البيوت السورية هواجس أصحابها بغياب العدالة.. لقاء مع المحامي غزوان قرنفل
منذ ستينيات القرن الماضي تسيطر على السياسة السورية أشكال استبدادية في الحكم، تركّزت من خلال هذه الأشكال السلطة الحكومية بأيدي قلة قليلة من طبقة الضباط العسكريين. وباستخدام القمع، تخلّصت من جميع القوى المتنافسة، إذ حرم النظام السوري معارضيه من أدوات التعبير عن رفض السلطة.
يوصف النظام السوري بأنه تسلطي بملامح وراثية واضحة، يحصر جميع السلطات السياسية، والاقتصادية، والقضائية في يد فرد واحد، وهو رئيس الجمهورية.
ويرتبط تشكيل السلطة الاستبدادية في سوريا بنظام اقتصادي محدد، يرتكز على تحالفات مع قوى اجتماعية- اقتصادية تصنع مصالح مكتسبة تضمن استمرار احتكار النخبة الحاكمة لسلطة الدولة إلى الأبد.
يحتل العقار في الدولة مساحة واسعة من التنمية الاقتصادية للمجتمع، تسهم بشكل كبير في تأسيس قواعد اقتصادية وطنية يُعتمد عليها، إلا أنه منذ أيام حزب “البعث” الأولى في السبعينيات، اتخذ الحزب سياسة تصفية نخبة الملَّاك من خلال قوانين الإصلاح الزراعي والتأميم، تلك القوى الاجتماعية لم تكن تهيمن على الاقتصاد في سوريا فحسب، بل أيضًا على نظام الحكم فيها.
وبعد انطلاق الاحتجاجات في عام 2011، وضعت السلطة الملكية العقارية في قلب السياسة الاقتصادية والأمنية لسوريا، وجعلت ملكية الأفراد لعقاراتهم رهن مصالحها، بالتزامن مع تغيير البنية القانونية التي سرعان ما تحوّلت إلى أداة لممارسة السلطة والسيطرة على الشعب لتقييد حرية التعبير، في سبيل السعي لتعزيز مصالح النظام، سواء كانت مصالح أمنية أم سياسية أم اقتصادية، مع عدم إمكانية اللجوء إلى حلول منصفة.
بيوت قدرها المصادرة
قال رئيس “تجمع المحامين السوريين الأحرار” المحامي غزوان قرنفل، في حديث إلى عنب بلدي، إن “قرارات الحجز الاحتياطي على أملاك من يعارض النظام السوري تأتي كعقاب على موقف مناهض لسلطة الاستبداد والجهر بتلك المواقف من قبل أصحابها عبر وسائل الإعلام”.
يتابع قرنفل، “في 29 من آذار عام 2016، تم إلقاء الحجز الاحتياطي على الممتلكات الشخصية الخاصة بي، بموجب القرار رقم 822 الصادر عن وزير المالية استنادًا لكتاب مكتب (الأمن الوطني) رقم 308 بتاريخ 26 من آذار 2016، وذلك لثبوت تورطي في (الأعمال الإرهابية التي يشهدها القطر) كما جاء في منطوق القرار”.
في تموز عام 2012، أصدرت حكومة النظام قانون “مكافحة الإرهاب” رقم “19“، وفي الشهر نفسه صدّق رئيس النظام السوري، بشار الأسد، على القانون رقم “22” المؤسس لمحكمة “مكافحة الإرهاب” كي تقضي بذلك القانون، الذي أعطى الحق للنائب العام بتجميد أملاك كل من يرتكب الجرائم المتعلقة بـ”الأعمال الإرهابية” أو أي جريمة بموجب هذا القانون.
و”الأعيان التي يشملها القرار فهي جميع ممتلكاتي من عقارات مبنية أو أراضي زراعية أو مساكن مكتتب عليها لدى جمعيات سكنية أو أراضي غير مبنية ضمن مشاريع سكن صيفي”، وفق ما ذكره قرنفل.
وقالت منظمة “هيومن رايتس ووتش” إن المحكمة المتخصصة تستغل الأحكام الفضفاضة لقانون “مكافحة الإرهاب”، لإدانة نشطاء سلميين بتهمة مساعدة الإرهابيين في محاكمات تنتهك الحقوق الأساسية في الإجراءات القضائية السليمة. تُوجه الاتهامات تحت ستار مكافحة التشدد العنيف، لكن المزاعم المأخوذة على النشطاء لا تزيد في الواقع عن أفعال من قبيل توزيع المساعدة الإنسانية والمشاركة في مظاهرات وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان.
اقرأ أيضًا: بعد مصادرته أملاك المعارضين.. هل ينعكس سلاح النظام السوري ضده؟
“الأخطر من إلقاء الحجز الاحتياطي على ممتلكاتي هو قرار شطبي من جدول المحامين الأساتذة في نقابة المحامين”، أضاف غزوان قرنفل، مع ما يترتب عن ذلك “من حرماني من حقوقي في تعويض نهاية الخدمة البالغ مليون ونصف مليون ليرة سورية، وهي تعادل 30 ألف دولار، وكذلك من مرتبي التقاعدي من النقابة والبالغ ما يعادل 500 دولار شهريًا”.
أصدر موقع “زمان الوصل” الإخباري قاعدة بيانات ضمت 1.5 مليون سوري مطلوب لأجهزة إدارة المخابرات السورية، نُشرت القائمة عام 2015، وهناك احتمال كبير بزيادة حجم المطلوبين منذ ذلك الحين حتى اليوم.
يعكس هذا الرقم عدد الممتلكات الكبير الذي شرعن القانون الاستيلاء عليها، وسحب أملاك مجتمعات لن تتمكن من الوصول إلى العدالة في استرداد البيوت التي عاشت ونمت ذاكرتها فيها، في ظل اهتراء قضائي عُطّلت فيه الاستقلالية والشفافية في عملها.
“لم أتبلغ قرار الحجز على أملاكي بشكل رسمي، ولكن علمت به من خلال صديق أبلغني أنه قرأ اسمي ضمن قائمة من الأسماء تشتمل على أكثر من 52 شخصًا، تقرر الحجز على أموالهم المنقولة وغير المنقولة”، وفق ما قاله قرنفل، و”بعد بحث طويل وجدت صورة عن القرار منشورة في أحد المواقع الإلكترونية إلى جانب قوائم أخرى”.
اقرأ أيضًا: سلاح قانوني لعقاب جماعي.. قوانين سورية تنتهك أملاك المغيبين
إنقاذ ما يمكن إنقاذه
يعيش الكثير من السوريين اليوم التوتر في علاقتهم مع بيوتهم التي غاب بعضهم عنها أكثر من عشر سنوات، يغيب يقينهم بشأن العودة إليها، في الوقت الذي يكون باب البيت هو المكان الوحيد الذي يتمكنون خلفه من عيش حياتهم الحقيقية بين جدران آمنة يعرفونها وتعرفهم.
لم يتمكن قرنفل سوى إنقاذ عقار واحد في مدينة حلب، لم يكن مسجلًا باسمه الشخصي، “بادرت لبيعه على الفور، وقد ساعدني في ذلك صديق تولى عملية البيع وتحويل قيمة العقار”.
“هذه الممتلكات تبقى موجودة. ولكن لا أستطيع التصرف بها لوجود إشارة حجز عليها”، بحسب ما قاله قرنفل، و”ستبقى كذلك إلى أن يتم تحويل الحجز من احتياطي إلى تنفيذي حيث يتم بيعها بعد ذلك، ولكن هذا الاجراء يستلزم إجراءات قضائية تستوجب تبليغي”.
أما بالنسبة لإثبات ملكية العقارات المحجوز عليها، فـ”طبعًا كلها مسجلة إما في السجلات العقارية أو في سجلات الجمعيات السكنية، وهناك ممتلكات تقع في مناطق خارجة عن سيطرة النظام بعت معظمها”.
نشأت السلطة في سوريا من تلقاء نفسها، بعيدًا عن وجود إرادة للشعب بتقرير مصيره، وتشريع القوانين التي تتعلق بحقوقهم تُمنح شرعيتها بالقوة الأمنية، دون وجود مبادرات نيابية حقيقية لدراستها، أو وسيلة قضائية لصدها في حال تعارضها مع الدستور.
لم يسع قرنفل قضائيًا لإلغاء قرار الحجز لعدة أسباب تقنية منها، “صعوبة توكيل محام وموافقة الأمن على التوكيل، ورفض الكثير من المحامين مثل هذه الدعاوى تجنبًا لأي ضغط أو إزعاج أمني لهم، والتكلفة المالية التي ستترتب على هذا الإجراء والتي لا أستطيع تحمل أعبائها، خصوصًا أن فرصة إلغاء الحجز ضعيفة جدًا الآن”.
اقرأ أيضًا: مصطلحات عقارية.. الفرق بين الحجز التنفيذي والاحتياطي
الابن البار للاستثمار
هناك علاقة سببية بين مناهضة السلطة وسلب الحقوق العقارية في سوريا، من خلال عدة دوافع تجعل السلطة تنتهج هذا العقاب ضد معارضيها، وفق رأي المحامي قرنفل، “هذا واضح في منطوق قرار الحجز نفسه، وكذلك كل قرارات المصادرة الأخرى التي صدرت بحق آخرين بعد محاكمات صورية أمام (محكمة الإرهاب)”.
العقار هو الابن البار في عالم الاستثمار بالنسبة للفرد والدولة، كونه استثمارًا يمرض ولا يموت، وأداء العقار في النظم الاقتصادية للدولة واستثماراتها هو أداء آمن بتحقيق مكاسب معقولة بأقل المخاطر، والعوائد المتوقعة من الاستثمارات العقارية على المدى الطويل تمنح الدولة ثقة عالية بتمدد نفوذها السياسي والأمني داخل المجتمع، بحيث تعتمد بحكمها على اقتصادها المحلي، دون أن تواجه خطر المواجهة الخارجية في سبيل الحصول على المنح والمساعدات المالية من دول آخرى.
أعتقد أن حلًا جذريًا لهذه المسألة يجب أن يكون ضمن رؤية وطنية شاملة، ويتم تضمينها بأي اتفاق سياسي للحل في سوريا، وكذلك في الدستور الذي قد يتم التوافق عليه ضمن مسار العملية الدستورية الحالية، وحتى ذلك الموعد الذي لا أراه قريبًا لا يملك المتضررون، وخاصة أولئك الذين هم خارج سوريا، سوى توثيق الممتلكات لتكون مستندًا لهم بالمطالبات والتعويضات مستقبلًا.
المحامي السوري غزوان قرنفل |
وبناء على ما سبق، هناك عدة عوامل تعطي العقار الكثير من جاذبيته بالنسبة للسلطة في سوريا، التي يهمها الاعتماد على اقتصادها المحلي بالدرجة الأولى للهروب من أي رقابة خارجية على سلوكها الأمني في فرض سياستها داخل المجتمع.
واقع الملكية العقارية معقّد في سوريا، ولا أفق واضح لحل سياسي مرتقب في الفترة المقبلة، ضمن المعطيات الحالية على أقل تقدير، و”بكل أسف لا أرى أي استجابة ممكنة لحل هذا التعقيد في ظل الظروف الحالية”، وفق قرنفل.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :