نبيل محمد
أن تجد رحالة أوروبيًا يتجول في إحدى مدن سوريا اليوم، لن تثق في رسالته، إذ ستواجهك قبل تشغيل الفيديوهات التي يبثها حقيقة أن صحفيًا أو مصوّرًا يدخل إلى سوريا بشكل رسمي اليوم، لن يستطيع توجيه رسالة تقارب الحياد، ولربما ستشك بأنه ينتمي إلى وسيلة إعلام أو حزب أو تجمّع ما زال يحاول تلميع صورة نظام الأسد في الغرب، لكن الأمر يختلف قليلًا عندما تشاهد فيديوهات جاي بالفري الرحالة الإنجليزي الشاب الذي لا يتجاوز عمره اليوم 25 عامًا.
اعتاد بالفري زيارة بلدان حول العالم، وتصوير فيديوهات يبثها عن طريق قناته على “يوتيوب”، لتحوز بعضها ملايين المشاهدات، وأغلب زياراته تتركز لمدن في الشرق وفي المنطقة العربية ومحيطها من العراق إلى لبنان ومصر وتركيا وإيران والهند وباكستان، وإلى سوريا أيضًا حيث كانت آخر محطاته قبل أكثر من شهر.
مواد الفيديو التي ينشرها بالفري بسيطة، توحي بأن اطلاعه ومعرفته قليلتان، فهو يستكشف ثقافة المنطقة من خلال الزيارة المباشرة، ليورد معلومات عنها أحيانًا تفتقر إلى الدقة، وتظهر أنه مجرّد هاوٍ يحب الاطلاع على ثقافات الشعوب وتجريب عاداتها، كما أن مستوى الفيديوهات فنيًا يوحي أيضًا بقلة خبرته، مركّزًا على الجوانب السياحية بطريقة لا تخلو من النظرة الاستشراقية البدائية وفق ما يظهر، لكنها فيديوهات لافتة أحيانًا بما تصادفه من تفاصيل إنسانية يحب التركيز عليها، ويظهرها بصورة مشرقة، ويوحي فيها أيضًا بحب الحياة البسيطة التي تعيشها تلك المناطق التي يلاحقها بكاميرته التي لا تكون في أغلب الأحيان سوى كاميرا هاتف محمول.
في زيارته الأخيرة إلى سوريا، اختلفت هوية فيديوهاته بالكامل، وقلة المعرفة وانعدام وجود خطة واضحة للزيارة أتاحت أيضًا أن تظهر الفيديوهات بريئة إلى حد ما، وكأن هناك كاميرا نائمة غافلة عما يحدث لسنوات، استيقظت بشكل مفاجئ ودارت في شوارع حلب وحمص، دون هدى أو معرفة مسبقة.
لقد كان يفاجَأ بكل ما يظهر أمامه، يبحث عن الحياة التي اعتاد نقلها بفيديوهاته خلال كل رحلاته السابقة فلا يجدها، خراب ودمار وشوارع وساحات لا عابر فيها، لم تترك له المجال ليشرك أحدًا بالحديث عن هذه البلاد، حتى المسجد الذي دخله (وقد اعتاد دائمًا زيارة المساجد والأضرحة، حيث دخل سابقًا ضاحكًا إلى مقام الحسين في كربلاء وخرج باكيًا لأنه لاحظ الناس يبكون في الداخل) كان مسجدًا فارغًا في حمص، لا مصلين ولا أذان، ولم يسعفه قرص “الكبة” الذي أكله في حلب، أن يضحك ويتغنّى بالمطبخ الحلبي كثيرًا، أمام الدمار الذي شاهده في أسواق حلب القديمة، والورشات التي تحاول لملة أشلاء الأبنية فلا تقدر.
يكرر أنه لم يشاهد دمارًا كهذا في حياته، ولم يشعر بهذا الإحساس الذي يشعر به في سوريا سابقًا، يتساءل “كيف يعيش الناس هنا حتى الآن؟”، سؤال بريء يصدر عن شخص وجده نفسه فجأة في شوارع فرمتها الصواريخ والمجنزرات، ثم شاهد على أطراف تلك الشوارع باعة متجولين، وأطفالًا معجونين بالفقر متناثرين بين هنا وهناك، ففوجئ أن بشرًا ما زالوا يحيون هنا. سأل نفسه أين السكان؟ فأجاب بمعلومات قدّمها عن عدد اللاجئين السوريين، وهي معلومات يبدو أنه لم يجهد في البحث عنها إذ لا تمثّل إلا نسبة من عدد اللاجئين الحقيقي، طالبًا المساعدة للسوريين، وداعيًا للتبرع لهم، بعد أن عرف بأنه في مكان لا يسع المتجول فيه إلا أن يطلب الرحمة لهذا الشعب والمساعدة.
قد لا يكون جاي بالفري إلا واحدًا من أولئك الصحفيين المستشرقين، الذي يمكنهم الدخول إلى سوريا بسجلّ خالٍ من الهجوم على نظامها، بل وخالٍ من العمل الصحفي الحقيقي ربما، في وقت لا يستطيع ملايين السوريين في مخيمات اللجوء وفي دول المهجر دخولها. يدعون لـ”وقف الحرب” بطريقة سياحية مكسوّة بالمشاهد والجمل الرقيقة العاطفية، غافلين عن كل المشهد، أو متقصدين الابتعاد عنه، لكن لتلك الكاميرات أيضًا أن تحكي من حيث لا تقصد أحيانًا حكاية هذه البلاد التي تتجول فيها.
يصوّر بالفري رجلًا يجلس بلباس شعبي ويشرب النرجيلة أمام عند قلعة “حلب”، التي يعلو أعلى أبراجها علم النظام وصورة رئيسه، فيغني الرجل “مش قادر أقول إنت القادر.. وأصبر على طول على أحزاني”، الأغنية التراثية التي كان من المستحيل أن تخطئ أجيال من السوريين في حفظها، فتقول “القادر” بدلًا عن “الجاني”. هكذا تظهر البلاد واضحة ولو عن طريق المصادفة.