ميركل ورسلان وبشار الأسد
إبراهيم العلوش
في نفس اليوم الذي قام به الجيش الألماني بتحية وداع للمستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، في 2 من كانون الأول الحالي، أعلنت النيابة العامة الألمانية المطالبة بالحكم على الرئيس السابق لفرع التحقيق في الفرع “251”، أنور رسلان، بالسجن المؤبد وغير القابل للتخفيض.
شخصيتان متناقضتان، ولكنهما على أرض ألمانية واحدة، فميركل تُعد إحدى أهم المستشارات في تاريخ ألمانيا، وأول امرأة تنال هذا المنصب، وهي التي استقبلت حوالي مليون لاجئ سوري بدءًا من العام 2015، ونالت كثيرًا من التقدير السوري والعالمي على تلك الخطوة الإنسانية.
أنجيلا ميركل رغم كونها من أصول ألمانية شرقية، استطاعت أن تشق طريقها إلى رئاسة ألمانيا لمدة 16 سنة (2005- 2021)، وأثبتت للعالم أنها امرأة مبدعة، استطاعت تجاوز أزمات مهمة في تاريخ ألمانيا وأوروبا، وخاصة أزمة 2008 التي زعزعت الاقتصاد الأوروبي، وكادت أن تقارَن بالكساد الكبير الذي هزّ أوروبا في العام 1929.
أما أنور رسلان، فحسب منظمات حقوق الإنسان السورية، ومجريات التحقيق، فإنه متهم بالقيام والإشراف على حوالي 4000 عملية تعذيب، انتهى فيها 58 معتقلًا إلى الموت، كل ذلك خلال فترة ترؤّسه قسم التحقيق في العامين 2011 و2012، ضمن الفرع “251” المشهور بفرع “الخطيب” الذي كان يرأسه حافظ مخلوف.
مسؤول واحد في فرع من عشرات الفروع وفي قسم من مئات أقسام التحقيق، تم إحصاء هذا الكم الهائل من أعمال التعذيب في عهده، فكم هي عمليات التعذيب التي اُرتكبت برعاية “الأمن العسكري” بكل فروعه ومفارزه، و”الأمن الجوي” بكل فروعه، وأنواع الأمن الأخرى بكل فروعها، وتنظيمات “التشبيح” والقتل الطائفي التي تبناها المجرمون الهواة، تخيّلوا عدد المعذبين والقتلى في عهد بشار الأسد، أو عدد المعذبين والقتلى في عهد الأسدين، ولا شك بأن حصيلة هائلة مثل هذه، تطلّبت تفكيرًا وتخطيطًا واسعَين من الأسدين أكثر بكثير من التخطيط والتفكير اللذين بذلتهما المستشارة الألمانية من أجل تطوير اقتصاد بلادها وتقديم ألمانيا كدولة صاعدة وسط صراع الكبار الذي يحتدم بين أمريكا والصين.
نظام الأسد قدّم زوجة بشار الأسد لتكون من النساء العالميات والمشهورات مثل ميركل وأوبرا وينفري والأم تيريزا، وبذل عليها مبالغ كبيرة لتصديرها كوردة في الصحراء، وخرجت تقارير تمدحها في صحف عالمية، وصوّرتها بأنها تحمل مع زوجها بشار الأسد العلم والمفاهيم الغربية إلى سوريا المتصحّرة والمتخلّفة، كل ذلك كان قبل أن يفتح بشار الأسد الصندوق الأسود الذي ورثه عن أبيه حافظ الأسد، والذي تسبب بقتل نحو مليون سوري، وتدمير نصف المدن والقرى السورية بالبراميل المتفجرة، وباستخدام الميليشيات الإيرانية وبالطائرات الروسية وغيرها، وانتهت وردة الصحراء المزعومة أسماء الأسد، بنظر الصحافة العالمية، إلى مجرد حاملة للحطب ونافخة في الجحيم، وتلاشت صورتها الوردية إلى مجرد امرأة تبتز أموال الأمم المتحدة لتموّل بها أجهزة التعذيب، وهذا ما أقنعها أخيرًا باحتراف “البزنس” والاستيلاء مع شقيق زوجها ماهر الأسد على أجزاء مهمة من ممتلكات آل مخلوف.
الأب الروحي لميركل هو المستشار هيلموت كول الذي وحّد ألمانيا، وجاء بميركل من ألمانيا الشرقية لتكون المستشارة الحديدية، بينما ورّث الأب الروحي لبشار لابنه مجازر الثمانينيات، وطرق التعذيب، وورّث له الحاشية المطيعة التي ترتكب الجرائم وكأنها تؤدي الصلاة في حضرة الأب القائد!
أنور رسلان الذي انشق عن النظام ولم يحتمل الاستمرار بجرائمه، يخضع اليوم للمحاكمة في كوبلنز الألمانية، ونتمنى أن ينال عذرًا مخففًا بسبب ذلك، ولكن جرائم التعذيب لا تموت بالتقادم، ولا تموت بتغيير الموقف السياسي، فاقتراف الجريمة لن يُمحى إلا بطلب الغفران من الضحايا وضمن قوانين تشرّع المحاسبة والعدالة، وتضع أسسًا للعفو عمن ارتكب جرمًا.
الذين خضعوا للتعذيب حملوا جراحهم الجسدية والنفسية معهم وهم يحاولون التعايش معها في جحيم حياتهم التي دمرها نظام الأسد، وأكملت عليها تنظيمات التطرف الديني، والخراب الاقتصادي، وهم لن يتنازلوا بسهولة عن حقهم بالاعتذار وطلب الغفران، ولن يتنازلوا عن مطالبهم بالعدالة والتعويض، وحتى ثروات المجرمين وقادة التعذيب والبراميل لن تترك لهم كما يحلمون!
ألمانيا انتخبت مستشارًا جديدًا من غير حزب ميركل، هو أولاف شولتز الذي سيتسلّم مع وزارته مقاليد الحكم في 9 من كانون الأول الحالي وبشكل ديمقراطي، ولم تورّث أنجيلا ميركل الحكم لابنها أو لزوجها أو لأحد أقاربها تحت ذريعة حفظ البلاد من التفكك والصراع، كما كان يردد دعاة توريث بشار الأسد، إذ إن توريث بشار الأسد هو الذي خلق هذا الصراع، وعمّق التفكك الذي زرعه عقل حافظ الأسد الطائفي والوحشي.
المنتجات السياسية السورية، من مجلس الشعب مرورًا بالأحزاب السياسية إلى فروع المخابرات، لا تزال حتى الآن على السويّة التي خطط لها حافظ الأسد وعصابته وورثته، ولم ترتقِ بأدائها رغم كل المآسي التي لحقت بالبلاد وبالبشر.
ولا تزال المعارضة السورية بكل أسف تعاني من التفكك ومن الفردانية، ومن عمالة بعض تنظيماتها للدول المجاورة، وغير المجاورة، وهذا ما انتهجه حافظ الأسد، وما أسس له بالاعتماد على الخارج في الهيمنة على الداخل، ولن نحلم بشخصية سياسية تقارب ميركل في الوقت الراهن على الأقل، بل سنظل نعاني من هذا السرطان السياسي ما دامت منظمات النظام البوليسية مزروعة في عقول السوريين، وما دام حافظ الأسد مستمرًا في حكم سوريا من القبر!
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :