الإفادات المتضاربة للشهود.. خطر قد يهدد العدالة السورية في المحاكم الأوروبية
عنب بلدي – صالح ملص
تعد الشهادة من أهم وسائل الإثبات، وأقدمها استعمالًا، وذلك لما لها من دلالة قوية على حدوث الشيء، أي أنها تعبير عن مضمون الإدراك الحسي للشاهد بما رآه أو سمعه بنفسه من معلومات عن الغير، مطابقة لحقيقة الواقعة التي يشهد عليها في المحكمة.
كما أن نظرية الإثبات تعد من أهم النظريات القانونية وأكثرها تطبيقًا في الحياة العملية، إذ تربط هذه النظرية بالقاعدة التي تقضي بأن الشخص لا يستطيع اقتضاء حقه بنفسه، وإنما من خلال اللجوء إلى القضاء.
لأهمية الشهادة باعتبارها دليلًا للإثبات، والتي يعتمد عليها القضاة في أحكامهم، بذلت منظمات حقوقية سورية ودولية جهودًا للوصول إلى سوريين تعرضوا فعلًا للاعتقال والتعذيب من قبل عناصر تابعين للمخابرات السورية، من أجل جمع الأدلة اليقينية على ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق أولئك الذين عارضوا السلطة داخل مراكز الاعتقال في سوريا، ومحاسبة الجناة.
إلا أنه خلال محاكمة “كوبلنز” غربي ألمانيا، التي يخضع فيها المتهم أنور رسلان التابع للمخابرات السورية للمحاكمة عن جرائم ضد الإنسانية يُزعم أنه ارتكبها وفق لائحة الاتهام، قُدمت في بعض الجلسات “إفادات متضاربة” من قبل الشهود بشأن الانتهاكات التي تعرّضوا إليها في الفرع “251” بدمشق، حيث كان رسلان يترأس قسم التحقيقات فيه بين نيسان 2011 وأيلول 2012.
وفي 18 من تشرين الثاني الماضي، رفضت المحكمة الإقليمية العليا في كوبلنز اقتراح فريق الدفاع عن المتهم رسلان استدعاء المحامي السوري أنور البني للإدلاء بشهادته حول هذه “الإفادات المتضاربة” التي تعود لشهود قدّمهم البني لسماع المحكمة إفادتهم.
واقترح فريق الدفاع عن رسلان على المحكمة استدعاء المحامي البني كخطوة للبحث والتدقيق في علاقته مع الشهود، وإمكانية أن تكون شهادة الشهود قد “أُمليت عليهم من قبل البني”.
فتح وجود “الإفادات المتضاربة” في المحاكمة الأولى من نوعها في العالم باب النقاش حول مدى أهمية دمج الشهود في الإجراءات القضائية، ورفع وعيهم بشأن أهمية الدقة في إفاداتهم وتأثيرها عليهم من جهة، وعلى سمعة القضية التي هم بصدد التعاون من أجل الحصول على جزء من العدالة لضحاياها من جهة أخرى.
عدم دقة لا يقابله توضيح
في 2 من كانون الأول الحالي، قدّم الادعاء العام في محاكمة رسلان بيانه الختامي في القضية، الذي طالب فيه بالسجن المشدد مدى الحياة بحق رسلان، وذلك بعد التدقيق في جمع الأدلة، وتحديد المسؤولية الفردية بارتكابه جرائم ضد الإنسانية في أربعة آلاف حالة تعذيب، وما لا يقل عن 30 حالة قتل، واعتداء جنسي، وحرمان شديد من الحرية.
ووجد المدّعون أن هذه الجرائم على درجة عالية من الخطورة، لذلك طالبوا بالسجن المؤبد مع تشديد خاص بالذنب، ما يعني أنه لا يمكن تعليق العقوبة بعد 15 عامًا، فبموجب القانون الجنائي الألماني، فإن حالة السجن مدى الحياة عادة ما يتم تعليق عقوبتها بعد 15 عامًا من الحكم بها بحق الشخص المدان، ووضعه قيد المراقبة.
ولكن رفض المحكمة استدعاء المحامي البني للإدلاء بشهادته حول هذه “الإفادات المتضاربة”، قد يؤثر على سمعة المحاكمة، ومدى دقة الأدلة التي استندت إليها في إصدار حكمها المرتقب في كانون الثاني من عام 2022.
توجهت عنب بلدي بأسئلتها إلى المدير التنفيذي لـ“المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية”، أنور البني، بشأن ما إذا كان رفض المحكمة استدعاءه للإدلاء بشهادة حول هذه الإفادات قد يعتبر انحيازًا لفريق الادعاء، في الوقت الذي لا يوجد فيه أي دليل يؤكد دقة هذه الإفادات، الأمر الذي يؤثر بالضرورة على سمعة المحاكمة بشكل خاص، وعلى مسار العدالة لضحايا التعذيب في السجون السورية بشكل عام.
إلا أن الأسئلة قوبلت بإجابة مقتضبة من البني، معتبرًا أن هذا الأمر في محاكمة رسلان “لا أعتقد أنه يستحق تعليقًا”، وفق ما قاله المحامي.
وشهادة الشهود تعتبر جانبًا أساسيًا في البحث عن حكم مناسب في القضايا الجنائية، إذ تتضمّن الشهادة وقائع مادية أو معنوية يصعب إثباتها بالأدلة الورقية.
وفي اليومين الـ88 والـ89 من محاكمة رسلان، استجوب فريق الدفاع أحد الشهود حول علاقته بالمحامي أنور البني، مشككًا في تعرّف الشاهد على هوية المتهم رسلان، في حين قال الشاهد للمحكمة، إنه “متأكد بنسبة 60% أن أحد الضباط الذين بدا أنه كان يصدر الأوامر كان أنور رسلان”.
وخلال محاكمة أنور رسلان وإياد الغريب، اُستمع بالفعل إلى شهود يعرفون أحد المتهمين بشكل شخصي بسبب قرابتهم منهما أو بسبب العمل معهما، أو لكونهم ضحايا تمكّنوا من النجاة من التعذيب داخل الفرع “251” الأمني.
وفي 24 من شباط الماضي، حكمت محكمة “كوبلنز” ضد العنصر السابق في المخابرات العامة إياد الغريب، وهو المتهم الثاني في القضية، بالسجن لمدة أربع سنوات ونصف السنة، لإدانته بالتواطؤ في ارتكاب “جرائم ضد الإنسانية”.
وتعتبر أركان الجريمة ضد الإنسانية، هي أن يقتل المتهم شخصًا أو أكثر، وأن يرتكب السلوك كجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجّه ضد سكان مدنيين، وأن يعلم مرتكب الجريمة أن السلوك جزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي ضد سكان مدنيين أو أن ينوي أن يكون هذا السلوك جزءًا من ذلك الهجوم.
وسماع إفادات الشهود، هو إجراء من ضمن عدة إجراءات في المحاكمة التي تأخذ وقتًا طويلًا، وذلك لأن المتهم الرئيس في القضية، أنور رسلان، ينفي جميع التُهم المنسوبة إليه، ولذلك فإن التركيز انصب في بداية جلسات المحاكمة على جمع شامل ومطوّل للأدلة.
وبعد إعلان الحكم في القضية، يمكن لجميع المشاركين في الإجراءات الاستئناف أمام محكمة العدل الفيدرالية الألمانية.
وإذا تعلّق أمر إعلان الحكم بالاستئناف، وألغت محكمة العدل الفيدرالية الحكم أو أحالته مرة أخرى إلى المحكمة الإقليمية العليا لمدينة كوبلنز، فستستغرق العملية وقتًا أطول، وفق ما أوضحه الموقع الرسمي لـ”المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان” (ECCHR).
خطر على العدالة
تعتبر الشهادة حجية غير ملزمة للمحكمة، إذ لقاضي الموضوع سلطة في تقدير الشهادة، فله أن يقدر قيمة شهادة الشهود من حيث عدالتهم وسلوكهم وتصرفهم وغير ذلك من ظروف القضية دون حاجة إلى أي تزكية.
أي أن الشهادة قد تكون حجة قاطعة وقد لا تكون كذلك في سياق محاكمة رسلان، وفق ما يراه المستشار القانوني والحقوقي لـ“المركز السوري للعدالة والمساءلة” المحامي أويس الدبش، في حديث إلى عنب بلدي.
وما يُثبت من خلال إفادات الشهود يقبل النفي بشهادة أخرى، أو بأي طريق آخر من طرق الإثبات، بمعنى يقبل إثبات العكس بجميع طرق الإثبات الأخرى.
كما أن الشهادة هي حجة مقيّدة فقط في نطاق التصرفات القانونية، بحيث تقتصر على إثبات الوقائع المادية.
وفيما يتعلق بـ“الإفادات المتضاربة”، فإن القاضي غير ملزم بأخذ بما ورد فيها حتى على سبيل الاستئناس، وفق ما أوضحه المستشار القانوني الدبش.
وضمن المبادئ العامة، إذا لم تحتوِ الشهادة على الأدلة الواقعية التي حدثت بالفعل، وتشير إلى الحقائق، فالقاضي يمكن أن يتأكد من صحة هذه الإفادات من خلال ما يُطلق عليه “الاتساق الداخلي والخارجي” لظروف الواقعة مع إفادة الشاهد، وفق ما قاله الدبش.
ويضرب المستشار مثالًا لتوضيح حديثه من خارج سياق محاكمة “كوبلنز”، فـ”القاضي في (كوبلنز) من الصعب عليه التأكد من جميع الروايات، إلا أن هناك أمورًا معقولة، مثل أن تأتي وتقول إن هناك 20 مليون جثة في سوريا، في حين أن كل عدد سكان سوريا هو 20 مليونًا، أو أن تقول إنك اُعتقلت في الصيف، وفي الوقت نفسه تقول في شهادتك إن البرد شديد خلال توصيفك لظروف الاعتقال”.
وفي حال تكررت الإفادات المتضاربة للشهود خلال المحاكمات الأوروبية لحقوق الإنسان في سوريا، فإن ذلك سيؤثر على “مصداقية المجتمع المدني السوري الذي يعتبر الجهة التي تحاول تسهيل وصول الشهادات إلى المحاكم”، وفق ما نوّه إليه المستشار القانوني، ما يترتب عليه إيقاف بعض آليات وحدات جرائم الحرب في ألمانيا أو أوروبا، التواصل أو التعاون مع المنظمات والمجموعات السورية الحقوقية.
وعندما يزداد هامش شكوك آليات وحدات جرائم الحرب بمصداقية الشهود المرتبطين بقضايا حقوق الإنسان السورية، يعني ذلك أنها ستأخذ انطباعًا بأن هناك وقتًا وجهدًا وموارد تضيع في هذه القضايا، الأمر الذي يؤدي إلى أن القضاء نفسه قد يأخذ قرارًا بالتوقف عن النظر بهذه المحاكمات.
ويعاقب القانون الألماني الشخص الذي أفاد بشهادة خلال المحاكمة تنافي الحقيقة بغرض تضليل العدالة، وفق ما نوّه إليه الدبش، وتصل العقوبة بالسجن من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات، كما تشمل العقوبة كل من يحرّض الشاهد على الإدلاء بمعلومات غير حقيقية، بالسجن ستة أشهر وغرامة 180 يورو.
وتقع هذه العقوبة في حال كانت لدى الشاهد النية الواضحة لتضليل العدالة، ولكن قد يحصل في بعض الأحيان أن ينسى الأفراد معلومة معيّنة، أو تختلط عليهم الوقائع بسبب عدم استقرار حالة الشاهد النفسية في أثناء تقديمه الإفادة داخل المحكمة، وفق ما أوضحه الدبش.
وهناك فرق بين الشاهد والمدعي في القضية، فالمدعي قد يكون ضحية من ضحايا الانتهاكات ضد حقوق الإنسان داخل الفرع “251”، بسياق قضية رسلان، أما الشاهد فهو فرد من خارج نطاق الخصومة بين طرفي القضية، تطلبه المحكمة أو فريق التحقيق لتقديم معلومات ترتبط بسياق الوقائع الجرمية المتهم بها رسلان.
“خلال عملنا نهدف إلى تقديم العدالة للضحايا، لكن في نفس الوقت، يجب على المدعين أن يحاولوا قدر الإمكان الوصول إلى هذه العدالة دون أن نختلق إفادات ليس لها أي حقائق”، وفق ما أوصى به المستشار القانوني.
معايير قبول الشهادة
قبل كل محاكمة تُجهّز ملفات فريق الادعاء من خلال التواصل مع الشهود، وتحديد نوعية الإفادات المطلوب تقديمها للمحكمة، وتُقيّمها جهة الادعاء، فليس كل معلومة هي قابلة لاستخدامها في المحاكمة، هذا التقييم يكون ضمن معايير عالية من السرية.
وأنشأ “المركز السوري للعدالة والمساءلة” برنامجًا قانونيًا أطلق عليه برنامج “العدالة الجنائية الدولية” في السويد وألمانيا وهولندا، هدفه الأساسي تعزيز التعاون بين الناشطين واللاجئين السوريين وبين مكاتب الادعاء العام في تلك الدول، من أجل مساعدتهم في توفير وجمع بيانات وأدلة للانتهاكات في سوريا.
وتخضع الشهادة لمعايير معيّنة، بموجب مبادئ قانونية عامة، بالإضافة إلى أن لكل دولة شخصيتها القانونية التي تفرض معايير محددة لقبول إفادة الشهود كدليل على وقوع حادثة جرمية معيّنة.
القضاء الأوروبي صارم في أغلب الأحيان ضمن الشروط والإجراءات التي يطلبها كي يقبل وثيقة معيّنة أو معلومات يستند إليها في إصدار الحكم، وفق ما قاله المستشار القانوني، ولذلك يجب أن يكون هناك ارتباط مباشر بين الواقعة الجرمية والشخص الذي يدّعي الشاهد أنه متهم بالجرم، وذلك عن طريق مقاطع مصوّرة، وصور، ووثائق رسمية تدعم هذا الادعاء.
والسلطة التقديرية للقاضي في قبوله أو رفضه للشهادة كدليل يستند إلى إصدار الحكم هي سلطة قانونية يستمدها القاضي من القانون، وفق ما أوضحه المستشار القانوني، بتقدير المعلومات المقدمة من الخصوم حول النزاع المنظور أمامه، مقيدًا بتطبيق النصوص القانونية على تلك المعلومات.
وتُفرض على السلطة التقديرية مجموعة من الضمانات، تكفل من خلالها حُسن سير المحاكمة، إذ إن السلطة التقديرية تُمنح إلى القاضي، لكن بضمانات تحكمها من أجل تنفيذها في نطاقها الصحيح.
تلك المبادئ هي مبدأ حيادية القاضي، ومبدأ احترام حقوق الخصوم في الإثبات، وعدم وجود مصلحة أو رأي في الدعوى.
ومبدأ حيادية القاضي لا يُقصد به أن القاضي سيكون منحازًا لأحد الخصوم، وإنما أن يقتصر دوره على تلقي ما يقدمه أطراف الشكوى من أدلة في القضية، وتقدير قوة كل دليل وفقًا لقوته التي حددها القانون له، إذ ليس عمل القاضي أن يسهم في جمع الأدلة أو أن يستند إلى دليل تحراه بنفسه.
كما يعتبر حق الدفاع حقًا مقدسًا في جميع القوانين الدولية، وضمن مبادئ العدالة الطبيعية، مهما كانت لائحة المتهم ممتلئة بأبشع الجرائم، ولذلك يجب على الخصم الذي يقدم أي دليل ضمن إفادة الشهود أن يقدمه بحضور الخصم الآخر، وأن يُعرض على الخصم مناقشته وتقديره، وهو ما يُطلق عليه مبدأ المجابهة، لأن المتخاصمين يدعيان بما هو حق لهما.
وتُصنف إفادات الشهود ضمن برنامج “العدالة الجنائية الدولية” بأرقام معيّنة، كي تُحفظ إلى حين الاستفادة منها، وفق الدبش، إذ إن هذه المقابلات هي جزء من التاريخ الشفوي الذي يجري من خلاله تجميع الشهادات الشفوية، بوصفها جزءًا من التاريخ المكتوب لهذه الفترة من تاريخ سوريا، وجزءًا من شهادات على وقائع وحوادث تاريخية عنيفة قد يفيد استخدامها في مسار المساءلة.
وللشهادة الشفوية دورها ووظيفتها الكاشفة للأحداث التي يمكن أن تذوب مع الماضي، وبالتالي كل قصة من قصص الضحايا هي صورة مختلفة من أجل حفظ تاريخ عشر سنوات من النزاع، من وجهة نظر من عاشها من الأشخاص العاديين.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :