عام على إسدال الستار.. حاتم علي رحيل مستعجل ورثاء لا ينتهي
قبل عام كامل، ضاق كل شيء بالمعنى المجازي الأقسى للكلمة، وفقدت غرناطة الأمل، بعد رحيل المخرج الذي حمل على عاتقه تصوير رحلة حكم المسلمين في الأندلس، وكان على مسافة قريبة من تأريخ سقوط غرناطة، فأدرك الجمهور من فقد، مقدار إدراكه ما فُقد.
في 29 من كانون الأول 2020، وحين كان السوريون ينسجون آمالًا بعام جديد، لا تحمل همومه ونمنمات تفاصيله اليومية شدة الوطأة ذاتها، رحل المخرج السوري حاتم علي، في أحد فنادق العاصمة المصرية، القاهرة، تاركًا خلفه “فصولًا أربعة” لا يسأم السوريون العودة إليها هربًا من فصل المعاناة الطويل الذي حل منذ سنوات، ولمّا ينتهِ.
المشهد نفسه، أدار حاتم كاميرته في مسلسل “الفصول الأربعة”، الذي صدر جزؤه الأول عام 1999، والثاني عام 2002، جنازة الشاعر السوري نزار قباني، تطوف شوارع البلاد التي كتبها وكتب لأجلها الشعر، الحضور ذاته في جنازة حاتم، لكن بملامح أكثر تعبًا، تبكي مؤرخ حياتها البسيطة وهدأة أيامها.
رحيل مستعجل
شكّل نبأ الوفاة صدمة للشارع السوري والعربي، لا لخسارة أحد أبرز مخرجي الدراما العربية، بل لأنه رحيل لم تكتمل أركانه في عيون الجمهور، فهناك مشاريع درامية كثيرة كانت في طور الإعداد، في سبيل تقديمها كتأكيد على قيمة الجوهري في زمن التجاري.
وترك حاتم علي مسلسل “سنوات الحب والرحيل”، الذي كان يهم ببدء إخراجه بالشراكة مع المخرج الليث حجو، وترك مشروع فيلم روائي طويل يحكي قصة “الزير سالم”، برؤية سينمائية، بعد تقديمه دراميًا عام 2000، بصورة أعادت تعريف الدراما السورية، وحضور العمل التاريخي في الشاشة العربية.
ثلاثة أعمال جسّدت الحكم الإسلامي للأندلس، بدأها حاتم علي عام 2002، بمسلسل “صقر قريش”، الذي تناول سيرة مؤسس الدولة الأموية في الأندلس، عبد الرحمن الداخل، أتبعها في العام التالي بمسلسل “ربيع قرطبة” الذي حكى سيرة محمد بن أبي عامر، وطموحه الذي يتراقص على ضفتي العلم والحكم، ثم قدّم عام 2005، الجزء الثالث من الرباعية، تحت اسم “سقوط الأندلس”، لتصوير بداية السقوط والانقسام.
https://www.youtube.com/watch?v=-blhpzg8yCE&feature=emb_imp_woyt
وأمام انتظار الجمهور لمسلسل “سقوط غرناطة”، أسدل المخرج الخمسيني الستار، تاركًا لجمهوره نهايات مفتوحة، وخيبة لأن الصورة الدرامية لم تكتمل قبل صورة الرحيل.
رثاء لا ينتهي
الشاعر السوري هاني نديم، يقول “إن سألتني أن ألخّص سوريا بثيمة جمالية واحدة لأشرت إلى حاتم، هو سوريا مثلما إيطاليا هي مايكل أنلجو”.
ويشير نديم إلى عدم تبنى حاتم علي خطابًا “موغلًا في الحقد واللؤم والتشفي والزعرنة” خلال الثورة السورية.
ولم يخرج حاتم علي عبر الشاشة السورية الرسمية لإبداء موقف سياسي داعم لرئيس النظام السوري، بشار الأسد، بينما تناولت أعماله الدرامية في كثير من جوانبها نقدًا متفاوت الحدة لواقع الأوضاع في سوريا، تحت حكم النظام.
ونشر المخرج السوري الليث حجو، صورًا من التحضيرات الأخيرة لتصوير مسلسل “الحب والرحيل”، مع ملاحظات كتبها حاتم بنفسه على أوراق النص الذي لم يخرجه، لكن اسمه سيكون على شارته كتكريم من الشركة المنتجة “mbc”.
وقال حجو في ذكرى حاتم علي، “قد يبدو وللحظة أنه ضحيةُ قلقه هذا الذي استطاع أن يغلبه مبكرًا على غير ما كنا نتمنى، ولكني اليوم أستطيع أن أقول إن الإبداع هو من انتصر في النهاية كما كان هو يعمل ويتمنى”.
فراغ يصعب ملؤه
كما غيّر بإدارته الإخراجية وقلقه الإبداعي كثيرًا من ألوان الشاشة الباهتة، غيّر حاتم علي برحيله قواعد ومواقيت البكاء والحزن، التي جعلت المشاعر افتراضية تُعاش يومًا وتُنسى في التالي، حين ينصرف الجمهور نحو “تريند” جديد، لكن حاتم علي قاوم الحالة، فعاش الجمهور السوري والعربي صدمة حقيقية “لا افتراضية” فقط، على مدار نحو أسبوع، قبل أن يلتئم جرح الفقد بعامل الزمن، دون أن تخفى الندوب.
نبأ الرحيل الذي غطى مواقع التواصل الاجتماعي لشخصية ذات ثقل ثقافي وتاريخ درامي حافل بالجماليات، وصل متأخرًا إلى وسائل الإعلام السورية الرسمية، في حين كانت المحطات العربية تنقّب في أرشيف أعمال المخرج السوري لإعادة عرضها على شرف الوداع الأخير.
غاب الحدث بشكل شبه تام عن منصات التغطية الإلكترونية الرسمية، ولم تأخذ وفاته اهتمامًا عبر البث المباشر يليق بقامة ترتبط بهوية البلد، فاكتفت وزارة الإعلام السورية ووكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) وقناة “سما” الفضائية الموالية للنظام السوري، بنشر صياغة موحدة لرحيل حاتم علي.
الكاتب والمخرج
شكّل حاتم علي، مع الكاتب الفلسطيني وليد سيف، ثنائيًا مثمرًا، انعكس على ما قدمه الرجلان من أعمال تعيد التاريخ إلى شاشة الحاضر، وتؤرشف بصريًا وفنيًا مراحل حساسة من التاريخ العربي، فكتب وليد سيف الأجزاء الثلاثة من “رباعية الأندلس”، بما في ذلك السيناريو والحوار.
وفي عام 2004، وضمن 31 حلقة، أنتجت هذه الشراكة الثنائية مسلسل “التغريبة الفلسطينية”، الذي تناول القضية الفلسطينية قبيل الاحتلال الإسرائيلي، وخلاله، وحالة الشتات التي جرّت الشعب الفلسطيني إلى دوامتها منذ أكثر من 70 عامًا.
https://www.youtube.com/watch?v=NsvVers5Qfc&list=PLFACjqFct-LLnH51Eh9a5eX5veAXSettf
وقدّم حاتم علي صورة متزنة وخلّاقة عن بعض رموز التاريخ العربي والإسلامي، مثل صلاح الدين الأيوبي، فتناول المسلسل الذي حمل اسم بطله الأحداث السياسية خلال القرن السادس للهجرة، والحروب الصليبية في بلاد الشام ومصر، مع التركيز على سيرة صلاح الدين، رجل تلك الفترة، وبطل “حطين”.
وفي مسلسل “عمر” الذي يحكي سيرة الصحابي عمر بن الخطاب، تجلّت ثقة الإنتاج بالمخرج، إذ جرى إنتاج العمل بتكلفة وصلت إلى 50 مليون دولار أمريكي، ليكون بذلك أضخم إنتاج درامي عربي.
المسلسل الذي اعتبره حاتم “حساسًا وفريدًا من نوعه”، وشكّل بصمة مميزة في الأعمال التاريخية العربية، إذ حقق نسب مشاهدات مرتفعة تعبّر عن نجاح جماهيري واسع دفع لترجمة العمل، ودبلجته للغات مختلفة على مستوى قارة آسيا وإفريقيا.
كما أخرج حاتم علي مسلسل “الملك فاروق” عن نص وليد سيف أيضًا، فتناول عبر العمل السيرة الذاتية لآخر ملوك مصر من سلالة محمد علي باشا.
أعمال قريبة
بصرف النظر عن تاريخ إنتاجها، فمسألة الزمن تبدو عبثية أمام البعد الجمالي للنشاط الإبداعي، حقّقت أعمال حاتم علي حضورها المتواصل في ذاكرة ووجدان المشاهد السوري والعربي.
فـ”الفصول الأربعة” كان تجسيدًا لعالم الأسرة والعلاقات العائلية، وانطباعات العائلة وتعليقاتها حول ما يجري، فالعائلة تمثّل الشعب السوري بغنيه وفقيره، وبمختلف مستوياته الثقافية والفكرية.
وفي 29 حلقة من “أحلام كبيرة” بإيقاع عاطفي حمّال للحسرة والخسارة والحب والطموح والجشع، تدور أحداث العمل الذي كتبته أمل حنا، ويعتبر أحد أبرز أعمال حاتم علي، وأقربها للجمهور، إلى جانب أغنية الشارة “كل شيء ضاق”، التي غناها السوريون ملء حناجرهم لوداع أمين ذكرياتهم.
https://www.youtube.com/watch?v=GntkOys8sTU&list=PL6RIU7u9cvEclejHxDzH2PzHpV-MjbKeq&t=3s
وبعد غيابه عن الشاشة لسنوات، قدّم حاتم علي مسلسل “قلم حمرة” في إطار اجتماعي يتناول العديد من القضايا الشائكة والحساسة دون تجريح أو تغريب للمشاهد عن عالمه، فالاعتقال والعنوسة والزواج بين قوميتين، واللجوء والمواطنة، والميول الجنسية، كل ذلك يناقَش ويبحَث على شرف قلم حمرة أخذ صاحبته إلى المعتقل.
بطل الاستبداد المفرح
ينبش كتاب “الاستبداد المفرح” في الذاكرة الزمانية والمكانية التي عاشها حاتم علي في منطقة الحجر الأسود، المتاخمة لمخيم “اليرموك” جنوبي دمشق، من خلال حوارات امتدت على مدى أربع سنوات.
تضرب صفحات الكتاب (140 صفحة) عمقًا في طفولة حاتم وشبابه، متيحة للقارئ المشاركة في مغامرات المخرج الأولى بعلاقته مع الدراما التلفزيونية، ومراحل توسع خياله ليخرج هذا الخيال عن طريق عدسة الكاميرا.
وخرجت فكرة الكتاب في مقهى “الروضة” بدمشق، باقتراح من الفنان جمال سليمان، وهو أمر لم يعرف به حاتم علي في بداية الأمر، بحسب ما سرده فجر يعقوب في كتابه المنشور لأول مرة عام 2015.
أكثر من 30 عملًا دراميًا، وجوائز من مهرجانات سينمائية عربية ودولية، ومجموعة قصصية، باسم “موت مدرّس التاريخ العجوز”، جاءت منسجمة جدًا مع الصورة التي يخرجها.
اللغة عند حاتم سهلة طيعة وابنة الناس العاديين ورفيقتهم، لا سقوط في فخ التصنع، والمشاعر المفتعلة، ربما لأن ما ينقله حاتم يشبه الواقع ويحاكيه، فجاءت قصصه منسجمة ومتناغمة مع القصص المصوّرة التي أخرجها، وطبعها في ذاكرة جمهور عريض، بكاه في موته، وبكى فيه فقدًا لناقد دون تجريح، ومؤرشف لآلام الناس الذين انحاز إليهم، موليًا ظهره للقصص الخيالية التي تسخر من مآسي الواقع المعاش، ففي الواقع اليوم ما لم يكن في الخيال أبدًا، لكنه واقع ينقصه حاتم علي ليؤاخي فيه بين الجمهور والتفاصيل الجميلة التي نسيها كثرة ما اعتادها.
–
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :