خطيب بدلة
أُتيح لي، في الآونة الأخيرة، أن أتفرج على سلسلة من المناظرات الحامية التي تعقدها الفضائيات المصرية، تحت شعار “تجديد الخطاب الديني”، حيث يؤتى برجل متنوّر، أو تنويري، ويوضع في مواجهة شيخ سلفي تكفيري متعصب، بالإضافة إلى رجل دين إصلاحي معتدل، ويتلقى البرنامج، خلال بثه المباشر، بعض الاتصالات من مواطنين عاديين أو مختصين بهذا الشأن.
هذه المناظرات تشبه، في كثير من الأحيان، مناظرات فيصل القاسم في برنامج “الاتجاه المعاكس” التي اقترحتُ، أنا محسوبكم، ذات مرة، أن يقوم الفنيون في تلفزيون “الجزيرة”، بتسليم كل واحد من الضيفين عصا، أو كما يقول أهل معرتمصرين “شَبُّوقة”، حتى يقوم لخصمه في اللحظة المناسبة، و”يعمل له اللازم” أحسن من أن يرشقه بكأس الماء، أو بكدسة الأوراق والكتب التي أمامه، وعلى قولة المثل: إذا أطعمت أشبع، وإذا ضربت أوجع.
المستشار أحمد عبدو ماهر واحد من الرجال الذين يحتلون موقع التنوير في معظم هذه المناظرات، وهو، للأمانة، رجل مسلم، سني، ملتزم، حريص جدًا على تقديم صورة حضارية للإسلام، ولهذا تعمق في قراءة القرآن، وتفاسيره، وأسباب نزول آياته، وكتب الحديث، واجتهادات الأئمة والشراح، وصار ينتقي منها الأحاديث ذات السند الضعيف، التي تتناقض مع القرآن، وأخلاق النبي، ويطالب الأزهر بأن يتوقف عن تدريسها للطلاب، وبالأخص الأحاديث التي تفتي بالقتل، وقطع الأيدي والأرجل، وتتناقض مع قول الله تعالى: “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”، بالإضافة إلى الأحاديث الضعيفة الأسانيد التي تتناقض مع العلوم الحديثة، كالقول بأن امرأة غاب عنها زوجها، وبعد سنتين علمت بوفاته، فتزوجت، وولدت أولادًا كثيرين، وبعد مضي أربع سنوات ظهر زوجها الأول، والفتوى: أن تطلق من الثاني، وترجع إلى الأول، ويسجل الأولاد على خانته.
في أكثر من مناظرة، تم تكفير أحمد عبدو ماهر من خصومه، سواء الجالسون في الاستوديو أو المتصلون هاتفيًا، وتهديده ببلاغات للنائب العام باعتباره “يطعن” في النبي والقرآن والصحابة، وبعضهم تمادى في قدحه فقال إنه يتلقى الأفكار التي يقولها من أئمة الشيعة! وأخيرًا، تمكّنوا من إحالته إلى القضاء، وحكموا عليه، مثلما فعلوا من قبل مع سيد القمني، وإسلام بحيري، وآخرين.
كان من المتوقع أن ترفض المحكمة التي أُحيل إليها المستشار أحمد النظر في هذه القضية، باعتبار أن ما يقوله، سواء في المناظرات، أو في الكتاب الذي أصدره مؤخرًا، شأن فكري، يمكن لمن يشاء من علماء الأزهر وشيوخ السلفية أن يردوا عليه، ويفندوه، ولكنها، أي المحكمة، خيّبت التوقعات، و”سلخت” المستشار الطيب البالغ من العمر 77 سنة، حكمًا رهيبًا بالسجن خمس سنوات، مع منعه من ممارسة حقه القانوني في الاعتراض أو الاستئناف أو النقض، وهذا يذكّرنا، نحن السوريين، بسيئ الذكر فايز النوري الذي كان يحكم على الأشخاص الذين ساقتهم فروع المخابرات إلى المحكمة، بعدما حولتهم إلى “أنقاض”، ليقف الواحد منهم أمام الحقير النوري ويقول له: تهمتك كذا وكذا وكذا… وحكمناك عشر سنوات. فلا يحق لهذا المسكين وقتها إلا أن يصيح: يحيا العدل!