صالح ملص | جنى العيسى | ديانا رحيمة
يتكوّن المشهد السوري العام من تركيبة معقدة تتداخل فيها مصالح الفاعلين في مختلف المجالات، بالتزامن مع تغيّر البنى التنظيمية والإدارية والسياسية والقانونية والاقتصادية والثقافية داخل الدولة والمجتمع، فضلًا عن تغيّر علاقة المجتمع بالسلطة التي تحكمه، وعلاقتهما مع المحيط الإقليمي والدولي.
تحتاج حالة التعقيد السوري هذه، التي انفجرت عام 2011، إلى خطوات واعية تمتلك الأدوات لتفكيكها من أجل فهمها وتحليلها من أساسها، وذلك عبر التمكّن من القدرة على نقدها بموضوعية، ومراجعة ما كان يُعتقد أنه يقين يومًا ما، واستبعاد ما يحدّ من تعافيها في المستقبل.
وأفرزت السنوات العشر الأخيرة قدرة بحثية تلازمت مع حجم التغيّرات التي عاشتها سوريا، بفضل ثورة المعلومات وتطور الاتصالات التي قدمت للباحثين مساحة واسعة لمحاولة تفسير الأحداث والاجتهاد لفهم مساراتها في المستقبل، وأثّر هذا العمل البحثي على حياة الأفراد العاديين، بعيدًا عن المؤسسات التي نمت تحت ظل سلطة مستبدة كان من الصعب إنتاج أي نشاط بحثي منهجي ينتقد سياستها وتعاطيها مع الواقع من حولها.
تحاول عنب بلدي في هذا الملف مناقشة جهد مراكز الأبحاث التي اختصت بدراسة الشأن السوري، والتي نشأت خلال العقد الأخير، وجدوى عملها في التأثير على الرأي العام وصنّاع القرار، ومفهوم العمل البحثي، ورصد أبرز تلك المراكز، والمعايير التي تضبط إنتاجها، وذلك مع مختصين سوريين في المجال البحثي.
ضعف في الموارد والتمويل
واقع بحثي محبط في سوريا
بدأ البحث العلمي في سوريا رسميًا عام 1958، مع تأسيس المجلس الأعلى للعلوم“، وتألف هذا المجلس من لجان متخصصة تمثّل جميع الجهات المهتمة، تُعد الخطة العلمية ويرأسها وزير التعليم العالي.
وفي عام 2006، صدر المرسوم التشريعي رقم “68” لإنشاء “االهيئة العليا للبحث العلمي“، وأُنيط بها تخطيط البحث العلمي في سوريا، ورسم السياسات الخاصة به، وتنسيق الأبحاث والدراسات بين شتى مراكز الأبحاث والجامعات السورية، وإقرار الموازنة المالية لهذه الأبحاث.
ويعتبر توفير مصادر لتمويل البحث العلمي أمرًا في غاية الأهمية، كونه يعطي مدلولًا وإشارة إلى درجة مصداقية نتائج البحث والاعتراف به كوظيفة فعّالة لا بد من الاعتماد عليها في تطوير الواقع، كما أنه استثمار مأمول في حال إدارته بالشكل الأمثل.
إلا أن البحث العلمي في سوريا، كحال بقية القطاعات الأخرى، كان يشهد سيطرة حكومة النظام السوري، بحسب ما تشير إليه التقارير الصادرة عن منظمة “يونسكو” بين الأعوام 2010 و2017، فنسبة الإنفاق المالي على البحث العلمي داخل سوريا منخفض للغاية، وهي ذات مصادر تعتمد على التمويل الحكومي الذي يصعب تقديره بسبب عدم لحظ هذا التمويل بوضوح في خطط التمويل السنوية للجامعات والمراكز البحثية.
يتعذر تمييز ما أُنفق على البحث العلمي عما أُنفق على الجانب الإداري والخدمي من مجموع الإنفاق العام، وفق تقرير “يونسكو” الصادر عام 2019، والذي رصد واقع العمل البحثي داخل سوريا.
وتتفاوت الإحصائيات التي تشير إلى حجم الإنفاق على البحث العلمي، ومع ذلك، قد تكون نسبة 0.12% من الناتج المحلي الإجمالي هي النسبة الأكثر تداولًا في مختلف الإحصائيات المتعلقة بالإنفاق على هذا المجال في مرحلة ما قبل عام 2011، وتنخفض هذه النسبة إلى ما دون 0.04% بعد عام 2011.
ومن خلال قراءة البيانات المتعلقة بمصادر تمويل المشاريع البحثية داخل سوريا، يتبيّن وفق التقرير، أن التمويل قد تركّز بمعظمه على التمويل الحكومي، وهناك ضعف من جهة التمويل الخاص (المحلي أو الخارجي).
وعلى مستوى الموازنات الحكومية السنوية التي تُخصص لمؤسسات منظومة العلم والتقانة والصناديق الداعمة للبحث العلمي، فلا يجري إنفاقها بأكملها على الرغم من محدوديتها.
وعلى سبيل المثال، اعتمدت الموازنة العامة للسنة المالية عام 2014 نسبة بلغت 0.14% من إجمالي الموازنة العامة للإنفاق على البحث العلمي في سوريا، في حين تقل هذه النسبة في عام 2015 لتصل إلى 0.10% من الإجمالي. ولكن نسبة الإنفاق بلغت 0.02% لكلا العامين، بحسب تقرير “يونسكو”، أي أن هناك فجوة بين ما يُخطَّط وما يُنفَّذ.
وقبل عام 2011، لم يتوفر في سوريا إلا مركز بحثي واحد مرخص من قبل حكومة النظام. وفي تقرير لصحيفة “السفير” اللبنانية، نُشر عام 2006، كان مركز “الدراسات والأبحاث” في دمشق، هو المركز الرسمي الوحيد المرخّص له بالعمل البحثي في كل سوريا، وكان يتبع لمكتب “الأمن القومي”، الذي يعد أعلى سلطة أمنية في البلاد من الناحية الدستورية حينها.
بينما اقتصرت رخصة عدد من المراكز البحثية الأخرى على السماح لها بالعمل كدار أبحاث، ونشر سجلها التجاري خلال ممارسة عملها بدلًا من أن تكون مركز دراسات بحثية.
واختص مركز “الدراسات والأبحاث” بدراسة كل ما له تأثير على “الأمن القومي السوري”، وكانت دراساته التي لا يُعلَن عنها، تُدرّس ضمن دائرة متخذي القرار ومحيطها فقط.
ومن أبرز ما عاق ظهور المراكز البحثية قبل الثورة، عدم ترخيص الحكومة لعملها أولًا، ثم عدم تقديم الدعم المادي لها، وعدم الاهتمام بما يقدمه الباحثون حينها أو حتى النظر والتدقيق فيه، بحسب ما نقلته صحيفة “السفير” عن مديري مراكز بحثية متعددة المجالات في التقرير.
ويواجه البحث العلمي في منظومة التعليم العالي والمراكز البحثية السورية عدة صعوبات، وفق تقرير منظمة “يونسكو”، من أهمها، ندرة الطلب الجدي على البحث العلمي نتيجة لضعف الروابط مع القطاعات الإنتاجية والخدمية، وضعف الثقة بأهميته، بالإضافة إلى النزعة الفردية في إجراء الأبحاث وندرة تكوين الفرق البحثية المتكاملة، وآليات تمويل المشاريع البحثية المحبطة للباحثين نتيجة التعقيد والبيروقراطية.
طفرة بحثية بعد 2011.. ما الأسباب
على نقيض واقع العمل البحثي في سوريا قبل 2011، زادت أعداد المراكز البحثية المهتمة بالشأن السوري بعد الثورة السورية زيادة ملحوظة.
وفي الوقت الحالي، يعتبر العمل البحثي مجالًا مفتوحًا أمام من يرغب في فهم مشكلة ما حول الوضع العام في سوريا، في ظل وجود كثير من القضايا التي يُمكن البحث فيها من أبعاد متعددة، بالإضافة إلى وجود توجه لدعم البحث العلمي، وتشجيع الكفاءات وتدريبها.
فضاء حر للتفكير
لم يكن لمراكز الأبحاث السورية وجود حقيقي قبل الثورة لأسباب عديدة، منها احتكار مراكز الدراسات (على قلتها) لمصلحة النظام، وحصر عملها في ملفات محددة دون الخوض في الإشكاليات الحقيقية على مستوى بنية الدولة والمجتمع، بحسب ما أوضحه المدير التنفيذي لمركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، الدكتور عمار القحف.
وأضاف القحف، في حديث إلى عنب بلدي، أن وجود المراكز البحثية الأخرى التقليدية حينها كان مرتبطًا بالجامعات، وكان عملها جزءًا من بيروقراطية مؤسسات الدولة وإشكالاتها، ولم تكن تملك القدرة على التأثير في صناعة القرار، بسبب طبيعة صناعة القرار في بنية النظام “المُتحكم بها من قبل فئة محددة وأجهزة أمنية”، فقبل عام 2011، لم يكن مسموحًا للسوريين التفكير والتخطيط لأنفسهم لأن “هناك من يفكر عنهم”، بحسب تعبيره.
واعتبر القحف أن حدث الثورة السورية أسهم بخلق فضاء حر للتفكير والتفاعل خارج إطار سلطة النظام على المراكز البحثية، وأفسح مساحة عمل مهمة لمراكز الدراسات والأبحاث، عبر كسر احتكار السلطة لهذا المجال، وإعادة التفكير في الإشكالات الملحّة بشكل واقعي وحر.
كما أبرزت الثورة الحاجة إلى مراكز بحثية، لمحاولة التأثير في عملية صنع القرار، في ظل تعقيدات القضية السورية وطبيعتها المركبة بين عوامل داخلية، وإقليمية، ودولية متشابكة، ووسط تهافت مراكز الدراسات والأبحاث العالمية لفهم وشرح ما يجري في سوريا.
بيئة مناسبة وتمويل مخصص
لعبت حالة اللجوء والهجرة إلى خارج سوريا التي اضطر، أو سعى، إليها العاملون في المجال البحثي دورًا مهمًا في زيادة معدل إنشاء المراكز البحثية السورية أو المهتمة بالشأن السوري، وهو ما شكّل بيئة عمل مناسبة لهذا القطاع تسمح بالتعبير بحرية وإبداء الرأي.
وبحسب ما يراه مدير الأبحاث في مركز “السياسات وبحوث العمليات”، الباحث والدكتور في الاقتصاد كرم شعار، فإن هذه البيئة شجّعت الباحثين السوريين على نشر أبحاثهم دون رقيب مستبد، ما زاد من المبادرات البحثية المطروحة التي تواكب إمكانيات المختصين واحتياجاتهم.
وأوضح شعار، في حديث إلى عنب بلدي، أن ما يؤكد عدم وجود بيئة في مناطق سيطرة النظام تسمح للمراكز البحثية بالعمل دون تقييد، هو أن جميع مراكز الأبحاث المنتجة لعمل يُعوّل عليه، تعمل اليوم من مناطق خارج سيطرته.
وأكد شعار أن وجود المشكلات الكثيرة التي خلقها النزاع المسلح في سوريا، عزّز من الحاجة إلى وجود مراكز بحثية، تعمل على البحث في تفاصيل المشكلة وتُقدّم حلولًا لها.
كما فتح “التمويل المالي والدعم” المجال أيضًا لإنشاء مراكز تضم باحثين في مختلف القطاعات السياسية والعسكرية أو الاجتماعية والإنسانية، وفقًا للباحث كرم شعار.
لاعبون جدد بحاجة إلى بوصلة الأبحاث
يرى الباحث الزميل الأول في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، والباحث الرئيس في “منتدى الشرق”، سنان حتاحت، أن حدث الثورة السورية، بحد ذاته يحتاج إلى العديد من المحددين والباحثين السياسيين من أجل استشراف عملية التحليل لأحداث هذه الثورة، وكيفية التعامل معها.
كما أظهرت الثورة فاعلين ولاعبين جددًا في المعارضة السورية ضمن الساحات السياسية والأمنية والاقتصادية، يحتاج بعضهم إلى الخبرات والمحللين والباحثين للاسترشاد والعمل وفقًا لدراساتهم، بحسب ما قاله حتاحت في حديث إلى عنب بلدي، الذي ربط ظاهرة انتشار المراكز البحثية بعد عام 2011 بحاجة مجموعات المعارضة السياسية إليها.
عدم وجود منافسة بين عدة جهات عاملة في الشأن العام السوري قبل 2011، أدى إلى تدني الوعي بأهمية المراكز البحثية لتسخيرها من أجل التأثير على الرأي العام وسلوك الأفراد وتوجهاتهم الفكرية، لأنه لم تكن هناك أي حياة سياسية في سوريا حتى في أبسط صورها، على الرغم من أن الرأي العام يتمتع بقوة لا يمكن تجاهلها في أي مجتمع.
وأوضح الباحث حتاحت أن القوى السياسية تحتاج إلى مراكز الأبحاث لمعرفة تبعات بعض القرارات من أجل تحرير الواقع، وهذا عكس ما يحدث في الدول الشمولية التي يتخذ النظام السياسي قراراته فيها دون الاعتماد على مراكز الأبحاث والدراسات المختصة.
وجعلت تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات الجمهور يتابع كل ما يجري حوله في العالم لحظة بلحظة، لذلك، فإن الجمهور يعد من أحد العوامل المؤثرة في صنع القرار ضمن المجتمعات الديمقراطية، أي أن الرأي العام يستحوذ على اهتمام الزعماء، والقادة والحكومات، والمؤسسات، والباحثين.
الحقيقة إمام البحث العلمي
تختلف معايير ضبط العمل البحثي من طبيعة عمل مركز إلى آخر، فالعملية البحثية في الإطار الأكاديمي، والتي تعنى بالنظرية والمنهجية الصارمة، تختلف عن العملية البحثية في إطار مراكز التفكير والدراسات، كما تختلف تلك المعايير بتفاصيلها أيضًا بحسب مدارس البحث الغربية والشرقية، وبحسب طبيعة الأبحاث من حيث النوع أو الكم، وحتى إن كانت المعايير العامة تتقاطع في مكان ما، لكن لكل اتجاه خصوصيته ومعاييره.
التنقيب عن الحقيقة
يعتبر البحث العلمي الجهد الذي يبذله الباحث، تفتيشًا، وتنقيبًا، وتحليلًا، ونقدًا ومقارنة، في موضوع ما، بغاية اكتشاف الحقيقة أو الوصول إليها، متميزًا بذلك عن محاولة إقامة البرهان على قضية معيّنة وإثبات صحتها، أو تأييد رأي ما، يتفق ورؤيته أو ميله، وفق كتاب “أصول كتابة البحث وقواعد التحقيق” للكاتب الدكتور مهدي فضل الله، أستاذ المنطق ومنهجية البحث العلمي في كلية الآداب- قسم الفلسفة في الجامعة اللبنانية، (الصفحة 12).
وبالتالي، فإن كل بحث علمي هو مشروع مفتوح يسعى إلى زيادة وتعميق المعرفة واكتشاف المزيد من المشكلات المتطلبة للحل، وذلك من خلال الاستفادة من المعلومات المتاحة بأسلوب مؤثر، ومبتكر، وواضح، ودقيق، يبتعد عن الغموض، والحشو، ويحسن ربط الأفكار عن طريق التحليل المنطقي، والبرهان العقلي، والترابط العلمي، بحيث يشد انتباه القارئ إليه، ويجذبه للاطلاع عليه، ومتابعته من البداية حتى النهاية.
واستنادًا إلى هذا التوصيف، يتعارض العمل البحثي الهادف إلى تقديم مشكلة جديدة ومحاولة معالجتها مع السعي إلى برهنة فرضيات تقترحها نظريات معيّنة، لأن هذه الفرضيات لا يمكن أن تكون صحيحة بشكل مطلق.
حالة صحية بعد قمع السلطة
يرى الباحث كرم شعار أنه لا يجب أن تكون هناك معايير أو شروط معيّنة تُحدد لمراكز الأبحاث أو للباحثين، ولعل أحد الجوانب المضيئة والقليلة جدًا التي تدعم العمل البحثي في سوريا، هو الانفتاح الفكري الذي أعقب الثورة السورية.
ويوجد العديد من المراكز التي تطلق على نفسها صفة مراكز أبحاث، كما يوجد العديد من الناس الذين يطلقون على أنفسهم صفة “باحثين”، و”لا ضير في ذلك”، بحسب شعار، ولكن العبرة هي في التقييم.
عندما يصدر البحث تكون الأغلبية العامة من الناس غير قادرة على تقييم الجودة العامة له لأنهم غير اختصاصيين، ولكن هناك نسبة ما بين 5 و10% من أهل الاختصاص قادرون على مساعدة المركز على أن يستمر أو يتوقف، بحسب شعار، أو جعل الباحث يستحق لقب “الباحث”، لأنهم الأشخاص الأكثر تعليمًا والأكثر اختصاصًا.
كما يرى شعار أن من الطبيعي في المرحلة الحالية في سوريا، بعد أربعة عقود من القمع الشديد تحت سلطة النظام السوري، أن تتشكّل حالة من التشظي الفكري والأيديولوجي.
وأصبح من الصعب الاتفاق على أي توصيف موحد للعمل البحثي، وهذا ليس بالضرورة حالة غير صحية، وفق شعار، بل سيشكّل حالة من التكتل الفكري لتظهر مدارس وطروحات عامة لكل موضوع على حدة، ولكن المرحلة الحالية من الطفرة البحثية المرتبطة بالحالة السورية طبيعية، بعد فترة طويلة من انعدام القدرة على التعبير عن رأي على أي صعيد كان، بحسب شعار.
تراكم معرفي يشكّل الوعي الجمعي
المراكز البحثية السورية تعد ظاهرة جديدة، وأداة معرفية لا يزال المجتمع في طور تقبّل ثقافتها والتعرّف إليها، كي تُسهم في المستقبل بتشكيل الوعي الجمعي للأفراد.
وبحسب ما يراه الباحث سنان حتاحت، ليست جميع مراكز الأبحاث السورية على نفس السويّة من حيث تأثيرها على الجمهور السوري، فبعضها يختص بمجرد فعاليات تمثّل شريحة ضيقة من الأفراد، وبالتالي فهي “عنوان عريض أو غطاء شرعي لأعمال المناصرة أو أعمال الضغط، إلا أنها لا تعد ضمن وصف المراكز البحثية”.
ومراكز الأبحاث السورية التي ينطبق عليها هذا الوصف، “يمكن عدها من خلال أصابع اليد الواحدة”، وفق حتاحت، في إشارة إلى قلتها على الرغم من توفر البيئة المناسبة حاليًا لتكوينها.
وتأثير هذه المراكز البحثية على الأفراد لا يقاس بالعموميات، لأن الأفراد العاديين هم ليسوا الجهة الرئيسة المستهدفة من قبل تلك المراكز، وإنما الشريحة المستهدفة بشكل أساسي هي أولئك الذين يشاركون في صنع القرار، والمؤسسات الحكومية أو الخاصة التي تمتلك فعالية مباشرة على أرض الواقع، مثل مؤسسات المعارضة السورية والحكومات الفاعلة في الشمال السوري، حتى ولو كانت درجة فعاليتها العملية في الواقع محدودة.
ومستويات تلبية إنتاج مراكز الأبحاث المرتبطة بالشأن السوري لاحتياجات الأفراد الأساسية في الفترة الحالية تكون متفاوتة، وفق الباحث حتاحت، لأن مضمون الأبحاث لا يكون في مجال محدد، وفي الوقت الحالي، فإن المجتمعات في المناطق الأساسية السورية على اختلاف القوى المسيطرة عليها لا تمتلك مبادرة اتخاذ القرار، وبالتالي لن تستطيع أن تتبنى سياسات محددة اعتمادًا على مخرجات المراكز البحثية.
وتقتصر تلبية مراكز الأبحاث لاحتياجات الأفراد على زيادة معدل الوعي المعرفي، والقدرة على تحليل المشهد العام بشكل أفضل ومحاولة استيعابه، وعندما يكون هناك وعي تراكمي بتفاصيل الأحداث، سينتج بالمستقبل نتائج إيجابية في القدرة على تحديد واتخاذ قراراتهم بما يرتبط بقضايا الشأن العام ضمن مناطقهم.
والحاجات الأساسية صارت بمجملها كارثة إنسانية، وفق ما يراه المدير التنفيذي لمركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، عمار القحف، إذ لا تستجيب لها مراكز الدراسات كمنظمات إغاثية، وإنما تستجيب لها كإشكاليات مزمنة تستدعي التفكير والتحليل ودراسة آثارها، وتقديم حلول وتوصيات منطقية تسهم في الاستجابة لتلك الحاجات وترشيد صناعة القرار في معالجتها.
بالمقابل، ينبغي على مراكز الأبحاث أن تربط مقياس تأثيرها في قدرتها على تصدير قراءة موضوعية تنسجم مع حاجات وإشكاليات المجتمع الأساسية وتقدم حلولًا لها، وإلا ستسبح مراكز الأبحاث بفضاء منفصل عن الواقع المعيشي للأفراد العاديين.
وبالتالي، يجب على هذه المراكز، وفق ما أوصى به القحف، أن تسعى للتنسيق والتعاون مع مختلف المنظمات السورية لتطوير الحلول على مختلف المستويات، وذلك بهدف تحويل الفضاء العام المسيّس والشديد الاستقطاب الفكري إلى برامج عمل وملفات قابلة للمعالجة ضمن رؤى وطنية وحلول إجرائية قابلة للتطبيق.
زيادة الوعي.. وظيفة مركزية
تحدد وظائف المراكز البحثية بحسب طبيعتها، فمراكز الأبحاث الأكاديمية الملحقة بالجامعات لها وظائف تتعلق بفحص وتطوير النظرية، ومراكمة نتاج بحثي ومرجعيات في تخصصات معيّنة.
بينما تختص مراكز الدراسات والتفكير والسياسات في التأثير بعملية صنع القرار، عبر أوراق ودراسات تتفاعل بشكل عملي مع الفضاء العام بمختلف تخصصاته، وتقوم على طرح حلول وتوصيات وسياسات لصانع القرار، وفق شعار.
وكل تفاعل لأي نتاج علمي مع الشأن العام من شأنه زيادة الوعي السياسي بأشكال عدة، وهذا يختلف أيضًا بحسب طبيعة المراكز وأهدافها، فالمراكز الأكاديمية تعمل على رفع الوعي السياسي عبر التخصص والتحصيل العلمي والتعليم المباشر، خصوصًا في إطار الجامعات وتخصصات العلوم الاجتماعية، إلا أن مراكز التفكير والسياسات تعمل بشكل أساسي على رفع الوعي السياسي عبر التفاعل مع إشكاليات وقضايا الشأن العام، وتصدير مخرجات تحلّل وتفكّك الواقع وتقترح الحلول والبدائل، بالإضافة إلى تفاعل أفرادها مع المجتمع، سواء عبر وسائل الإعلام أو الندوات والورشات.
يرى شعار أن المراكز البحثية تزيد من حيث المبدأ من الوعي السياسي، ويتناسب ذلك مع جودة المنتجات التي تطرحها، فكلما كانت الجودة أفضل كان هناك وعي سياسي أعلى، وبشكل عام تشجع المراكز البحثية على الحوار الذي يكون أساسه قاعدة علمية أكثر.
استطلاع رأي
أجرت عنب بلدي استطلاعًا للرأي عبر منصاتها في مواقع التواصل الاجتماعي وموقعها الإلكتروني، بشأن ما إذا كانت مراكز الأبحاث السورية أسهمت في توضيح المواضيع والقضايا التي تهمّ السوريين.
شارك في الاستطلاع 720 مستخدمًا، 560 من المصوّتين يرون بأن مراكز الأبحاث لم تسهم في إيضاح المواضيع التي ترتبط باهتمامات الشارع السوري، بينما 160 من المصوّتين يعتقدون أن مثل هذه المراكز ترفع من مستوى الوعي الجمعي بالقضايا التي تهمّ المجتمع السوري.
التأثير عند تقاطع الأجندة الوطنية مع الدولية
المراكز البحثية المهمة التي تنبّه صنّاع القرار إلى كيفية صناعة القرار بعيدًا عن الارتجال الذي يفضي إلى الوقوع في الأزمات، تمر المعلومات التي توفرها عبر تدقيق ومراجعة معمقة، وتأخذ فترات طويلة لإتمام البحث الواحد فيها.
وحتى تلك المؤسسات الحكومية غير المعنية باستهدافها من قبل مراكز الأبحاث السورية، أو لا تخاطبها مباشرة أو صراحة، فهي بالضرورة تتابع المخرجات البحثية وتتأثر بها، وفق الباحث سنان حتاحت.
والتأثر بنتائج الأبحاث من قبل تلك المؤسسات ليس دائمًا ما يكون إيجابيًا، بل يكون سلبيًا عن طريق تطبيق نقيض التوصيات التي تخلص إليها الأبحاث.
وهناك فئة من المراكز البحثية السورية التي توجه خطابها وتحاول التأثير على صنّاع القرار في المجتمع الدولي، و”هنا يوجد عدم توازن، لأن نفس صنّاع القرار الدوليين لديهم مراكز بحثية في دولهم، الخاصة بهم، والأجندة الخاصة بوضعهم الأمني ووضعهم السياسي، والتقاطعات مع الأجندة الوطنية (السورية) ليست دائمًا موجودة”، وبالتالي فالمسافات التي يوجد فيها التقاطع بين الأجندة المحلية والدولية يمكن فيها تأثير الباحثين السوريين، سواء كأفراد أو كمراكز بحثية.
مستقبل العمل البحثي
الكفاءة والتمويل المستدام.. حاميان لاستمراره
يسعى الباحثون السوريون “الحقيقيون”، وفقًا لكل ما سبق، لخلق أدوات تدعم التغيير الإيجابي الذي يرفع من سويّة القطاعات المختلفة في سوريا، مثل السياسة، والاقتصاد، والتعليم، والمواضيع المجتمعية، وغيرها الكثير.
ولعل عشر سنوات من عمل المراكز البحثية مدة “لا تعتبر كافية” لتحقيق التأثير الذي وُجدت لأجله، في ظل تهديد استمراريتها المرتبط بالدعم والتمويل من جهة، وبانخراط أشخاص لا يتمتعون بالكفاءة التي يتطلبها مجال العمل البحثي.
وفي هذه الظروف، يتطلب استمرار العمل البحثي حول المواضيع المتعلقة بالشأن السوري، بالدرجة الأولى المزيد من “الكفاءة”، بحسب ما يراه الباحث والدكتور في الاقتصاد كرم شعار.
وأشار شعار إلى أن المشكلة الأساسية التي يعاني منها العمل البحثي اليوم، هي وجود أشخاص يعتقدون أنهم باحثون، إلا أنهم غير مؤهلين علميًا، معتبرًا أن المؤهل العلمي ليس بالضرورة أن يكون شرطًا لا يمكن تجاوزه، لكنه أحد المؤشرات التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار عند سماعنا لشخص “يدّعي” أنه باحث، وبالنظر إلى مقدراته الفعلية فقد تكون محدودة علميًا ومعرفيًا وتحليلًا.
بينما أكّد الباحث سنان حتاحت، أن التراكم المعرفي الذي يكتسبه الباحثون السوريون اليوم، بالإضافة إلى تأمين ثبات دائم لهم في تمويلهم المالي واستقلاليتهم، من الممكن أن يؤمّن أبرز حاجات مراكز الأبحاث لتقوم بعملها من أجل استمرار دراساتها وبحوثها حول القضية السورية، التي ستؤثر بدورها مستقبلًا على مساعدة القوى السياسية اللاحقة التي ستعقب سقوط النظام السوري.
من جهته، اعتبر الدكتور عمار القحف، أن إدراك طول أمد القضية السورية وتعدد أبعادها، وأن التغيير لن يكون بلحظة زمنية واحدة، وإنما عبر عمل متعدد القطاعات، يفرض على المؤسسات السورية كالمراكز البحثية ومنظمات المجتمع أيضًا، التخطيط لجميع المراحل المقبلة، وتعزيز سبل الثبات والاستدامة، إذ يتطلب التعامل مع القضية السورية في مختلف مراحلها تطوير أدوات مختلفة وطويلة الأمد.
ويرى القحف أن العدد الحالي الموجود للمراكز البحثية المهتمة بالشأن السوري “قليل جدًا” مقابل متطلبات المرحلة، مضيفًا أن المرحلة لا تزال تحتاج إلى مراكز “صنع السياسات وتطوير الحلول” إضافة إلى البحوث النظرية، فكلا النوعين ضروري لإحداث تغيير حقيقي.
وأوضح القحف أن مراكز “السياسات” أكثر التصاقًا بالجانب العملي والتطبيقي، فـ”ما ينقصنا هو الخبراء وليس الهواة”.
وأبرز ما تحتاج إليه مراكز الأبحاث السورية ليستمر عملها: التخصص، وصنع سبل استدامتها الذاتية من المهنية، والمؤسسية، وتطوير القدرات وتعزيز تمويلها المستقل، بالإضافة إلى تطوير علاقاتها مع السوريين أولًا ثم مع الخبراء والسياسيين من غير السوريين.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
English version of the article
-
تابعنا على :