وحيد في المكتبة

  • 2022/01/09
  • 9:08 ص

إبراهيم العلوش

لم يكن حافظ الأسد يحب قراءة الكتب، ولم يكن يحب كل من يقرأها أيضًا، ورغم ذلك استولى على اسم المكتبة الوطنية وأطلق عليها اسمه، ووضع تمثاله الذي يجلس فيه على كرسيه ويدير ظهره للمكتبة، وعينه على فرع المخابرات المقابل في طلعة الجمارك، وعلى مبنى الإذاعة والتلفزيون، وأذناه تنصتان إلى كل نأمة تصدر من مبنى الأركان على شماله!

كان حافظ الأسد مدمنًا على قراءة الوشايات والتقارير التي كرّس حياته لها، ولا يثق بالمثقفين، وخنق جيل الثمانينيات من الشباب السوري المثقف الذي كان يطمح إلى دولة الحرية، ولعل قصته مع سعد الله ونوس ومع ممدوح عدوان تعبّر عن خيبة أمله بالمثقفين الذين تجرؤوا على انتقاده مباشرة عندما أتاح لهم فرصة لقائه من أجل أن يتوجهوا إليه بالمزيد من المديح وأن يتباركوا به، وهم يتلمسون أناه المتورمة إلى حد الانفجار.

ولم يكن من المستغرب أن تُغير الطائرات على المراكز الثقافية من بين ما أغارت، وكان قصف المكتبة في المركز الثقافي بالرقة في آذار 2013 مفصلًا مهمًا في تاريخ المدينة، فتلك المكتبة كانت تمثّل رمزًا نبيلًا لأهالي الرقة، وقد جُمعت الكتب فيها منذ الخمسينيات عندما كانت المكتبة في النادي الثقافي ضمن أحد البيوت.

وتربينا على ارتياد المركز الثقافي منذ طفولتنا في السبعينيات حتى الأيام الأخيرة قبل أن تصل الطائرات التي أرسلها ابنه بشار لتدمير ذاكرة المدينة، وليعلن عداءه للمدنيين الذين فروا مذعورين إلى الأرياف القريبة، وإلى المدن المجاورة، وإلى تركيا، في أكبر حركة إخلاء وتهجير شهدتها الرقة منذ العام 1860 تاريخ بدء إعادة تأهيلها لتصير محافظة مستقلة بعد مئة سنة. وقد أعلنتها حكومة جمال عبد الناصر في 1961 محافظة تحمل اسم محافظة الرشيد، تيمنًا باسم الخليفة هارون الرشيد الذي سكن فيها بين عامي 796 و809 ليتغيّر اسمها لاحقًا إلى محافظة الرقة.

كانت المكتبة مأوانا، وكانت الكتب والمجلات تسليتنا الوحيدة في عصر ما قبل التلفزيون وقبل عصر الإنترنت بكثير، وأسهمت المعارض الفنية التي كان يقيمها الأستاذ عبد الغفور الشعيب بشكل متواصل مستفيدًا من علاقاته الشخصية مع الفنانين، ومع الكتّاب، ومع موظفي الوزارة، بجعل المركز الثقافي بالرقة أحد أبرز المراكز في سوريا، وقد طُرد عبد الغفور الشعيب من الإدارة واعتقل في الثمانينيات أيام محمد سلمان الذي كان محافظًا يتكلم باسم المخابرات!

أتجوّل اليوم بمكتبة “أولومب” في ستراسبورغ، وأنا أتذكّر مكتبة المركز الثقافي في الرقة التي قضيت فيها جزءًا من حياتي بالإضافة إلى المكتبات الأخرى وأهمها مكتبة “الأسد” في دمشق، والمكتبة الوطنية بحلب، فالمكتبات كانت مأوى المثقفين وأماكن تجمعهم قبل أن يفروا منها وتصير الخمارات هي المراكز التي يلتقون فيها!

تتسم مكتبة “أولومب” بتنظيمها وبحركة الموظفين فيها وتعدد اختصاصاتهم ومهاراتهم، فكل ساعة يتم تغيير أماكن عمل الموظفين، وينتقلون متبادلين أماكن عملهم منعًا للملل، وبحثًا عن التنوع الذي يجعل المكتبة بنظر مرتاديها مكانًا حيويًا يعج بالحركة وبالنشاط، بينما كنا نقضي سنوات طويلة نتعامل مع نفس موظف المناولة في المكتبة أو نفس موظفة النشاطات في مكتباتنا. حتى مخبرو أجهزة المخابرات الذين يغطون نشاطات المكتبات هم نفسهم يحضرون المحاضرات ويدوّنون نفس الأشياء الغامضة في أجنداتهم التي كانوا يحملونها دائمًا في أيديهم، وقد ملّوا أخيرًا من تمثيل الأدوار المشاكسة عندما كانوا يسألون أسئلة معارضة عسى أن ينساق أحد ما معها ويتورط بالحديث والكشف عن رأيه لينتهي به الأمر إلى الاستدعاء إلى المفرزة أو إلى الفرع الذي يرأسه خفاش متوارٍ عن الناس خلف أسوار الفرع، وقرب الزنازين التي يستمتع بسماع أصوات التعذيب الصادرة منها.

أجلس وحيدًا في المكتبة في بدء فتح أبوابها، إذ ينتظم الموظفون في مكاتبهم أو ينشغلون بإعادة تنضيد الكتب، وأنا منقطع إلى المقارنة مع المكتبات التي ارتدتها في سوريا قبل أن يتحول جزء كبير منها إلى خراب أو إلى مرتع للمخبرين وللمنافقين حتى صارت وظيفة المثقف في دولة الأسد هي العمل على ترويج حكمة القائد، ودولة القائد، وبراميل القائد، والاحتلالات التي استضافها القائد وشبيحة القائد.

أكملت الطائرات الروسية تدمير المركز الثقافي بالرقة في 4 من شباط 2016، وحوّلت أكثر من عشرة آلاف متر مربع إلى ركام بحجة محاربة الإرهاب ونصرة نظام الأسد الذي يرفضه معظم السوريين ولا يطيقون بقاءه!

وهكذا بقينا بلا مكتبة نقرأ فيها ونحفظ ذاكرتنا وتراثنا في رفوفها، ليأتي التحالف الدولي بطائراته التي تطارد “داعش” وتحوّل المدينة إلى أكبر كومة من الخراب في العالم، وها أنذا أتجول اليوم في المكتبة الفرنسية علّني أجد كتابًا باللغة العربية، أبحث عبر الخدمة الإلكترونية فلا أجد إلا عناوين لا تنتهي باللغة الفرنسية، عناوين بكل الفنون والآداب والعلوم ولا أجد أخيرًا إلا كتب تعليم اللغة الفرنسية للعرب، فأتناول واحدًا منها لإكمال مسيرة التعلّم، علّني أستطيع كسر عزلتي في هذه المكتبة الكبيرة التي أجلس فيها وحيدًا ولا أستطيع تلبية نداء العناوين الفرنسية المغرية للقراءة وللتفكير، ولعلّني أستطيع إعادة وصل ما تقطّع من حبال الأمل التي مزقتها الحرب ضد الشعب السوري!

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي