عنب بلدي- جنى العيسى
روّجت حكومة النظام السوري لدور “المؤسسة السورية للتجارة” منذ تأسيسها قبل أربعة أعوام، في “تأمين المواد التموينية” للمواطنين، بأسعار “تنافس” أسعار الأسواق المحلية.
وخلال العام الحالي، ارتبط ظهور اسم “المؤسسة” بكثرة في الإعلام، بشكاوى وانتقادات لارتفاع سعر مادة تموينية معيّنة، لتعلن “السورية للتجارة” بعد أيام قليلة أنها خزّنت المادة ذاتها قبل أشهر وستطرحها في صالاتها “ليوم كهذا”، حيث تكون أسعارها ارتفعت إلى مستويات غير مسبوقة، أو أن المادة فُقدت من السوق.
وتُسمّي حكومة النظام تدخّل “المؤسسة” حينها بـ”التدخل الإيجابي”، معتبرة أنها “حلّت مشكلات المواطنين مع هذه المادة”، متجاهلة فرضية أن تكون “السورية للتجارة” هي السبب في غلاء المادة ونفادها أساسًا.
أُسّست “المؤسسة السورية للتجارة” في كانون الثاني 2017، بمرسوم من رئيس النظام، بشار الأسد، بعد دمج “المؤسسة العامة الاستهلاكية” و”المؤسسة العامة للخزن والتسويق”، و”المؤسسة العامة لتوزيع المنتجات النسيجية”.
وفي خطة بدت واضحة خلال العام الحالي، في التعامل مع المواد المدعومة التي تبيعها للمواطنين في مناطق سيطرتها بسعر أقل من سعر السوق، لجأت حكومة النظام إلى المناورة بين زيادة الأسعار، ورفع الدعم وتخفيض عدد الحصص، للتعامل مع الأوضاع المعيشية المتردية في مناطق سيطرتها.
وعلى الرغم من وجودها في تفاصيل أزمة غلاء الأسعار كل هذه الفترة، لا تمتلك “المؤسسة” آلية ثابتة تعتمد عليها في إدارتها لتوزيع المواد “المدعومة”، إذ تضيف أو تحذف مواد تموينية معيّنة أكثر من مرة دون ثبات فيها، فضلًا عن قلة جودة المواد التي تطرحها في صالاتها.
إقبال كبير وخيار جيد
تشهد صالات “المؤسسة السورية للتجارة” في عموم المحافظات التي يسيطر عليها النظام إقبالًا كثيفًا، بحسب ما رصدته عنب بلدي.
كما تعتبر أسعار المواد المطروحة فيها أقل منها في الأسواق المحلية و”البقاليات” الموجودة بجوارها، بحسب ما رصدته عنب بلدي في مدينة دمشق.
وقال مقيمون في دمشق لعنب بلدي، إن صالات “المؤسسة” تعتبر خيارًا جيدًا قياسًا بأسعار بعض المواد، إلا أن جودة تلك المواد متوسطة.
وقد يكون المانع الوحيد للمقيمين في دمشق من الشراء من صالات “السورية للتجارة”، هو عدم وجود صالات قريبة من أماكن سكنهم فقط، وفقًا لحديث سكان بعض الأحياء في دمشق.
“التدخل الإيجابي” يخلق الأزمة
تخزّن “المؤسسة السورية للتجارة” مواد غذائية في مستودعاتها وبراداتها، تشتريها من السوق المحلية في أوقات الوفرة، وبأسعار “منطقية”، وتؤدي زيادة الطلب على هذه المواد من قبل “المؤسسة” إلى سحبها من الأسواق.
آلية عمل “المؤسسة” بهذه الطريقة تتسبب بأزمة ارتفاع أسعار، وقلة وجود هذه المواد في الأسواق المحلية، بحسب ما أكده الباحث الاقتصادي في مركز “جسور للدراسات” خالد تركاوي.
وعند حدوث الأزمة، تُعلن “السورية للتجارة” عن طرحها تلك المواد بأسعار “أقل من أسعارها في السوق”، وتتفاخر بأنها كانت على دراية بحدوث هذه الأزمة، وخزّنت المادة لتطرحها وتطبّق مفهومًا تطلق عليه “التدخل الإيجابي”، هدفه “وجود المواد في صالاتها بأسعار تخفيضية دونًا عن بقية الأسواق”.
الباحث في الاقتصاد الدكتور فراس شعبو، اعتبر أن مفهوم “التدخل الإيجابي”، هو محاولة تقوم بها وزارة التجارة الداخلية، هدفها الرئيس “امتصاص غضب الشعب”، في محاولة منها للإيحاء بأن الحكومة موجودة وتُسيطر على أسعار المواد وكمياتها.
ويرى الدكتور فراس شعبو، في حديثه إلى عنب بلدي، أن “السورية للتجارة” وحتى وزارة التجارة الداخلية، هي “مؤسسات تنظيمية ليس أكثر من ذلك”، لا تملك القدرة على ضبط أسعار المواد أو توفير كميات منها، موضحًا أنها لو امتلكت ذلك، لما لجأت أساسًا إلى حلول تخفيض الدعم وحرمان بعض المواطنين منه.
وتُروّج حكومة النظام بأنها “تحمي المستهلك”، في محاولة منها للالتزام “بالحد الأدنى” من العقد الاجتماعي الذي يربطها بالشعب، والذي ينص على أن تقوم الدولة بواجباتها تجاه الشعب، وبالمقابل سيقوم الشعب بالتزاماته تجاه الدولة، بحسب الباحث شعبو.
ولكن الغاية الحقيقية لـ”التدخل الإيجابي” الحالي الذي تقوم به وزارة التموين، هي “التربح على الشعب، واستنزاف أمواله”، بحسب ما يعتقده الدكتور فراس شعبو.
رجال أعمال “مقربون”
خلال السنوات الماضية، برزت أسماء العديد من رجال الأعمال المؤيدين للنظام السوري، استخدمهم من أجل حماية مصالحه الاقتصادية في السابق، ودعمهم إلى أن صارت القرارات التي يفرضها اليوم تُفصّل على قياسهم.
و”كتقدير لهم”، تعهدت حكومة النظام بتسويق منتجاتهم “ما استطاعت”، وأصبحت تحتكر منتجاتهم فقط، بشرائها دونًا عن منتجات بقية التجار، بصرف النظر عن جودتها.
ففي مطلع تشرين الأول الماضي، قررت “المؤسسة السورية للتجارة” طرح مادة الزيت في صالاتها، وبيعها للمواطنين وفق مخصصات محددة على “البطاقة الذكية” وبأسعار “تشجيعية”.
وشارك وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك، عمرو سالم، في منشور له عبر “فيس بوك”، صورة له وهو يحمل عبوة زيت مغلّفة بشعار “السورية للتجارة”، من إنتاج شركة “بروتينيا” للزيوت في حمص، التي يملكها رجل الأعمال المقرب من النظام عصام أنبوبا.
وأحدث خبر تزويد شركة “بروتينيا”، “السورية للتجارة” بمادة الزيت حينها، سجالًا وانتقادات تتعلق بحصر استيراد المواد بأشخاص معيّنين، وعدم السماح للقطاع الخاص باستيرادها.
بينما نفت وزارة الاقتصاد في حكومة النظام مسألة الاحتكار، معتبرة أن أي مادة يُسمح باستيرادها، تكون “مسموحة” لأي مستورد.
كما أعلن عمرو سالم، في 14 من أيلول الماضي، عن تخصيص جميع منتجات معمل “الفوز” للسكر لمصلحة “السورية للتجارة”، بتأمين مادة السكر بالسعر الحر.
وتعود ملكية معمل “الفوز” للسكر الذي تعاقدت معه الوزارة، إلى رجل الأعمال المقرب من النظام والمعاقَب أمريكيًا سامر فوز.
الدعم ليس الطريقة “الأنجع”
يرى الباحث والدكتور في الاقتصاد كرم شعار، أن المشكلة التي تواجه طريقة “المؤسسة السورية للتجارة” والتدخل الحكومي في الأسواق، من الممكن أن تكون من شقين أساسيين، تعود بآثارها على المستهلكين.
ويتمثل الشق الأول من المشكلة بارتباط هذه الطريقة بالفساد، إذ من الممكن أن توقّع الحكومة عقودًا “فاسدة” مع موردين مرتبطين بالنظام، كمادتي السكر والزيت مثلًا، بحسب ما أوضحه الباحث كرم شعار في حديث إلى عنب بلدي.
أما الشق الثاني فهو سوء الإدارة، حسب الباحث، كأن تستجرّ الحكومة كميات محددة من مادة ما، على أمل التدخل فيها لاحقًا، إلا أن صلاحية هذه المادة قد تنتهي قبل حلول الوقت المناسب لتدخلها في الأسواق، كما حدث في حالات سابقة مع “المؤسسة”.
واعتبر شعار أن المشكلة الأساسية في هذا النوع من التدخل، هي فكرة “الدعم الحكومي” للمستهلك من أساسه، الذي يعاني اليوم من إشكاليات عديدة.
ويؤيد شعار آلية رفع الدعم عن السلع بشكل كامل، مبررًا ذلك بأن ما تقوم به الحكومة ليس “الطريقة الأنجع لدعم المواطنين”، وأن “الأنجع” هو ترك المجال للصناعيين والتجار لاتخاذ القرارات حول إنتاجهم واستيرادهم وتصديرهم للسلع بحسب مصالحهم، وبتصرف مضبوط وقانوني من قبل الحكومة.
ويعتقد شعار، أن من شأن مصالح التجار في هذا الموضوع أن تدعم مصالح الجميع، في حال عدم حدوث احتكار لسلعة أو مادة لمصلحة تاجر أو مؤسسة ما.
وفي هذه الحالة يقتصر دور الحكومة على المراقبة، والتدخل فقط في حالات وجود التلاعب أو الغش أو الاحتكار، وفقًا لشعار.
وفي حال أرادت الحكومة أن تبقي على سياسة “دعم المواطنين”، فالأنجح هنا، بحسب الباحث كرم شعار، أن يكون الدعم على شكل مبالغ نقدية محددة يستطيع المواطنون التصرف بها وفقًا لاحتياجاتهم التي تختلف بين شخص وآخر.