"فيفا" يرفض خلط الرياضة بالسياسة
جدل العلم السوري ينفجر في قطر
عنب بلدي- صالح ملص
رفع المتظاهرون السوريون، بداية الاحتجاجات السلمية عام 2011، العلم السوري الرسمي (وهو شريط أفقي أحمر، وتحته شريط أبيض بنجمتين خضراوين، ثم شريط أسود في الأسفل) فوق مطالب وطنية رددوا هتافاتها، في مواجهة استبداد السلطة الحاكمة المتمثلة بصورة “الأسد”، والمنتشرة في شوارع المدن الرئيسة وعلى واجهات المراكز الحكومية والمؤسسات الخاصة وداخلها.
بعد عام من اندلاع الاحتجاجات (أي عام 2012)، رفع المتظاهرون لأول مرة علم “الاستقلال” (بالشريط الأخضر)، وهو العلم الرسمي لسوريا بموجب دستور عامي 1930 و1950، حتى فترة الوحدة (قصيرة المدة) مع مصر عام 1958، ثم عادت سوريا إلى رفع هذا العلم بين عامي 1958 و1963، ضمن ما يُعرف بـ”حكم الانفصال“..
بعد وصول حزب “البعث” إلى السلطة في سوريا، اُتخذ العلم الرسمي الحالي لسوريا بعد تعديل المادة السادسة من دستور عام 1973، بموجب القانون رقم “2” في عام 1980، المحدِّد لأوصاف العلم الرسمي الحالي.
مع كل مسابقة رياضية يشارك فيها المنتخب السوري خارج البلاد، تتصدّر قضية “العلم” جدالات السوريين وتنقسم آراءهم حوله، كما تُثار الشكوك حول مواقف الدول التي ترفعه على أراضيها، واللاعبين الذين ينضوون تحته، لا سيما عندما يُرفع في دول تؤيد الثورة السورية ولا تعترف بشرعية النظام السوري.
وبينما يعد العلم رمزًا لدولة ذات سيادة أو مجتمع أو تيار سياسي، يبقى السؤال مفتوحًا حول رمزية العلم، وأهميته في إضفاء صبغة سياسية على المسابقات الكروية، ومدى الدور الذي يلعبه “فيفا” في هذا الأمر.
إرث ثقافي
خلال السنوات العشر الأخيرة في سوريا، أثار استخدام العلم جدلًا واسعًا بين السوريين، خصوصًا عند المشاركات السورية في المحافل الدولية المختلفة، إذ يعتبر المعارضون أن العلم الرسمي (بالشريط الأحمر) يمثل “سوريا الأسد”، بينما يمثل علم “الاستقلال” (بالشريط الأخضر) “سوريا الحرة” التي ثاروا من أجلها.
وبحسب دراسة بحثية للمؤرخ السوري الدكتور سامي مبيض، يمتلك علم “الاستقلال” تاريخًا طويلًا في الإرث الثقافي السوري يفسّر لماذا يبقى العلم رمزًا قويًا، فقد استخدمه 12 رئيسًا سوريًا، بدءًا من محمد العابد وحتى أمين الحافظ في عام 1964، وبقي بعد 14 عامًا من الانتداب الفرنسي، وحرب مع إسرائيل، وستة انقلابات، ولذا “لا يمكن للنظام السوري أن يلغيه بسهولة”.
ولا يزال علم “الاستقلال” يضرب على وتر حسّاس لدى السوريين من كبار السن، وفق مبيض، فالنضال من أجل العودة إليه يشير إلى الهوية الوطنية للسوريين المناهضين للنظام، ورغبتهم في الانفصال عن كل ما يذكّرهم بأكثر من 50 عامًا من حكم حزب “البعث”.
وبعد رفع علم “الاستقلال” في بداية 2012، بدأ المعلّقون الموالون للنظام يظهرون على البرامج الحوارية، في حملة كان “واضحًا أنها منظمة”، وفق الدراسة البحثية، لينتقدوا العلم على أنه “صُنع وفُرض من جانب المفوض السامي الفرنسي في عام 1932، ضد إرادة الشعب السوري”، و”مَن يرفعون علم الانتداب يريدون تقسيم سوريا على أسس طائفية، وإنشاء ثلاث دول مذهبية في وسطنا”.
إلى جانب حملة التشويه، حاول النظام زيادة الولاء الشعبي للعلم الحالي، فصُنعت كميات لا تعد ولا تحصى من العلم (بالشريط الأحمر) للمسيرات الموالية للأسد في دمشق، حتى إن بعض الأشخاص وصل بهم الأمر إلى حد وضع صورة الأسد بين نجمتي العلم الخضراوين.
مع تطور الأوضاع، يوثّق مبيض إطلاق النظام حملة حكومية لحمل “أطول علم في العالم” عبر أوتوستراد المزة، الشريان الحضري الذي يمر عبر قلب دمشق في حزيران 2011، حيث عمد النظام مع تقدم الثورة السورية وإحكام سيطرته على العاصمة، إلى طلاء واجهات المحال والجدران القريبة من الحواجز الأمنية بألوان العلم الحالي.
مع الوقت، ظهرت أعلام مختلفة في النزاع السوري، بعضها يمثّل مكوّنات قومية وبعضها دينية، إلا أن الجدل الأبرز في الظاهر، يتمركز حول علمين أحدهما علم “الاستقلال”، والثاني العلم الذي يتبناه الدستور السوري الحالي الذي أقره النظام، والصادر عام 2012.
أحمر.. أخضر
أعاد عرض العلم السوري، وترديد مقطع من نشيد “حماة الديار”، خلال افتتاح بطولة “كأس العرب“ في مدينة الخور القطرية، في 30 من تشرين الثاني الماضي، الجدل بين السوريين بشأن هذه القضية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إذ عارض بعضهم هذه الخطوة، وكانوا يأملون تجاهل عرض العلم وترديد النشيد.
واستنكر سوريون معارضون عرض العلم السوري (بالشريط الأحمر)، خلال حفل افتتاح البطولة، إذ ربط بعضهم مقاطع مصوّرة لقصف مدن سكنية سورية بجانب ترديد نشيد “حماة الديار”، رافضين هذا الوصف، كونهم “لم يكونوا يومًا حماة للديار” بل “مجرمين قتلة”.
بينما اعتبر سوريون آخرون أن ما يعنيهم ببطولة “كأس العرب” في هذه النسخة، هو فوز المنتخب السوري، دون الاقتراب من جدلية العلم الذي يمثّل الشعب السوري.
في حين تداول موالون للنظام السوري صورًا ومقاطع مصوّرة من حفل افتتاح البطولة، يظهر فيها علم سوريا الرسمي، معتبرين أنه العلم الوحيد الممثل لسوريا.
وفي المناسبات الإقليمية والدولية التي تستوجب رفع العلم الوطني لسوريا، يظهر مدى الانقسام بين السوريين حول العلم الذي يمثلهم، ويساعد في الانقسام مواقف الدول من النظام، حيث تم تجميد عضويته في جامعة الدول العربية ومؤسساتها، وكذلك أوقفت معظم الدول الغربية تعاونها مع نظام الأسد.
مع ما سبق، ثمة جهات ومنظمات دولية وعلى رأسها الأمم المتحدة، ما زالت تعتبر حكومة النظام في دمشق، الممثل الشرعي للشعب السوري، وينسحب الأمر على منظمات غير سياسية مثل “فيفا”.
قطر بين “فيفا” والأسد
خلال حفل افتتاح بطولة “كأس العرب”، وتاليًا في كل رموز البطولة، يبدو أن قطر، الدولة المضيفة، اعتمدت علم الدولة السورية الرسمي الذي يعتمده النظام السوري، مع العلم أن قطر تُعتبر من أبرز الداعمين لعدة تيارات سورية ووسائل إعلام معارضة لحكومة النظام السوري، كما أنها عبرت عن رفضها الصريح عودة النظام إلى الجامعة العربية.
مع العلم أن السفارة السورية في الدوحة التابعة للمعارضة السياسية، ترفع علم الثورة السورية منذ افتتاحها عام 2013.
إلا أن بطولة “كأس العرب”، التي غابت عن الظهور منذ 2012، تعود هذا العام بنسختها العاشرة لتُنظم تحت مظلة الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، وذلك باعتماد النظم واللوائح الداخلية الخاصة بها، فهل يؤثر ذلك في مراسم البطولة ومنها الأعلام المرفوعة.
رموز وطنية
يتجاوز “فيفا” أي تحليل لاعتماد الأعلام الوطنية الرسمية للدول ذات السيادة، دون أن يضع باعتباره سلوك الحكومات التي تمثّل هذه الأعلام.
ويلعب دورًا في هذه البروتوكولات، وجود لوائح تنظيمية ثابتة تخضع لها جميع المسابقات الكروية الدولية التابعة للاتحادات القارية والمحلية المنضوية تحت مظلة “فيفا”.
وبحسب ما قاله الصحفي الرياضي السوري نورس يكن في حديث إلى عنب بلدي، ففي نفس الوقت الذي تخضع فيه البطولات الكروية للوائح تنظيمية تابعة لـ”فيفا”، فإن هناك لوائح تنظيمية داخلية لكل اتحاد على حدة.
وهذه اللوائح والقوانين التنظيمية للمسابقات الكروية الخاصة بـ”فيفا”، “تمنع استخدام أي رمز سياسي داخل أرضية الملعب أو داخل بطولة معيّنة، وتمنع الترويج لأي أفكار سياسية، وتمنع تدخّل الحكومات في الاتحادات الرياضية”، وفق الصحفي الرياضي.
والاتحادات الرياضية “نظريًا”، وفق ما يراه يكن، يجب أن تكون صاحبة قرار مستقل لا يخضع لأي سلطة سياسية أو رمز سياسي.
ضمن هذه المعطيات، فإن العلم الوطني الرسمي لسوريا أو نشيد “حماة الديار”، هما رمزان وطنيان، لا يعتبران من الرموز السياسية، ويمثّلان الدولة السورية وليس السلطة الحاكمة في دمشق، بموجب قوانين “فيفا”.
وفي عام 2015، كانت اللجنة الأولمبية الدولية و”فيفا” علّقا مشاركة الكويت في المسابقات الدولية، على خلفية قوانين تتيح للحكومة التدخل في الشؤون الرياضية، وهذه تعد سابقة في التدخل العلني والمباشر من قبل الحكومات بعمل الاتحادات الرياضية.
إلا أن الحال في سوريا تختلف عما حصل في الكويت، “نعرف تمامًا أن الاتحاد الرياضي في سوريا عندما يقدم استقالته يكون نتيجة ضغط من النظام لأخذ هذه الخطوة”، وفق ما نوّه إليه الصحفي الرياضي يكن، وتكون الاستقالة أمام وسائل الإعلام هي “إقالة من تحت الطاولة”.
وفي تشرين الأول الماضي، قدّم رئيس وأعضاء الاتحاد السوري لكرة القدم استقالاتهم رسميًا، بعد النتائج “السلبية” للمنتخب الأول لكرة القدم، ولا سيما أمام المنتخب اللبناني في إطار التصفيات الآسيوية المؤهلة إلى كأس العالم 2022، التي حلّ المنتخب فيها بالمركز الأخير.
وقانونيًا، لا يعني لـ”فيفا” أي جرائم ضد الإنسانية اُرتكبت داخل دولة ما، من أجل تمثيلها بعلمها الوطني خلال البطولات الكروية، لأن هذه الجرائم قد اُرتكبت من قبل النظام السياسي الذي يحكم الدولة السورية، وليست الدولة ضمن شخصيتها الاعتبارية المستقلة عن أي كيان سياسي يحكمها.
وحتى اليوم، لا توجد أي مخالفة تنظيمية “نظريًا” من قبل سوريا ضد قوانين “فيفا”، وفق ما ذكره الصحفي الرياضي، فحكومة النظام استطاعت أن تلتف على جميع المخالفات الفعلية دون أن تخضع لعقوبات “فيفا”، فهناك انتهاكات ضد لاعبي كرة قدم في سوريا، بالإضافة إلى لاعبين قُتلوا تحت التعذيب، مثل لاعب كرة القدم في فريق الكرامة الرياضي جهاد قصاب، الذي قُتل في سجن “صيدنايا” العسكري بعد عامين من اعتقاله في حي بابا عمرو بمدينة حمص عام 2014.
وفي 2015، خلال المؤتمر الصحفي لمدرب المنتخب السابق فجر إبراهيم، قبل مواجهة مضيفه السنغافوري ضمن التصفيات الآسيوية المؤهلة لكأس العالم، ارتدى إبراهيم قميصًا عليه صورة رئيس النظام السوري، بشار الأسد، وعند سؤاله عن سبب ذلك قال إن “رئيسنا يتابع كل خطواتنا ويدعمنا، فنحن نلعب من أجل بلدنا ومن أجله أيضًا“.
كما اعتبر الأسد، عام 2017، أن لاعبي المنتخب السوري داخل الملعب هم قوات رديفة “للقوات المسلحة“، وذكر أن “الفريق عندما كان يلعب، يفكر وهو يحاول أن يحقق إنجازًا أن يكون رديفًا ومكملًا لعمل القوات المسلحة“، وكتب الأسد حينها اسمه ووقع على صدور اللاعبين.
بالعودة إلى حالة الجدل حول “العلم”، تثير هذه الحالة قضية مهمة بالنسبة إلى مستقبل سوريا، وفق ما يراه المؤرخ السوري سامي مبيض في دراسته المنشورة عام 2012، وهي كيفية نظر السوريين إلى بعضهم بعضًا كمواطنين في دولة مشتركة، فلا يمكنهم ببساطة الاستمرار في “الحكم على وطنية بعضهم بعضًا من خلال لون العلم الذي يلوّحون به، كما لا يمكن إزالة أي من العلمين من تاريخ سوريا، فلا يزال الملايين يتعاطفون مع العلم الحالي، بغض النظر عن وجهات نظرهم تجاه النظام، وبالمثل، لا يشعر جميع مَن يعارضون الأسد بالارتياح تجاه علم الثورة، سيكون على هؤلاء جميعًا إذًا أن يعملوا معًا لبناء سوريا الجديدة”.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :