“بقعة ضوء” الذي لم يمت بعد
نبيل محمد
مثير للاستغراب هذا الإصرار على إنتاج أجزاء جديدة من أعمال تلفزيونية سورية نالت في يوم من الأيام شعبية مبنية على حداثة طرح تلك الأعمال، أو على جرأتها حين كان للجرأة شكل ومعايير في السجن السوري الكبير، فتعلّقَ الجمهور بأجزائها الأولى، ثم تحوّلت إلى ما يشبه القدر المحتوم عامًا بعد عام، وتحوّل إنتاجها السنوي إلى ما يشبه محاولة بث الروح في جسد ميّت، فيصر المنتج والمخرج وجميع الكوادر على إقناعك بأن العمل مستمر ويحافظ على جودته، فيما سلبية شعورك تجاهه تزداد وتأخذ مفعولًا رجعيًا بحيث تبدأ بانتقاد وكره قديمه إضافة إلى جديده. هكذا تمامًا يحدث مع “بقعة ضوء”، المسلسل الذي دخل جزؤه الـ15 مرحلة التصوير مؤخرًا، بعد أن استقدم منتجوه ستة مخرجين للعمل فيه.
المخرجون الجدد في “بقعة ضوء” هم من الأسماء الجديدة في عالم الإخراج، أسماء بعضهم لا تبدو غريبة عن الأذن، فهي أسماء أبناء مخرجين سوريين، كعمرو حاتم علي ومجيد باسل الخطيب، أما الباقون فعلّها تجربتهم الإخراجية الأولى، سيُطلب منهم كما طُلب خلال السنوات السابقة من أسلافهم في العمل ذاته، تجديد المسلسل، وإخراجه بحلّة تعيده إلى جمهوره، الذي يفترض منتجو العمل أنه ما زال متمسّكًا به، أو حاملًا إرثه في وجدانه منتظرًا من يعيد إليه حيويته.
لا شك أن آلافًا من متابعي، بل وعشاق، “بقعة ضوء” في أجزائه الأولى، لم يشاهدوا الأجزاء الأخيرة التي بُثَّت منه خلال السنوات السابقة، والتي لم تلقَ لا إقبالًا ولا نقدًا وتقييمًا، حتى إنه عند استعادتها عبر “يوتيوب”، سيخطر على بال المشاهد سؤال لا شيء سواه، “كيف مرّ كل هذا دون أن يعقّب عليه أحد؟”، فما تضمّنته الأجزاء السابقة خاصة من الموسم التاسع فصاعدًا، تضمّن مستوى من الرداءة غير المستغربة كونها أصابت مسلسلات عدّة بل ولعلها أصابت الدراما السورية ككل، إلا أنه يحمل في طياته أيضًا معنى ووظيفة الكوميديا التي يريدها النظام السوري بعد 2011.
قدّم “بقعة ضوء” خلال ستة مواسم، ولا بد أنه سيقدم خلال الموسم المقبل، كل ما يخطر على بال أي مشاهد سوري من رسائل سياسية يكرر النظام السوري بثها عبر قنواته وألسنة أبواقه، في “بقعة ضوء” يمكنك أن تجد نظريات خالد العبود، وسفاهة بسام أبو عبد الله، وكذب بثينة شعبان، وبكائيات بشار الجعفري، مسلسل في كل لوحة تحمل مضمونًا سياسيًا أو حتى اجتماعيًا تجد حضورًا لقوالب النظام الجاهزة في فهم الأشياء وتصدير مصطلحاته ونظرياته عنها، أما مساحة النقد التي كانت أساسًا هي الثيمة التي نال عليها المسلسل شهرته في 2001 و2002 وما بعدهما، فتأخذ شكل انتقادات الصحف الرسمية التي تحارب الفساد منذ نعومة أظافر الفساد ذاته.
تجبرك الأجزاء الجديدة من المسلسل على مراجعة الرؤية في الأجزاء القديمة، بل وعلى العودة إلى محطات أساسية في تجربة “بقعة ضوء” ومشاهدتها، تلك التي كانت في زمنها تطرفًا في النقد على المستوى السوري، جرأة يستغرب المشاهد أحيانًا كيف مرّت، ثم ما إن يقرأها بسياقها وبسياق الواقع السوري سيعرف أنها الجرأة المصرَّح بها، المتنفّس المسموح، الذي مُنح لـ”بقعة ضوء” ولـ”مرايا” ولأعمال أخرى.
ستبتعد كمشاهد عن رؤية جمالية العمل متأتية من الجرأة، بل إن هذه الجرأة لم تعد هي صفة اللوحة التي تعجبك في المسلسل، سيصبح إعجابًا “نوستالجيًا” بأماكن وقصص وشخصيات من الذاكرة، بممثلين كنت تحبهم عندما كانوا على تلك الهيئة، بكوميديا كانت أشبه باستثناء، إذ لم تنجح الدراما السورية تاريخيًا بصناعة الكوميديا بشكل مميز. ستتذكّر أيضًا أن هناك كتّابًا أقبلوا على “بقعة ضوء” محاولين الكتابة بحرية، وصياغة لوحات ذكيّة ترمّز إلى أبعد مما هو انتقادات بسيطة، وأن بعضهم غيّبته سجون الأسد بعد اندلاع الثورة كالكاتب عدنان الزراعي، الذي عرف الجمهور اسمه في لوحات المسلسل الذي سيجد اليوم في موسمه الجديد كتّابًا كثرًا قادرين على كتابة اللوحات الناقدة، فما أسهل هذه الكتابة في سوريا اليوم.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :