في ذكراه التاسعة.. محمد أنور قريطم الثائر الذي روى “كرم الثورة”

  • 2021/11/30
  • 11:17 ص

الشهيد محمد أنور قريطم "أبو النور"

بين الرقم 50، والرقم 125، تدور التفاصيل الأعمق من حكاية محمد أنور قريطم، الذي استشهد قبل تسع سنوات، تاركًا خلفه ثورة بدأها للتو، دون أن يقطف ثمارها المشتهاة.

فالرقم الأول، كان في قبره المؤقت الذي اعتقل فيه عام 2003، ودخله ثمنًا لوعي سياسي مبكر أقلق النظام، والرقم الثاني لقبره الآخر، أو الأخير، بعد استهدافه مع صديقيه بصاروخ حربي انفجر في مكان وجودهم خلال حصار مدينة داريا، في 28 من تشرين الثاني 2012.

شكّلت الثورة السورية فاتحة العمل الثوري لمحمد أنور قريطم، فرغم مشاركته السابقة في أنشطة ثقافية وسياسية وخدمية حملت الطابع التوعوي والتنويري بين عامي 2002 و2003، وكلّفته الاعتقال مع مجموعة من رفاقه، فإن اندلاع الاحتجاجات عام 2011 وضعه في قلب غرفة عمليات فكرية نشطة، لم يهدأ بعدها إلى أن أنهت حياته.

ورغم الاحتكاك البريء للشعب السوري مع ثورة يعرف بها حجم الاستبداد الذي عاشته البلاد، امتلك “أبو النور”، كما يلقبه محبوه، بذور الفكر السياسي والوعي الوطني، وانشغل بنسج آمال عريضة وأحلام مشروعة حول الغد الذي ينشده لبلاده، قبل تدخّل الأداة القمعية لتحوّل الحراك الثوري إلى حرب دامية.

“عنب بلدي”

بينما كانت التنسيقيات والصفحات التي أُنشئت على مواقع التواصل الاجتماعي تنقل أخبار الثورة وأفكارها، عمل “أبو النور”، مع مجموعة من ناشطي وناشطات مدينة داريا بريف دمشق، على إصدار جريدة تقدم رواية أخرى لـ”الحقيقة” التي صادرها النظام السوري عبر وسائل إعلامه وقمعه، على مدار عقود من حكم الأسدين، الأب والابن.

جريدة “عنب بلدي”، التي انطلق عددها الافتتاحي (العدد صفر) في 29 من كانون الثاني 2012، وضع محمد أنور قريطم أول تصميم لهيكلها التنظيمي، وشارك في كتابة سياساتها الإدارية والتحريرية، رغم أن “الجريدة” لم تكن حينها أكثر من نشاط إعلامي مؤقت داعم للحراك السلمي.

كان قريطم أحد أعضاء مجلس إدارة المشروع الناشئ حينها، واستمر نشاطه في الجريدة رغم خروجه من مجلس إدارتها نتيجة انتخابات دعا إليها.

“رحيل (أبو النور) خسارة لا تُعوّض، كان قادرًا على خلق أفكار إبداعية بعيدًا عن الانفعالات الثورية”، بهذه الكلمات، يستذكر رئيس تحرير “عنب بلدي”، جواد شربجي، ذكرى استشهاد محمد أنور قريطم.

يضيف شربجي، “كان يوم السبت مميزًا، كنت أعمل أنا وأحمد شحادة مع آخرين من الفريق، ويرافقنا أبو النور عبر (سكايب) طوال الليل، ليأتينا صباح الأحد بفطور الاحتفال بصدور العدد”.

ولا يزال يوم السبت بالنسبة إلى جواد شربجي مميزًا و”مرهقًا” حتى هذه اللحظة، بعد مرور عشرة أعوام على إصدار العدد الأول، ويتذكر النقاشات الليلية الطويلة التي كان يخوضها مع “أبو النور”.

وكشكل من أشكال الوفاء، خلّدت “عنب بلدي” صورة الشهيد محمد أنور قريطم على أغلفة الجريدة المطبوعة، مع ثلاثة من مؤسسي “الجريدة”، هم محمد فارس شحادة، وأحمد شحادة، ونبيل شربجي، الذين استشهدوا تواليًا بعد “أبو النور”.

نشاط مكثف

بالإضافة إلى المظاهرات والعمل مع التنسيقية، شارك “أبو النور” في تأسيس المجلس المحلي بداريا، منتصف تشرين الأول 2012، وكان عضوًا في إدارة مكتب الحراك السلمي التابع له، لينخرط بعدها في العمل الإغاثي والحملات الإعلامية في المدينة.

وأسهم في أعمال التصوير والتوثيق إلى جانب نشاطه بالتنسيق بين الجهات العاملة في المدينة وجهات خارجها.

وكان من أوائل المتطوعين لتوثيق عملية تفريغ المحال التجارية التي تضررت جزئيًا وصارت عرضة للسرقة، في سبيل نقل محتوياتها إلى مخازن أكثر أمنًا.

وإلى جانب تنظيمه لأعمال الحراك السلمي في داريا، وضع بصمته عبر طرحه أفكارًا متنوعة، أبرزها حملة “ثورتنا ثورة أخلاق”، ونشر صور الشهداء، وغيرها من الأنشطة التي تمحورت جميعها حول التمسك بالسلمية، والتفكير خارج الصندوق لتلافي الوقوع في مصيدة النظام الأمنية.

أفكار مضادة للرصاص

امتلك محمد أنور قريطم أفكارًا ليّنة ومرنة، استطاع من خلالها التعامل مع مستجدات أمنية فرضتها المرحلة حينها، فابتكر بعض الوسائل التي حملت، رغم بساطتها وتواضع أدواتها، تهديدًا لصورة النظام الأمنية، باعتبار أن البندقية لا تفكر.

بالتزامن مع حالة التصعيد التي فرضتها قوات النظام على داريا في النصف الثاني من العام 2012، ومكافحتها للمظاهرات، خرج قريطم بفكرة “مظاهرة الفزاعات”، التي كانت تتجول في شوارع المدينة، للتأكيد على التمسك بحق التظاهر، حتى لو تغيّر الشكل والأسلوب.

لم تصمد سلمية الثورة طويلًا أمام رد فعل النظام على الحراك الشعبي، فحاولت القوى الأمنية وأد أي محاولة للتظاهر، ما خلق نزعة إلى العمل العسكري بالموازاة مع الحراك السلمي.

أدرك “أبو النور” طبيعة الآثار المحتملة الناجمة عن الصدام العسكري، وانحراف الثورة السلمية عن بوصلتها، فسعى للتوعية من خلال لوحات طرقية حملت عبارات وشعارات الثورة وأهدافها، بعيدًا عن العمل العسكري.

وأشرف “أبو النور” على تنفيذ اللوحات وكتابتها وتعليقها، فاكتست داريا في تلك الفترة بعشرات اللوحات واللافتات.

“أبو النور” صديق الجميع

يروي عبد الرحمن دباس، وهو صديق محمد أنور قريطم الذي شاركه الأشهر الأخيرة من حياته، تفاصيل الساعات الأخيرة لصديقه.

عبد الرحمن قال في حديث سابق إلى عنب بلدي، إن صاروخًا يحمل غازًا سامًا أصاب المنزل الذي كان قريطم ورفيق دربه الأستاذ عبد الرحيم شربجي (أبو مصعب)، وصديقه مروان شربجي (أبو إياس)، موجودين فيه، وفُقد الاتصال بهم في 28 من تشرين الثاني 2012.

ورغم نجاتهم من الشظايا والدمار إثر قصف لطائرات “الميغ”، فإن الغازات السامة كانت كفيلة بسلبهم آخر أنفاسهم.

وفي أثناء جولة عبد الرحمن في المنزل الذي قضى فيه الشهداء، وجد كيس المعونات الإغاثية الذي ذهب “أبو النور” لإيصاله إلى إحدى العائلات، في الوقت الذي كانت تعيش فيه داريا حصارًا خانقًا، وتتعرض لحملة قصف أرضي وجوي.

وأشار عبد الرحمن إلى رائحة الغاز التي انتشرت في المنطقة المستهدفة حينها، واستمرار آثاره لما يزيد على الشهر هناك. حتى لون سترة “أبو النور” كان مختلفًا جراء تأثير الغاز، كما تأثر جهازه الخلوي أيضًا، وتوقفت بطاريته عن العمل، وبقيت رائحة الغاز عالقة فيه لأشهر.

يقول عبد الرحمن، “أذكر تفاصيل ذلك اليوم، صلينا عليهم، وكتبنا الشاهدات ثم دفناهم، شهدت المدينة قصفًا شديدًا صباح ذاك اليوم في أثناء وجودنا في المقبرة، لكن أحدًا لم يغادر (…) كان أبو النور صديقًا للجميع”.

هذه ثورتنا.. الثورة تعتمد على المفاهيم والفكر والقيم وهي ثابتة لا تفنى، وكلما استشهد واحد من الثورة خلفه عشرة، بينما تعتمد السلطة على شخصية الظالم وهو هالك لا محالة، وإذا هلك انفض أتباعه عنه، وولّوا الدُبر لأنهم أصحاب شهوات وملذات.

الشهيد محمد أنور قريطم

 

 

 

 

مقالات متعلقة

شهداء داريا

المزيد من شهداء داريا