حذام زهور عدي
في حوار حول الوضع السوري، تساءل أحدهم مستنكرًا، لماذا تُشدد المعارضة السورية على رحيل الأسد؟ وهل من المنطق وضع مصير وطنٍ وشعب مقابل شخصٍ واحد.. مقابل الأسد؟
في المنطق الشكلاني المبسّط يبدو هذا الاعتراض مشروعًا، لكن جدلية الوقائع ترى الأمور بمنطق آخر.. تراه بعمقه الحقيقي.
بشار الأسد لم يستولِ على السلطة بالألاعيب البهلوانية التي رسمها والده وأجاد تربيطها فقط، وإنما اعتمد على استمرار هابط لميكيافيلية والده وشخصنة نظامه، دون أن يملك حنكته أو إمكانياته، وما إن تخلص من البطانة التي كانت تحيط بوالده والتي تدربت على يديه واكتسبت خبرته، حتى بدأ تسارع التراجع الذي كان بعيدًا إلى هذا الحد أو ذاك عن مواصفات الحكم الرشيد.
إن المتابع لما حدث منذ “الحركة التصحيحية” التي قادها والده، يعثر بسهولة على إجابة التساؤل السابق، فقد درس العقيد العسكري حافظ الأسد الواقع السياسي السوري والعوامل المؤثرة فيه جيدًا، ووجد باختصار أن الجيش في سوريا هو أداة الوصول إلى السلطة، وهو من يقوم بالانقلابات السياسية، فاستولى عليه بطرق مختلفة، وحوّله إلى جيش يحمي سلطته.
كما وجد أن الإمساك بالاقتصاد يُلحق المحتاجين والانتهازيين وطلاب الثروة به، ويُلهي الناس بالسعي على لقمة العيش لهم ولأولادهم، وأعجب بدور الحزب الواحد لدى السوفييت ومن يدور في فلكهم، ورأى أن أجهزتهم الأمنية خير نموذج لضبط البلاد والعباد، فجعلها تتغلغل في مسارب المجتمع وزواياه، وأنشأ منظمات لكل فئة اجتماعية غرضها الأول والأخير ضبط المعارضين والتسبيح بحمده، ليُحكم السيطرة على دقائق حياة السوريين. وبالرغم من كل ذلك لم يطمئنَ قلبه، بل جعل للقصر الجمهوري جيشًا خاصًا وجهازًا أمنيًا مستقلًا، ومؤسسات تشرف على كل ماسبق وتضع جميعها بما فيها القيادات العسكرية الموالية تحت المراقبة،ثم جيَش الطائفة وترك لها الفتات ليضمن خزانًا بشريًا يدافع عنه عند الحاجة.
ورث بشار فيما ورث عن أبيه تلك التشكيلات والمؤسسات والأجهزة، وعلى رأس ما ورث، المركزية السلطوية، والسلطة المطلقة، والإمساك بالخيوط كلها وعدم ترك نافذة لأي خطأ قد يؤثر على تلك السلطة، وعدم إهمال أي أمر قد يؤدي إلى صدفة غير محسوبة، وأصبح أي فرع أمن يحتاج إلى موافقته الشخصية من أجل التحرك بأي اتجاه يجده مناسبًا لعمله، وبالطبع الوصية الأهم لوالده هي:عدم إغضاب المؤثرين الدوليين بسلطته وعدم التعدي على خطوطهم الحمراء بما فيهم اسرائيل، أو بالأحرى على رأسهم اسرائيل.
بدأ بعد سنوات استقرار حكمه تنتشر الشائعات ويتداول المقربون منه أخبارًا عن نيته تحويل سوريا إلى ملكية وراثية مطلقة، مستغلًا صمت الشعب بعد أن زرع فيه الرعب والخوف بسبب العنف غير المحدود الذي انتهجه والده، واستمر هو أمينًا عليه ونجاحه الباهر في تمثيليات الانتخابات، لدرجة أصبح عناصر الأجهزة الأمنية يتفاخرون أمام الناس بوقاحة عن قدرتهم على إسكات أي صوت يرون فيه شُبهة احتجاج على أي ممارسة تصدر عنهم أو عمن له علاقة ما بالسلطة، يتعمدون استفزازهم والاستهزاء بهم ويستمتعون برد فعلهم الممالئ أو الصامت، وكأنهم موجَهون لجس نبض ردود الفعل، حتى لو تعدى أحدهم على الأعراض كان على السوريين ألا يبدوا أي رد فعل حتى لا يُحسب اعتداءً على هيبة الدولة.
وتعمد إطلاق يد الفساد، فمن لا يمارسه لا يكون كفئًا للعمل المنوط به، وألحق القضاء بالحزب وأجهزة الأمن، ورعى شلَة من اللصوص والمافيات المحلية والعالمية التي أمسكت باقتصاد البلد، وهرَبت الأموال المنهوبة وبيَضتها بطرقها الخاصة، حتى باتت نسبة من هم تحت حد الفقر تتجاوز 35% وفق تقديرات هيئات الأمم المتحدة، وكانت تلك الشلة والمافيات كلها تعمل لصالحه وصالح الأسرة، ولها نسبة محددة لقاء خدماتها.
أمور كثيرة أخرى تتعلق بمناحي، الحياة السورية ودقائقها يصعب حصرها، ويكفي أنه عندما أمر الأمن أن يُعفي الناس من الإذن الأمني عدّد ثمانين حالة على رأسها حفلات الزواج والأحزان، وما بقي مما يحتاج إلى إذن كان أكثر من ضعفها، ولم يكن لأي جهة أو مؤسسة أن تعمل خارج توجيهات الأسد وخططه وهيمنته، فالوزراء ورئيسهم ونواب مجلس الشعب بل حتى القضاة وأساتذة الجامعات و.. و…كلهم موظفون عنده، عليهم أن يرقصوا في أعراسه، ويبكوا في أحزانه، إنه صاحب القرار الأول والأخير في البلاد.
عندما اشتم السوريون عبق الربيع العربي وشعروا أنهم قادرون على التغيير، وثاروا، اختار بشار الأسد الطريق الأسوأ برغم نصائح كثير ممن كانوا حوله. هو لا يريد التنازل عن أي صغيرة اكتسبها من خلال النظام الذي تعب مع والده في بنائه، وآثر خراب الوطن، وشرّع الأبواب للغرباء من كل جنس ولون، يعيثون في البلاد فسادًا ورماهم بالإرهاب الذي صنَعه ليكون حاميته داخليًا وخارجيًا، ليحقق أوهام الأسرة بملكية وراثية وجدها حقًا لهم، ولِمَ لا (بحسب ما نُقل عنه) فالدول الأخرى التي تتمتع بالملكيات ليست أفضل منه، وأحلامه لم ترَ أي اختلاف بينها وبين سوريا والشعب السوري مجتمعًا، وبُنيةً، وخلفيةً حضارية، من أجل تحقيق تلك الأحلام كانت أجهزته تسوّق “سوريا الأسد” وتُغيّب اسم “الجمهورية العربية السورية”.
لأن الأسد هو كل ما سبق، يتمسك الإيرانيون بشخصه، يسحبون منه القرار ويُتابعون آلية الحكم كما كانت، هم يتعهدون له بدوام كرسيه، وهو يُطلق يدهم بتشكيل سوريا الإيرانية، ومن أجل ذلك أيضًا يحرص عليه بوتين، ويبتزّ العالم به.
إن التساهل باستمرار وجود الأسد مع بقاء أعمدة نظامه باسم الحرص على المؤسسات والدولة، لا يُنتج إلا العودة إلى وضعٍ أسوأ مما كان عليه قبل الثورة، ويعني استمرار آل الأسد الإيرانيين إلى أفقٍ غير منظور، فلقد أتقنوا من الألاعيب ما لا يخطر في بال إبليس، ويعني أخيرًا تسليم البلاد إلى فوضى لا تُبقي ولا تذر. ومن أجل ذلك يُصرّ السوريون على إزاحته، فبذلك ينهار نظام الاستبداد والفساد، وتتدحرج حجارته الواحدة تلو الأخرى غير مأسوف عليها، ومن أجل ذلك كان الثوار منذ بدء الثورة يُنشدون: ما في للأبد.. ما في للأبد…سوريا لينا وما هي لبيت الأسد.