عنب بلدي – الحسكة
تسبب تعثّر رنا (16 عامًا) قبل ثلاثة أشهر على درج بناء منزلها بمدينة القامشلي (شمال شرقي سوريا) بكسر عميق في إحدى أسنانها الأمامية.
راجعت عائلة رنا طبيب الأسنان فور وقوع الحادثة، لمنع أي تضاعف في الوجع.
والد الفتاة، علي صالح (47 عامًا) قال لعنب بلدي، إن الحل الوحيد هو زراعة سن بدلًا عن المكسورة، كما أخبره الطبيب، وإن ذلك سيكلفه مليوني ليرة (حوالي 500 دولار)، “كان هذا بعد أن راعانا”.
لم يخفِ الأب دهشته وانزعاجه من ارتفاع سعر المعالجة السنية، التي تستمر لعدة أشهر، فتكلفة علاج كسر سن ابنته تعادل ما يحصله من عمله على سيارة الأجرة لمدة عام كامل، دون أن يحسب مصاريف عائلته المكوّنة من أربعة أفراد، في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية.
على الرغم من أهمية زيارة طبيب الأسنان خلال العام، فإن أهالي مدينة الحسكة مستاؤون من ارتفاع ثمن المعالجات السنية، مع ارتفاع في الأسعار طال كل الاحتياجات الأساسية، بسبب ضعف قيمة الليرة السورية أمام العملات الأجنبية، وسط تردي الوضع المعيشي في المنطقة.
وأمام هذا الارتفاع في أسعار المعالجات السنية، صار معدومو الدخل ومحدودوه أمام خيارين، إما تحمّل وجع الأسنان، وإما العلاج وتحمّل ألم التكاليف العالية.
لكن علي صالح لم يحتمل رؤية وجع سن طفلته، التي حاولت والدتها تخفيفه بقطعة قماش باردة على منطقة اللثة، فلجأ إلى استدانة تكلفة العلاج من عدد من أقاربه وأصدقائه، “لأن حال أهلنا كحالنا، ولا أحد يستطيع إعطائي كامل المبلغ لوحده”.
ألم الأسنان أشد من قلة الحيلة
هند محمد (38 عامًا)، سيدة تعمل في معمل للخياطة، تعاني من وجود تسوّس في أسنانها منذ تشرين الثاني 2021.
“رحلة العلاج ستستمر لعدة أشهر، وربما عام كامل”، قال طبيب الأسنان لهند، موضحًا أنه سيكلفها حوالي مليون ونصف المليون ليرة سورية (425 دولارًا)، ما يعني لها راتب 25 شهرًا، إذ تتقاضى في عملها 60 ألف ليرة سورية شهريًا (16 دولارًا).
التكلفة العالية للتخلص من آلام تسوّس الأسنان، ستجبر هند على التدرج في المعالجة، وفق ما قالته لعنب بلدي، “كلما توفر لدي مبلغ من المال، سأجري جلسة، ولن يكون العلاج بهذه الطريقة منتظمًا، فمن الصعب علاج جميع الأسنان دفعة واحدة”.
بحسب تقرير لمبادرة “REACH” صدر في تشرين الأول 2021، يحتاج العامل إلى 84 يومًا لكسب التكلفة الشهرية لتأمين المواد الغذائية الأساسية في المناطق التي تخضع لسيطرة “الإدارة الذاتية” في شمال شرقي سوريا، في حين تواجه 98% من العائلات في المنطقة خطر انعدام الأمن الغذائي.
كما أن المتوسط المحلي لأسعار المواد الغذائية في عموم سوريا ارتفع بأكثر من 200% من منتصف عام 2020 إلى منتصف عام 2021، بحسب التقرير.
يأتي ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية مع تراجع تمويل المساعدات الإنسانية في سوريا، وحاجة برنامج الأغذية العالمي (WFP) في سوريا بشكل عاجل إلى حوالي 480 مليون دولار للأشهر الستة المقبلة، إذ إن نسبة تمويله هي 31% فقط.
السعر حسب جودة العلاج
أرجع طبيب الأسنان مجد الحسين، وهو من سكان مدينة الحسكة، السبب المباشر في غلاء المعالجات السنية إلى تدني قيمة الليرة السورية أمام الدولار، ما أدى إلى “ارتفاع كبير” في أسعار المواد الطبية المستخدمة في العلاج، مثل “إمبولات” التخدير، والريش، والمواد المعقمة، والحشوات بمختلف أنواعها، وغيرها من المواد والأدوات التي تسعّر بالدولار.
“كل ذلك يؤثر على سعر المعالجة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة”، وفق ما قاله الطبيب مجد الحسين لعنب بلدي، بالإضافة إلى عوامل أخرى “موضوعية وإنسانية” تتوقف على التقدير الشخصي للطبيب لوضع المريض من الناحية الاجتماعية والمادية.
وضرب الطبيب الثلاثيني مثالًا لتوضيح حديثه، “معالجة عصب السن، كحد أدنى تكلّف عشرة دولارات وترتفع حتى 25 دولارًا، بحسب جودة المعالجة، وقدرة المريض على تحمّل تكاليف المواد المستخدمة، التي ترتفع كلما زادت جودتها”.
ولا يوجد سعر محدد لكل معالجة لتأثره بعدة عوامل، وفق ما يراه الطبيب، “فحتى موقع العيادة، سواء في المدينة أو الريف، يؤثّر على الأسعار”.
وعن دور النقابة في تحديد الأسعار، قال الطبيب مجد الحسين، إن الأسعار قديمة ولا أحد يتقيّد بها، فسعر المعاينة وفق النقابة لا يزال 700 ليرة سورية وهذا “غير منطقي”، على حد وصفه.
وفي ظل التكاليف الباهظة لعلاج الأسنان، وتفرّد الأطباء بتحديد التسعيرة دون رقابة، يُطرح التساؤل حول دور النقابة وما عليها فعله لتحديد التوازن بين الأهالي وطبيب الأسنان.
رشى ورسوم وضرائب
تدنّي قيمة الليرة السورية أمام العملات الأجنبية ليس السبب الوحيد في ارتفاع قيمة المواد والأجهزة الطبية المستخدمة في المعالجات السنية، إذ تدخل عوامل أخرى في هذا الارتفاع.
صاحب مستودع لبيع المواد والأدوات السنية في المنطقة، تحفّظ على نشر اسمه لأسباب أمنية، قال لعنب بلدي، إن “سبب ارتفاع أسعار المواد الطبية، إلى جانب تدهور قيمة الليرة، هو كثرة الضرائب والرسوم والرشى التي يتم دفعها على هذه المواد من لحظة شحنها جوًا من دمشق إلى القامشلي ومدينة الحسكة، فأي طلبية صارت تكلّف حوالي مليوني ليرة سورية”.
وأضاف صاحب المستودع، “تكون هذه المصاريف زيادة على سعرها الحقيقي، ونحن مجبرون على ذلك، خصوصًا ما يتعلق بالمواد المخدرة التي يتحجج ضباط النظام في المطار بأنها ممنوعة”.
و”ما زاد الطين بلة هو فرض الإدارة (الإدارة الذاتية) رسومًا لم تكن مقررة سابقًا على المواد والأدوات السنية، تتراوح بين 3 و5% من قيمة الفاتورة، وأحيانًا لا تلتزم بهذه النسبة، ويكون المبلغ المطلوب دفعه يتوقف على مزاج ورأي موظف (الإدارة الذاتية) المسؤول”، وفق ما قاله صاحب المستودع.
وبحسب ما رصدته عنب بلدي في المنطقة، لجأ بعض الأهالي إلى تجربة علاج الأسنان بالطرق البدائية لدى البدو، إلا أنها غير آمنة في أغلب الأحيان، لأنها تجري عبر عمليات غير معقمة، الأمر الذي يعتبر من الأساسيات المهمة في عيادات الأسنان لتلافي نقل الأمراض المعدية، خصوصًا في ظل انتشار فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19).