إبراهيم العلوش
في مقابلة مع إحدى وسائل الإعلام، أعلن المرشح للرئاسة الفرنسية إريك زمور أنه مثقف وليس رجل أعمال مثل ترامب، محاولًا إيجاد فرق بينه وبين الرئيس الأمريكي الشعبوي، الذي ينتهج زمور طريقه ووسائله للفوز برئاسة فرنسا.
المثقف الفرنسي إريك زمور مؤلف لعدة كتب، وكاتب افتتاحيات لكبرى الصحف والإذاعات الفرنسية الشهيرة، مثل “لوفيغار” و”آر تي ال” والقناة الثانية الفرنسية وغيرها من الوسائل الإعلامية المؤثرة في فرنسا. وعلى عكس السمعة الشهيرة للمثقفين الفرنسيين الذين أنجبهم عصر التنوير واحتلوا الصدارة في المشهد الثقافي العالمي حتى نهاية القرن الماضي، فإن زمور يعادي قيم التنوير والتمازج الثقافي والبعد الإنساني المشهور تاريخيًا عن فرنسا، والذي صدّر اللغة الفرنسية إلى كل أنحاء العالم وجعلها من اللغات المشهورة للثقافة والفن والجمال.
يعتمد زمور، الجزائري اليهودي الأصل، في خطابه السياسي على الشعبوية الترامبية، وعلى حس المؤامرة في الدفاع عن الطهرانية القومية، التي يدّعي بأنها مستهدَفة من قبل المهاجرين والمسلمين الذين يصوّرهم بصور عنصرية وعنيفة، ويجعلهم متآمرين ضد العرق الفرنسي الأبيض، ويعملون على تغيير فرنسا، وأسلمتها وتغيير لون بشرتها إلى اللون الأسمر، وكأن الثقافة الفرنسية مجرد ثقافة عرقية، أو ثقافة عابرة يمكن إزاحتها بسهولة من موطنها الذي أمدّ العالم بأعداد كبيرة من المفكرين والمبدعين والثوار منذ فولتير وليس انتهاء بجان بول سارتر والبير كامو وميشيل فوكو وجاك دريدا، وبالثورات بدءًا من الثورة الفرنسية وليس انتهاء بالثورة الطلابية الشهيرة بثورة 1968.
يدير زمور وأنصاره ظهورهم للخلل الاقتصادي الذي تعاني منه فرنسا بالمقارنة مع ألمانيا، ويتوجهون إلى “الإسلاموفوبيا”، والعنصرية، والعداء للمهاجرين، علمًا أن المهاجرين جاؤوا منذ الحرب العالمية الأولى للدفاع عن فرنسا، ولاحقًا للإسهام بإعادة إعمارها، واليوم قد يكون الاقتصاد الفرنسي بحاجة ماسة إلى المهاجرين الجدد الذين يسهمون بتخفيض تكاليف الإنتاج، والحد من هجرة الصناعة الفرنسية إلى دول أوروبا الشرقية، وإلى الصين وغيرها من أركان امتدادات العولمة. فصناعة السيارات الفرنسية مثلًا ما زالت متأخرة في إصدار نماذجها من السيارات الكهربائية ذات التقنيات العالية، لتنافس بها شركة “تسلا” الأمريكية التي توشك أن تستولي على السوق العالمية للسيارات بموجة قوية تشبه موجة “تسونامي”.
في لقاء مع صحفي فرنسي نظمته جمعية “أمساد” الفرنسية في ستراسبورغ، كان الحديث عن زمور والحملة الانتخابية يتصدّر هموم اللاجئين، وقالت طبيبة من أصل جزائري، إن “الميديا” الانتخابية تشوّه صورة المهاجرين وصورة الإسلام والعرب، وتختزلها بالعنف والإرهاب، وهذا ما يجعلنا خائفين!
وعلى النقيض من ذلك، أتذكّر كثيرًا من الصديقات والأصدقاء الفرنسيين الذين تعاملوا معنا بكل تعاطف ودعم، وأتذكّر مثلًا صديقي فريدريك في ابينال الذي كان يتصل بي للحضور إلى بيته لمتابعة تعلم اللغة الفرنسية كلما خفّت نوبات ألم مرض السرطان الذي كان يعاني منه، وكنا نتداول الحديث في الشأن الثقافي واليومي الفرنسي باللغة الإنجليزية، أو بما أستطيع من لغة فرنسية تأخرت في تعلّمها، ربما بسبب تقصيري، أو بسبب ضعف المنظومة التعليمية للأجانب التي غالبًا ما تتسم بالتقصير، وتجعل تعلم اللغة الفرنسية في فرنسا أمرًا صعبًا، على عكس الأمر في ألمانيا أو هولندا كما نسمع من المهاجرين السوريين هناك.
يتحدث صديقي فريدريك عن تمرده وعن خياراته التي كانت له في الحياة، وعن أمور كثيرة مما كان يعجبني في الثقافة الفرنسية المترجمة إلى اللغة العربية من الانفتاح وسعة الأفق، والدعوة إلى التحرر التي قرأناها لدى لويس آراغون، وبول ايلوار، وسيمون دي بوفوار، وفرانسواز ساغان، أو التي شاهدناها في السينما الفرنسية.
ويصدف أحيانًا، وأنا في الطريق إلى بيت فريدريك أن يرسل إلي رسالة بعدم المجيء، بسبب موجة ألم من آلام مرضه، أقضي الوقت في التجول بشوارع ابينال الجبلية، أو أذهب إلى المكتبة العامة المجاورة لبيته، ولكنني لا أستطيع حينها القراءة، بسبب شعوري بموجة الألم التي يعاني منها فريدريك، وتختلط آلامه في ذهني مع آلام الناس في سوريا تحت القصف والجوع، وصولًا إلى آلام الضياع في المهاجر التي تحوّلنا فيها إلى مواطنين من الدرجة الثانية بسبب اللغة، والقوانين والأنظمة التي لا نزال جديدين عليها.
لا تستطيع حملة زمور التي انطلقت في 5 من كانون الأول الحالي، ورغم الصخب الكبير الذي يرافقها، أن تزيل من ذهني ذكرياتي مع فريدريك، ولكن خوف الطبيبة الجزائرية جعل الموجودين يوافقونها عليه، وكنا في القاعة مجموعة مهاجرين من الصحفيين والأطباء والمهندسين وطلاب الجامعات، ولم يستطيع الصحفي الفرنسي الشاب أن يخفي مفاجأته، ولكنه سرعان ما وجد منفذًا له، بسؤالنا ما الذي تستطيعون فعله في مقابل ذلك، وما الأفكار الإيجابية والفعّالة في مواجهة العنصرية؟ اقترحوا عليّ مواضيع يمكن الحديث عنها للخروج من حالة الخوف والاضطراب.
في وجودنا كلاجئين سابقًا في تركيا، كانت الحملات الانتخابية أيضًا تتسم بالحدة والتصلب، وكان أصدقاؤنا الأتراك ينصحوننا بالبقاء بالبيوت في أثناء أسبوع الانتخابات. فهل ستضطرنا الحملة الانتخابية الفرنسية وشعارات زمور للبقاء بالبيوت في أثناء الانتخابات الرئاسية الفرنسية في الربيع المقبل، أم سنفكر بفعل إيجابي يقاوم الشلل والخوف، كما قال الصحفي الشاب الذي لم يكن يتصور مقدار اضطرابنا من شعارات ترامب الفرنسي إريك زمور!