عنب بلدي – لجين مراد
“كل النجاحات في حياتي، وفي كل خطوة أخطوها، يبقى هدفي الأول أن أثبت للمجتمع الذي ما زال ينبذ المكفوف، أننا قادرون على أن ننتج، وأن نكون جزءًا من نجاحات المجتمع”، بهذه الكلمات اختصرت خلود الحجي (36 عامًا) الهدف الذي أمضت معظم سنوات عمرها بالعمل للوصول إليه.
وسط بيئة تقيّد القدرات وتضع سقفًا للأحلام، يحمل المكفوفون في إدلب رسالة بعنوان “لسنا أحجارًا”، في محاولة لإضاءة عتمة عقول المبصرين، ليدركوا أن المكفوف جزء من المجتمع المنتج وليس “عالة” عليه.
يعيش في إدلب ما لا يقل عن 3015 مكفوفًا بأعمار متفاوتة، في ظل غياب الدعم الكافي لتقديم الخدمات التعليمية والتنموية والثقافية، بحسب “الجمعية العامة للمكفوفين” في إدلب.
“لسنا أحجارًا جامدة”
روت معلمة الأطفال المكفوفين ونائبة رئيس “الجمعية العامة للمكفوفين”، خلود الحجي، لعنب بلدي، كيف استطاعت التغلّب على نظرة المجتمع، وتحقيق العديد من النجاحات متجاوزة ما يعتبره المجتمع “إعاقة”.
تخرجت خلود في الجامعة بتخصص العلاج الفيزيائي، وحصلت على العديد من الشهادات في دورات أجرتها بمختلف المجالات التي تناسب ميولها، إلى جانب حصولها على بطولة الشطرنج للمكفوفين وممارستها رياضة كرة الهدف.
وخلال السنوات الماضية، عملت خلود معلمة للأطفال المكفوفين لتعول أسرتها، وتثبت للمجتمع أنها قادرة على أن تكون جزءًا منه، في مجالات الحياة كافة، وفق تعبيرها.
وتحاول خلود من خلال عملها أن تبرهن لأهالي الأطفال المكفوفين وللمكفوفين أنفسهم، أن العجز خيار بإمكانهم تجاوزه، إذ إنها تؤمن بأن تجاوز نظرة الإعاقة تبدأ من داخل البيت، ومن رغبة الإنسان الداخلية.
ثائر حاج علي، مكفوف يبلغ من العمر 27 عامًا، قال لعنب بلدي، “نحن لسنا أحجارًا جامدة، نحن متعلمون، ونستطيع أن نعلِّم ونتعلّم في كل وقت وكل حين”، رافضًا نظرة المجتمع التي ما زالت تعوق المكفوف.
وأضاف ثائر أن المجتمع في إدلب اليوم بحاجة إلى المكفوفين، تمامًا مثل حاجته إلى بقية الأفراد الفعّالين فيه، مؤكدًا أنه يسعى للحصول على فرصة عمل، ويرفض أن يكون “متسولًا” على باب المنظمات.
“قلوب مبصرة”
شهد قطاع تعليم المكفوفين في إدلب حالة ركود طويلة جرّاء النزاع المستمر في سوريا، ولسنوات حُرم المكفوفون من حقهم بالتعليم باستثناء بعض الدورات التثقيفية التي أجرتها المنظمات.
وفي عام 2019، أُسست مدرسة “قلوب مبصرة” التي تمكّنت من تعليم العديد من الأطفال مناهج الحكومة بطريقة “بريل”، لتكون أول مدرسة مجانية متخصصة بتعليم الأطفال المكفوفين.
وتضم المدرسة سبع مراحل دراسية، من المرحلة التحضيرية حتى الصف السادس، لكن الدعم المحدود للمدرسة حدّ من قدرتها على استقبال المزيد من الطلاب وافتتاح صفوف لمراحل دراسية إضافية، وفق ما قاله مدير المدرسة، فواز جميل الأبرش، في حديث إلى عنب بلدي.
وأضاف المدير أن المدرسة تواجه العديد من الصعوبات، أبرزها عدم توفر عدد كافٍ من الكتب المطبوعة بطريقة “بريل”، لافتًا إلى أنهم بدؤوا بتجاوز هذه المشكلة من خلال توفير طابعة بلغة “بريل”.
من جهتها، قالت المعلمة خلود الحجي، إنها كانت تطبع الكتب بطريقة يدوية قبل توفير الطابعة، نظرًا إلى حاجة الطلاب للحصول على المناهج التعليمية.
ويعمل الكادر التدريسي الذي تحدثت إليه عنب بلدي في المدرسة، ومعظمه من المكفوفين، على بناء الجانب الثقافي والنفسي في حياة المكفوف، إذ قالت خلود، إنها تسعى من خلال العلم الذي تقدمه لجعل المكفوف يدرك أنه ليس عاجزًا، وتعمل على تعزيز ثقته بنفسه وقدراته.
كما قالت إحدى أمهات الأطفال المسجلين في مدرسة “قلوب مبصرة”، وتدعى نعمة وليو (35 عامًا)، إن المدرسة أسهمت بإظهار قدرات طفلها رضا (تسعة أعوام)، وجعلت لحياته هدفًا مهمًا، وهو العلم.
المواصلات والتنميط
تعاني خلود الحجي بشكل أساسي من التنقّل داخل الشوارع، إذ إن نظرة المجتمع السلبية خلال تنقّل المكفوف في الشوارع، بالإضافة إلى المواصلات العامة غير المهيأة لنقل المكفوفين، تجبرها على التنقل باستخدام سيارات الأجرة.
وتعتبر سيارات الأجرة خيارًا صعبًا بالنسبة إلى خلود وغيرها من المكفوفين الذين تحدثت إليهم عنب بلدي، في ظل الوضع المعيشي الصعب الذي يعيشه معظم أهالي إدلب.
وأدركت خلود خلال تعاملها المباشر مع الأشخاص في الطرقات، أن من بين كل عشرة أشخاص، يوجد شخص واحد قادر على مساعدتها، مشيرة إلى أنها تعرضت لكثير من الكلمات والمواقف الساخرة، وفق قولها.
ويجري تنميط المكفوف، فيعتقد الناس أن المكفوف الذي يسير في الشارع هو شخص متسوّل، إذ قال عبد القادر كاشور، إن العديد من الأشخاص يبادرون بتقديم المساعدة المالية للمكفوفين، بمجرد رؤيتهم في الطرقات.
من جهتها، اشتكت والدة الطفل المكفوف رضا من أن المواصلات هي العائق الأكبر في حياة المكفوفين، مضيفة أنها تدفع مقابلًا ماديًا لسائق الحافلة، ليقدم الرعاية الخاصة لابنها في أثناء إيصاله إلى المدرسة التي تكافح لتحافظ على التزامه بها.
بصيص أمل
يظهر بصيص الأمل في إدلب، من خلال العديد من الأنشطة والإنجازات لأشخاص مكفوفين يرفضون نظرة المجتمع التي تقيّدهم، وتصنع فجوة كبيرة بينهم وبين الأشخاص المبصرين.
وفي محاولة لنقل المكفوفين من حدود الفئة المستهلكة التي فرضها المجتمع إلى الفئة المنتجة، من خلال إدخالهم في العديد من المشاريع والأنشطة الرياضية والإغاثية، أُسّست “الجمعية العامة للمكفوفين” عام 2020 من قبل أشخاص مكفوفين.
وتعمل الجمعية على دمج المكفوفين، ونقل صورة حقيقية لقدراتهم التي ما زال المجتمع غافلًا عنها، كما تعمل على تعليمهم مهارات تزيد من قدرتهم على الإنتاج.
وفي حديث إلى عنب بلدي، قال مسؤول العلاقات العامة في الجمعية، إبراهيم مصطفى الدبل، وهو من فئة المكفوفين، إن إنجازات المكفوفين التي برزت بشكل أكبر خلال عملهم، استطاعت أن تغيّر نظرة المجتمع تجاه المكفوف ولو بشكل بسيط.
كما استطاعت الجمعية تأمين بعض فرص العمل للمكفوفين داخل المنظمات، وتسعى لجعلهم يقومون بأدوار أساسية في الكوادر الإدارية للمنظمات بحسب قدراتهم.
وأجرت الجمعية دورات لتعليم لغة “بريل”، وبطولات شطرنج للمكفوفين، ودورات لتعليم استخدام الكمبيوتر والجوال، إلى جانب العديد من البطولات الرياضية.
وقالت نائبة رئيس الجمعية، خلود الحجي، إن الدعم المحدود هو العائق الوحيد لاستمرارية الجمعية، وإقامة مشاريع تخدم المكفوفين وتستفيد من قدراتهم لخدمة المجتمع.
منظمات تدعم
تشكّل جهود المنظمات بصيص أمل في حياة المكفوفين، إذ تقدم العديد من المنظمات الدعم المعنوي للمكفوفين من خلال الأنشطة والفعاليات.
ومن أبرز المنظمات التي عُرفت بدعم المكفوفين، منظمة “شفق” التي تقدم دورات تثقيفية ومسابقات رياضية للمكفوفين منذ عام 2018، وفق ما قاله مدير المنظمة، وسيم أسعد، في حديث إلى عنب بلدي.
وأكّد أسعد أن المنظمة تسعى للفت نظر المجتمع في إدلب إلى المكفوفين الذين أسهمت الحرب بتهميشهم.
وفي استطلاع رأي أجرته عنب بلدي مع نحو خمسة أشخاص على الأقل، من المستفيدين من خدمات المنظمة، أجمعوا على أن جهود المنظمات أسهمت بتحسين حياتهم بشكل كبير، وإعادة تفعيل دورهم في المجتمع.
“بريل”.. لغة غير مدعومة في إدلب
تعتبر لغة “بريل” أول طريقة أضاءت العتمة في حياة المكفوفين، ومنحتهم فرصة ليمارسوا حقهم بالقراءة والكتابة، وأن يخطوا خطواتهم الأولى على طريق العلم.
“طريقة (بريل) هي الفاصل بين عتمة الجهل ونور العلم في حياة المكفوفين”، بهذه الكلمات وصفت المعلمة خلود الحجي طريقة “بريل”.
وتعتبر اللغة الوسيلة الأولى لإخراج المكفوفين من قوقعة الإعاقة إلى حياة المبصرين، وفق خلود التي تسعى لتعليم “بريل” لكل المكفوفين في إدلب.
ورغم أهمية لغة “بريل”، تظهر في إدلب العديد من المخاوف من انقراضها في ظل ضعف القدرات على تأمين مستلزمات تعليمها، ووجود وسائل يعتبرها البعض بديلة عن “بريل”.
لم تنكر خلود أهمية قارئ الشاشة الذي ساعد المكفوفين على استخدام الجوال والكمبيوتر، ولا أهمية الكتب الصوتية التي أسهمت بنقل المعرفة للمكفوفين، لكنها ما زالت تراها غير قادرة على سد حاجة المكفوف لتعلم “بريل”.
وقال عبد القادر كاشور، إن عمله كمعلم هو محاولة لإنقاذ طريقة “بريل” من الانقراض الذي تهدد به وسائل التعليم الجديدة، مؤكدًا أن حاجة المكفوف للقراءة والكتابة لا تقل أهمية عن حاجته للاستماع.
كما أكّد ثائر حاج علي، من فئة المكفوفين، أهمية اللغة في حياته، إذ قال لعنب بلدي، “كما يرى المبصر القلم عونًا، (بريل) هي قلم الكفيف ولا غنى عنه”.
“لغة بريل” هي عرض للرموز الأبجدية والرقمية باستخدام ست نقاط يمكن تحسسها باللمس لتمثيل كل حرف وعدد، بما في ذلك رموز الموسيقى والرياضيات والعلوم.
ويستخدم المكفوفون وضعاف البصر لغة “بريل” التي سُمّيت بهذا الاسم تيمنًا باسم مخترعها في القرن الـ19، الفرنسي لويس بريل، لقراءة نفس الكتب والنشرات الدورية المطبوعة بالخط المرئي، بما يكفل لهم الحصول على المعلومات المهمة، وهو ما يُعد مؤشرًا على الكفاءة والاستقلال والمساواة.
تحتفي منظمة الأمم المتحدة باليوم العالمي للغة “بريل” في 4 من كانون الثاني، لزيادة الوعي بأهمية هذه اللغة كوسيلة للتواصل مع المكفوفين.