نبيل محمد
كان غريبًا إعلان منصة “شاهد” عزمها تقديم عمل يوثّق حياة الفنان السوري جورج وسوف، لكن الأغرب هو سويّة العمل الذي اختتم مؤخرًا على المنصّة، والمدعوم بحضور جورج وسوف ذاته فيه، شاهدًا على حياته، يحكي مراحلها وقصصها، ليتولى الممثلون تحويل حديثه إلى مشاهد بوفاء كامل للسيرة التي يحكيها ابن حمص، في صورة يشوبها عدم الانتماء بشكل واقعي للفترات التي يتم الحديث عنها خاصة في بداياته الفنية التي من المفترض أنها منتصف سبعينيات القرن الماضي.
في تفاصيل العمل كمٌّ هائل من الملاحظات الفنية التي لا شك أنها تضرب العمل بمقتل، ولكنها ليست هي القضية الأساسية، بكل ما تعجّ به من مشكلات، من الحوارات المدرسية الضعيفة والخاوية، إلى انعدام وجود ممثل أساسي محترف، وصولًا إلى عدم قدرة العمل على الإقناع بحقيقية البيئات التي تجري فيها الأحداث، والسلوكيات المتخذة خلالها. بمعنى أن الضعف يسكن في الشكل العام وفي التفاصيل، لكن الأساس قبل كل هذه الملاحظات، هو نقد المبرر الأساسي لإنتاج العمل.
في المقام الثاني، هل ما يقوله جورج وسوف حاليًا، وقد بلغ به الضعف الجسدي وصعوبة النطق بشكل مفهوم مرحلة متقدمة، يمكن الاعتماد عليه كليًا في توثيق حياته، دون تدخّل من مصادر أخرى قادرة على ضبط هذا التوثيق، أو على الأقل ضبط شكل البيئات التي يظهر فيها؟
يحاول العمل تارة إظهار جورج ابن الـ14 عامًا (لا يظهر الطفل المؤدي للشخصية بهذا العمر نهائيًا إنما يبدو أصغر بسنوات عدة)، ابن بيئة فقيرة معدمة، وتارة ابن بيئة مقتدرة، فعائلته فقيرة عندما يذهب السياق باتجاه إظهار جورج بمظهر المخلّص للعائلة من فقرها، ومقتدرة عندما يتجه العمل لتقديم جورج المثقف موسيقيًا والذي لازمه العود ومدرّس الموسيقى منذ طفولته، وعاش بصحبة أطفال من عليّة القوم، فمنهم ابن عضو في مجلس الشعب، يركبون السيارة وهم في هذه السن المبكّرة، فيمضون إلى حلب ليشربوا “البيرة” ويدخّنوا السجائر في الشوارع بشكل طبيعي معتاد، بعدها يدخلون إلى النادي الليلي ليغازلوا الغانيات فيه. كان هذا المشهد غريبًا، ومن الغريب أنه مرَّ على طاقم العمل كاملًا دون أن يقرَّ أحد بأنه مبالغ به، مبالغة ربما مصدرها مزدوج، فهو من جهة قد يكون من مبالغات الراوي الذي قد لا تسعفه ذاكرته بتحديد دقيق للسلوكيات والتواريخ المحددة، ومن جهة أخرى فإن طفولة الشخصيات الطاغية لن تقنع أبدًا بأن أطفالًا بهذا الشكل قاموا بكل هذه السلوكيات في سوريا السبعينيات.
لا حمص حمص ولا دمشق دمشق، الشوارع والأجواء والشخصيات كلّها تتعارض مع البيئة التي تجري فيها الأحداث، ولعل معاصري هذه المدن في السبعينيات سيدركون تمامًا هذا التفصيل المهم، أما من لم يعاصروا تلك المدن في تلك المرحلة، فيكفي أن يستمعوا إلى حديث أي شخصية في المسلسل، ليدركوا أن الاعتماد على كوادر لبنانية في العمل “لبنَنَ” البيئات كلها من الريف إلى المدينة.
تبلغ المبالغات ذروتها في سنوات شباب وسوف الأولى، عندما بدأ يغني في مطاعم أوروبية، وبدأ يلعب “البوكر” و”الروليت”، ليخسر في ليلة واحدة مليوني جنيه إسترليني، وهو درس قاسٍ في الحياة تعلمه وسوف حسب قوله، حيث خسر “من كيسه”، خسارة يمكن تقبل حجمها بعد شهرة وسوف ونجوميته، أما خسائر البدايات أن تبلغ هذا الرقم، فعلّها أيضًا واحدة من القضايا الكثيرة التي لا يمكن الاعتماد على ذاكرة الفنان فيها.
لا بد أن سيرة فنان بدأ منذ الطفولة المبكرة بالغناء، وغادر بيت عائلته ليخط طريقه وحده في مدن لا يعرفها، ثم استطاع أن يصل إلى النجومية، هي سيرة كلاسيكية مرّ قطاع كبير من أصحاب الشهرة في الغناء وغيره بتجارب مشابهة لها، يبقى أن في سيرة وسوف ما هو مغرٍ للتوثيق بالنسبة إلى من يهتمون بتوثيق حيوات الفنانين عادة، فسوى قصة نجاح الطفل، هناك قصة غوص الشاب بالإدمان، وعلاقاته مع شخصيات أمنية وعسكرية متنفّذة لعبت دورًا كبيرًا في فتح أبواب مختلفة له، من أبواب المطاعم والملاهي الليلية إلى المسارح والمهرجانات، تلك التفاصيل لو تمت روايتها بشكلها الحقيقي وبفنيّة توثيقية محترفة، تعرف كيف تأخذ من القصة أثرها ومغزاها، لكان من الجميل أن نتابع حياة وسوف، ونعرف كيف وصل إلى هنا، هنا حيث يعيش مرحلة كهولته ومرضه مرتقبًا أي تكريم من القيادة، التي لا تبخل عليه بين حين وآخر بأن تذكّره بأنها لم تنسَه بعد.