الفرع “251”، منها العنف الجنسي والتحرش الجنسي، وهو ما استخدمه النظام السوري، وفق حلمي، وهذا الانتهاك لم يأخذ مساحته الكافية من الاهتمام، كون “وصمة العار” واحدة من المشكلات التي تواجه المعرّض للاعتداء الجنسي في المجتمع بعد إطلاق سراحه، خصوصًا إذا كان امرأة.
وكان شكل الانتهاك الجنسي على درجات داخل مراكز الاعتقال في سوريا، مثل الاغتصاب، وإدخال أجسام صلبة، والتعري القسري لمدة طويلة، والتحسس الجنسي، والضرب على الأعضاء الجنسية.
النساء من المعتقلات السوريات كنّ عرضة للاعتداءات الجنسية في مراكز الاعتقال التابعة للنظام السوري، ويشكّل هذا السلوك جريمة حرب في أي وقت اُرتكب، ويصل إلى مستوى الجريمة ضد الإنسانية، في إطار الهجوم المنهجي الواسع النطاق الموجّه ضد المدنيين.
وفي بعض الحالات، تعرّضت فتيات لا تتجاوز أعمارهن 13 عامًا، كنّ محتجزات مع البالغات، للاعتداء الجنسي من قبل موظفي السجن وعناصر الأمن، بحسب ما ورد في التقرير التاسع لـ”لجنة التحقيق الدولية المستقلة الخاصة بسوريا”.
ويتفق حلمي مع الحقوقيين حسام القطلبي ومحمد العبد الله، بأن “الحكم حوّل وقائع وأحداث التعذيب من شهادات الناجين إلى قرار محكمة يشكّل قاعدة لمحاكم مستقبلية”.
ومن المؤكد أن “هذه المحاكم لن تحقّق العدالة للسوريين، لكن هذا الحكم حقّق نصرًا صغيرًا لهم على المستوى القانوني، وخطوة صغيرة على طريق العدالة”، وفق ما عبّر عنه حلمي.
ومن جملة الجرائم ضد الإنسانية المنصوص عليها في المادة السابعة من “نظام روما الأساسي“، جرائم الإبادة، والاختفاء القسري للأشخاص، والاستعباد (الاسترقاق)، والنفي والإبعاد أو النقل القسري للسكان، والسجن أو الحرمان الشديد من الحرية البدنية، والتعذيب، والاغتصاب، والاستعباد الجنسي، والدعارة الإجبارية، والحمل الإجباري، والتعقيم الإجباري للنساء، وأي صورة أخرى من صور العنف الجنسي.
استندت محاكمة “كوبلنز” إلى مبدأ “الولاية القضائية العالمية”، الذي يشير إلى الأطر القانونية التي تسمح للنظم القضائية الوطنية بالتحقيق في بعض الجرائم ومقاضاة مرتكبيها، حتى لو لم يرتكبها أحد رعاياها على أراضي البلد أو ضد أحد رعاياها.
تستخدم بعض البلدان الأوروبية، بما في ذلك ألمانيا وفرنسا والسويد، قوانين “الولاية القضائية العالمية” للتحقيق في الادعاءات بارتكاب جرائم خطيرة في سوريا. وفي حين أن من الأفضل، من حيث المبدأ، إقامة العدالة في البلدان التي تُرتكب فيها الجرائم، فإنه لا يكون ذلك ممكنًا في كثير من الأحيان. “الولاية القضائية العالمية” تقلّل من فكرة “الملاذ الآمن” التي قد تمكّن مرتكبي هذه الجرائم من الإفلات من العقاب، وتوجه إشارة قوية إلى طبيعة الجرائم الأساسية وخطورتها. |
“فرصة ضائعة”
كتب الصحفي والحقوقي السوري منصور العمري في مقال نشرته منظمة العفو الدولية، بعنوان “تأملات في محاكمة التعذيب السورية في كوبلنز“، أن “الحكم على الجاني وتعويض الضحايا، هما نتيجتان أساسيتان متوقعتان للإجراءات القانونية في أنظمة العدالة بجميع أنحاء العالم. ومن المتوقع أيضًا أن تكون إجراءات المحكمة نفسها عادلة لمجتمعات الضحايا”.
ومع ذلك، “لا يمكنني القول إن هذه هي الحال في محاكمة كوبلنز”، وفق ما يراه العمري، إذ حكمت المحكمة على رسلان لكنها لم تعوّض ضحاياه. ويتضمّن القانون الدولي التزامات قانونية واضحة يجب على الدول التصرف وفقًا لها مع واجب تعويض ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان.
و”يشمل التعويض الذي فوّته المدعون في محاكمة كوبلنز الفرص الضائعة، بما في ذلك العمل والتعليم، والأضرار المادية وفقدان الدخل”، وفق العمري، بما في ذلك “خسارة الكسب المحتمل”.
ويجب أن يكون هناك أيضًا تعويض عن “الأذى الجسدي أو النفسي”، وفق العمري، و”التكاليف المطلوبة للمساعدة القانونية أو مساعدة الخبراء، والأدوية والخدمات الطبية، والخدمات النفسية والاجتماعية هي أجزاء أساسية من التعويضات، وكذلك إعلان رسمي أو قرار قضائي يعيد الكرامة والسمعة وحقوق الضحية والأشخاص الذين هم على صلة بالضحية عن كثب، والاعتذار العلني، بما في ذلك الاعتراف بالوقائع وقبول المسؤولية”.
في الوقت نفسه “أظهرت المحاكمة أهمية جهود التوثيق، ومشاركة الضحايا، وجهود الشركاء غير السوريين، مثل ورش العمل الاستراتيجية، ومشاركة المعلومات، وتمويل مبادرات العدالة”، وفق العمري، و”بالنسبة للعديد من السوريين، وخاصة ضحايا التعذيب، كان للمحاكمة تأثير رمزي وعاطفي كبير”.
تسلّق على أكتاف المحكمة؟
من حيث المبدأ، الحكم ضد رسلان جيد، وكذلك دور المحكمة، ولكن لدى المؤسس المشارك لـ”رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا”، دياب سرية، مآخذ على ما حصل بشأن محكمة “كوبلنز”، وهي أن المحكمة حُمّلت أكثر مما تحتمل من خلال تضخيم نتائجها.
وأضاف سرية، في حديث إلى عنب بلدي، أن تضخيم القضية، ووصف المحاكمة بأنها “بوابة لتحقيق العدالة للناجين والناجيات، وستحقق العدالة لكل السوريين”، جميع تلك الأوصاف أساءت لمشاعر الضحايا وللمحاكمة بحد ذاتها، من خلال “التسلّق على أكتاف هذه المحكمة من قبل بعض الشخصيات، والتسلّق على أكتاف الضحايا، كذلك بعض الأشخاص طلبوا الشهرة من وراء هذه المحاكمة، ولم يكن هدفهم العدالة صراحة”.
ولم تكن المنظمات الحقوقية السورية والدولية على قدر من المسؤولية ضمن مسار معقّد للمحاكمة، من وجهة نظر سرية، إذ لم يتوجهوا لمجتمعات الضحايا بشكل كافٍ، ولم يضبطوا توقعات الناس بما يتناسب مع حجم الأدلة، ولم يكن هناك وعي لأهمية ذلك.
التصريحات التي صدرت من قبل بعض الحقوقيين والمنظمات العاملة في هذه المحاكمة لم تكن منضبطة، بحيث رفعت سقف توقعات الجمهور بطريقة مبالغ فيها، الأمر الذي انعكس بشكل سلبي على الناجين والناجيات، وبدا أنهم في حيرة من أمرهم في الحكم على نتائج المحاكمة.
المحكمة على المحك
مناقشة نتائج التجربة إلزامية
“فرع الخطيب ما زال موجودًا، وهناك أشخاص يتعرضون للتعذيب فيه حاليًا. أنور كان فاعلًا بفترة معيّنة فقط، وهذه محاكمته فقط، وليست محاكمة (الخطيب)، فرع (الخطيب) ما زال يعتقل الأفراد، وجميع الأفرع الأمنية ما زالت كذلك (…)، لذلك، الحكم هو قليل من العدالة لبعض السوريين وهذا هو سقف المحكمة”، وفق ما قاله سرية.
وبعيدًا عن أي تشنّج حدث خلال المحاكمة، من الواجب إجراء مناقشة دقيقة وشاملة بشأن المحاكمة من قبل الحقوقيين السوريين المعنيين فيها، وفق ما أوصى به سرية، أهم هذه النقاشات هي بشأن كيفية وصول أنور رسلان إلى ألمانيا بتأشيرة من العاصمة الأردنية عمان، بتزكية من المعارض السوري البارز رياض سيف، دون شعوره بأي عناء، واعتماده مستشارًا أمنيًا لـ”هيئة التفاوض السورية”، ووجوده في صف المعارضة السورية في مؤتمر “جنيف 2” عام 2014.
المحاكمة ضمن سياقها المناسب
خلال محاكمة أنور رسلان، لم يعترف أبدًا بأي جرم أسندته المحكمة إليه ضمن مسؤوليته الجنائية الشخصية.
وخلال جلسات المحاكمة عام 2020، أكّد الشاهد رجل الأعمال السوري والمعارض السياسي رياض سيف، أمام المحكمة، أنه ساعد في جهود رسلان لدخول ألمانيا عام 2014 بتأشيرة صادرة عن السفارة الألمانية في العاصمة الأردنية عمان، من خلال إرسال المستندات المتعلقة بطلب لجوئه إلى وزارة الخارجية في برلين.
وقال سيف، إنه أيّد انشقاق رسلان على أمل الحصول على معلومات قيمة تتعلق بمصير المعارضين السياسيين الآخرين داخل الفرع “251”، ومع ذلك، تجاهل رسلان إيصال أي معلومة، ووفق ما قاله سيف، “لم نحصل على شيء من أنور رسلان، ولا كلمة أو معلومة”.
وفي حزيران 2012، قرر سيف مغادرة سوريا، حيث يعيش الآن في العاصمة الألمانية برلين.
وفي ألمانيا، طلب صهر سيف تأمين الدعم لضباط في المخابرات السورية يرغبون بالانشقاق، ليسمع باسم الضابط المتهم أنور رسلان لأول مرة في آب عام 2013.
محاكمة أنور رسلان لم تكن لأسباب شخصية متعلقة بعدم تعاونه مع المعارضة السورية بإطار “تصفية حسابات”، وإنما كانت “ضمن سياق محدد وهو تحقيق العدالة لضحايا الانتهاكات في فرع (الخطيب)، وأخذت فترة طويلة لجمع وفحص الأدلة”، بحسب ما قالته المحامية السورية والزميلة الباحثة ببرنامج الجرائم الدولية والمحاسبة في “المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان” جمانة سيف، في حديث إلى عنب بلدي.
ويعتبر “المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان” طرفًا في فريق الادعاء ضد أنور رسلان وإياد الغريب ضمن المحاكمة.
لم يضع رسلان كل ما يملكه وما يعرفه عن عمليات التعذيب في خدمة العدالة، بل تكتّم عليها، فضلًا عن أن انشقاق أي مسؤول في النظام السوري وانضمامه للمعارضة، يجب ألا يكون وسيلة لتبرئته من الأفعال الجرمية التي ارتكبها قبل انشقاقه.
والحكم على أنور رسلان يخلق، بحسب ما تعتقده المحامية سيف، أساسًا متينًا للمدعين العامين الأوروبيين، لمتابعة المزيد من الإجراءات بما يرتبط بمحاكمة منتهكي حقوق الإنسان في سوريا.
وبحسب ما تراه سيف، فإن أي جانب من جوانب المحاكمة أحيطت به إشكاليات عدة، سيتم الاستفادة من هذه الخبرات لضمان عدم تكراراها في المحاكمات المقبلة، إذ يعمل “المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان” على رصد جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في بلدان عدة، من ضمنها سوريا، بموجب اختصاص عمله الحقوقي.
وفيما يتعلق بـ”الإفادات المتضاربة” لبعض الشهود، فإن القاضي غير ملزم بأخذ ما ورد فيها حتى على سبيل الاستئناس، ولم يؤخذ بها خلال تحديد الحكم، وفق ما قالته المحامية سيف، فضلًا عن وجود شهادات شُطبت وتم تجاهلها من قبل المحكمة.
وتوجهت عنب بلدي إلى المدير التنفيذي لـ”المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية”، أنور البني، وسألته عن رأيه في الحكم على أنور رسلان، باعتبار أن المحامي البني كان أحد محامي المدعين في المحاكمة.
لم تتلقَّ عنب بلدي إجابة من المحامي البني عن السؤال، في الوقت الذي أجاب عن نفس موضوع السؤال لموقع “الحرة“، في 13 من كانون الثاني الحالي، واصفًا الحكم بـ “التاريخي”، وقال، “إنه انتصار للعدالة كمبدأ. انتصار بعيدًا عن تدخل السياسيين. العدالة الحالية صنعها الضحايا بأيديهم”.
واعتبر المحامي البني أن إدانة رسلان هي “إدانة لكل منظومة المجرمين في سوريا. رسلان هو جزء من منظومة منهجية لقتل وتعذيب واعتقال السوريين، وممارسة العنف الجنسي ضدهم”، وفق ما نشره موقع “الحرة”.
وفي 18 من تشرين الثاني 2021، رفضت المحكمة اقتراح فريق الدفاع عن المتهم رسلان استدعاء المحامي أنور البني للإدلاء بشهادته حول “إفادات متضاربة” تعود لشهود قدّمهم البني لسماع المحكمة إفادتهم.
واقترح فريق الدفاع عن رسلان على المحكمة استدعاء المحامي البني كخطوة للبحث والتدقيق في علاقته مع الشهود، وإمكانية أن تكون شهادة الشهود قد “أُمليت عليهم من قبل البني”.
أدى تمادي النظام السوري في استخدام القوة المفرطة بمواجهة الاحتجاجات السلمية عام 2011، إلى اتساع الانتهاكات ضد حقوق الإنسان، وتعاظم العنف المسلح، خلال عقد كامل في سوريا، ولم يعد ارتكاب الجرائم الخطرة مقتصرًا على قوات النظام، بل إن أطرافًا أخرى داخلية وخارجية صارت ضالعة بتلك الانتهاكات التي اتسعت أشكالها، لتطال آثارها معظم السوريين، فلكل رجل أو امرأة أو طفل مأساة يتقاسمونها مع ضحايا النزاع، فقدان الأقارب، وفقدان الممتلكات، وفقدان الحقوق، وفقدان الأمل، وثمة بينهم من فقدوا كل شيء.
وأبرز معالم العدالة الانتقالية المنشودة في سوريا هو محاكمة الأشخاص الذين يتحملون أكبر قدر من المسؤولية عن الجرائم الأكثر خطورة، وقد يتحملون مسؤولية فردية مباشرة عن الجريمة.
وتعتمد الآليات القضائية أو غير القضائية على التحقيق والتوثيق للجرائم والانتهاكات التي حدثت في سوريا بعد 2011، من خلال تقصي الحقائق، والتعويض، والتحري، وتقع مسؤولية هذا الجهد على الناشطين السوريين، والصحفيين، ومنظمات المجتمع المدني، خصوصًا الحقوقية منها، وصانعي السياسات.