عنب بلدي- خالد الجرعتلي
أعادت قضية الشهادة الثانوية التي حصل عليها قائد فصيل “السلطان سليمان شاه” التابع لـ”الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا، محمد الجاسم، الملقب بـ”أبو عمشة”، حديث السوريين عن الفساد الذي صدّره حزب “البعث العربي الاشتراكي” إلى مؤسسات الدولة، منذ إحكام قبضته على الحكم في سوريا في سبعينيات القرن الماضي.
طُرحت كثير من الاستفسارات والأسئلة على الجامعة ووزارة التربية والتعليم التابعة لـ”الحكومة السورية المؤقتة”، عن إمكانية حصول قائد عسكري يُعرف على مستوى السوريين بانتهاك القانون، وتحصيله العلمي ابتدائي، على قبول بكلية الحقوق في جامعة “حلب الحرة”، إلا أن أي تصريح رسمي لم يصدر عن الجهتين المذكورتين، حتى تاريخ كتابة هذا التقرير.
لا يعتبر “أبو عمشة” القيادي الوحيد في صفوف “الجيش الوطني” الذي يحاول اليوم إتمام دراسته الجامعية، بغض النظر عن الوسيلة التي حصل فيها على شهاداته، وقانونيتها.
ويدرس قائد فصيل “أحرار الشرقية” التابع لـ”الجيش الوطني”، إحسان فياض الهايس، الملقب بـ”أبو حاتم شقرة”، العلوم السياسية في إحدى الجامعات التركية بمدينة ماردين جنوبي البلاد، حاله كحال العشرات من قياديّي الفصائل في مناطق نفوذ “الجيش الوطني”، بحسب معلومات متقاطعة لعنب بلدي.
تحاول عنب بلدي في هذا التقرير، بالاستعانة بآراء باحثين مختصين، تسليط الضوء على آثار الفساد الذي صدّره حزب “البعث” إلى المؤسسات السورية، والتي لا تزال واضحة في مؤسسات المعارضة التي أُسّست خارج سيطرة النظام السوري منذ عشر سنوات، والحلول التي يمكن بها معالجة وإنهاء هذه الظاهرة.
“البعث” والهوية السورية
في قراءة تحليلية لمؤسسات المعارضة السورية، التي حاولت أن تكون بديلًا عن مؤسسات النظام السوري في الشمال السوري، أعدّها مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، جاء فيها أنه مع انتشار المؤسسات السورية المُعارضة، في مجتمع يحمل ترسُبات من “عدم الخبرة المؤسساتية”، ونقص الثقة في العمل الجماعي، كان أداء وسياسات فئة من “المؤسسات الثورية” عاملًا إضافيًا لغياب الثقة، إذ غابت الشفافية، وانتشرت في هذه المؤسسات حالات من “الاختلاس أو هدر الأموال”.
في حين لم تكن الثقة المُغيبة هي ثقة مالية فقط، بل غابت أيضًا الثقة في مدى ولاء هذه المؤسسات للثورة مقارنة بولائها لأيديولوجيات القائمين عليها، أو حتى مدى إيمانها بفكرة الثورة، في حين أن بعض موظفي المنظمات ما زالوا يقضون عطلهم السنوية وإجازاتهم في مناطق النظام، وبعضهم أصلًا ترك عمله وعاد إلى مناطق النظام، وهذه الحالات تفتح التساؤلات عن ماهيَّة السياسات المتبعة في مؤسسات الثورة لقبول الأشخاص والموظفين فيها، بحسب المركز.
التقت عنب بلدي بأستاذ علم الاجتماع في جامعة “دمشق” سابقًا، والباحث في مركز “حرمون للدراسات المعاصرة”، طلال مصطفى، واعتبر أن التماهي بين سياسات مؤسسات المعارضة السورية وشخصيات نافذة فيها، وبين أقرانها لدى النظام السوري لم يقتصر فقط على صعيد مظاهر الفساد، إنما اقترنت في كثير من المناسبات بالأساليب التي اتبعتها فصائل المعارضة في قضايا الاعتقال، أو التعذيب في الزنازين، التي لم تختلف عن أساليب النظام، بل كانت أسوأ منها في كثير من الأحيان.
ووثقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” مقتل 47 شخصًا بينهم طفل وسيدة بشكل تعسفي، على يد فصائل المعارضة المسلحة بين آذار 2011 وحزيران الماضي، في تقرير أصدرته الشبكة عن انتهاكات أطراف النزاع في سوريا خلال تلك الفترة.
واعتبر الباحث أن جزءًا من سلطات المعارضة في الشمال السوري لم يخرج من عباءة “البعث” حتى اليوم، وكأنه يتطلع لأن يكون مثل النظام، بل نموذجًا مصغرًا عنه، إذ ظهرت اليوم في مناطق الشمال السوري شخصيات تتماهى مع رامي مخلوف، ابن خال رئيس النظام بشار الأسد على الصعيد الاقتصادي، ومنهم من يقابل رفعت الأسد على الصعيد العسكري.
وهو شكل من أشكال الإعجاب بهذه الشخصيات التي تحاول شخصيات المعارضة تقليدها، أو أن تصبح نموذجًا عنها، بحسب المُختص الاجتماعي، الذي اعتبر أن أي عملية قطع ثقافي أو فكري لم تحصل بين بعض شخصيات المعارضة والشخصيات الفاسدة في النظام السوري، خلال سنوات الثورة السورية.
الفساد مرتبط بـ”الثقافة الاستبدادية”
سيطرت ثقافة “الاستبداد” على مفاصل المجتمع السوري خلال الـ50 عامًا الأخيرة، كنتيجة لحكم حزب “البعث” لمفاصل الحياة والدولة في سوريا، ويعتبر جوهر هذه الثقافة “غياب أي قواعد للديمقراطية والحرية، وفي الحالة الطبيعية للمجتمع السوري، يجب أن يتم العمل على قطع هذه الثقافة ولفظها”، بحسب ما يعتقده الباحث والمختص في علم الاجتماع طلال مصطفى.
الباحث مصطفى اعتبر أن النظام السوري كان صاحب دور “ذكي”، لإظهار بعض المعارضين والشخصيات السياسية في الشمال السوري بأنهم ليسوا بأفضل من منظومته الفاسدة.
وأنتج النظام، بحسب الباحث، شخصيات صارت أسوأ منه على جميع الأصعدة، الأمر الذي يجبر المجتمع السوري اليوم في حال أجرى مقارنة بين السلطات والشخصيات النافذة في مناطق نفوذ المعارضة اليوم وبين النظام السوري، على اختيار النظام، بحسب مصطفى.
في حين خلّفت ثقافة حزب “البعث” الدكتاتورية في سوريا، بعض الشخصيات التي تسلّمت مناصب قيادية، ممن يعتقدون أن من الطبيعي أن يلجؤوا إلى أساليب الفساد لاستصدار شهادات دراسية أو تحقيق مكاسب شخصية معيّنة، بحسب مصطفى، الأمر الذي يمكن أن يراه المجتمع السوري واضحًا اليوم و”متماهيًا في السلوكيات” بأساليب التعامل مع العديد من القضايا، سواء كانت الاحتفالات، أو البيانات والقرارات، أو الأناشيد، أو المراسم.
فحتى مؤسسات القضاء التي تنتشر في مناطق نفوذ المعارضة، صارت أسوأ من قضاء النظام السوري المعروف على مستويات عالية بفساده، بحسب مصطفى.
مؤسسات غير مستقرة بـ”الأهداف”
انخراط القادة العسكريين، سواء من الضباط أو من المدنيين، الذين يقودون فصائل مسلحة، في الجامعات صار ظاهرة أكثر من كونه خرقًا قانونيًا ارتكبه “أبو عمشة”، إذ اتجه قياديّو الصف الأول والثاني في “الجيش الوطني” للدراسة في جامعات الشمال أو في الجامعات التركية، وهو أمر غير مقتصر على قيادي واحد أو اثنين، بحسب معلومات تحققت منها عنب بلدي.
وخلال حديث أجرته عنب بلدي مع أحد قادة الصف الثاني، في فصيل يتبع لـ”الجيش الوطني”، تحفظت عنب بلدي على ذكر اسمه لأسباب أمنية، فإن حالة من الخوف تخيّم على هؤلاء القادة من أي عملية تنظيمية قد تُجريها تركيا على هيكلة “الجيش”، والتي من المحتمل أن تطيح بهم كونهم لا يملكون شهادات علمية، أو أي مؤهلات تخوّلهم تولّي هذه المناصب.
ويعجّ اليوم قسم العلوم السياسية في الجامعات التركية أو جامعات الشمال السوري بهؤلاء القادة، ورغم أن قسمًا كبيرًا منهم من الحاصلين على الشهادات الثانوية، فإن قسمًا آخر حصل على شهادته الثانوية خلال العام الحالي.
وأرجع القيادي أسباب هذا التوجه نحو التحصيل العلمي، إلى أن المناطق التي يسيطر عليها “الجيش الوطني” هي مناطق “غير مستقرة حتى اليوم”، ما يجعل مستقبل هؤلاء القياديين مجهولًا، خصوصًا مع التغييرات الأخيرة التي تجريها تركيا في الشمال السوري، كمحاولة اجتثاث المجموعات المُقاتلة التي تشتهر بأن فصائل مسلحة أوجدتها لتسيير أعمالها غير القانونية في الشمال السوري.
وفي منتصف تشرين الثاني الحالي، حصل شيء من هذا القبيل في عفرين بريف حلب، عندما نشبت اشتباكات بين فرقة “الحمزة” وأحد الألوية التابعة للفرقة، الذي يعتبر ذراعها في الأعمال الخارجة عن القانون، بحسب القيادي.
اعتبر الباحث السياسي في مركز “جسور للدراسات” وائل علوان، أن المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري، هي مناطق “غير مستقرة في الأهداف والمبادئ والشعارات التي تخدم مطالب الشعب السوري التي انطلقت قبل عشر سنوات”.
وكان أول أسباب خروج الشعب السوري في مظاهرات مطالبة برحيل النظام السوري، كونه وعلى مدار سنوات حكمه الـ50 في سوريا، عبارة عن نظام “ممعن في الفساد والتجاوزات” على جميع الأصعدة، وهو ما صار يتكرر اليوم في المناطق الخارجة عن نفوذه، بحسب علوان.
ولا بد اليوم لمؤسسات وكيانات المعارضة السورية، البحث بكامل الجدية والمسؤولية في بُنية القانون المُطبق من قبلها، والذي من الواجب ألا يصح فيه الاستثناء أو غض الطرف عن ممارسات معيّنة لفئة معيّنة من النافذين.
ما الحلول.. “تركيا مُطالَبة بموقف”
خلّف الاستبداد الذي عاشه السوريون لسنوات طويلة “تشوهات في السلوك وآليات التفكير في التعاطي مع القوانين وإدارة الشأن العام”، بحسب ما يعتقده رئيس تجمع “المحامين السوريين الأحرار”، غزوان قرنفل.
وأضاف قرنفل أن التجربة السورية اليوم في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري صارت أوسع، كون السوريين اطلعوا على تجارب من خارج مؤسسة “البعث”، وهو الأمر الذي من المفترض أن ينعكس إيجابًا على سريان عمل هذه المؤسسات والمنظومات.
وصار من الواجب اليوم، بحسب قرنفل، العمل على إعادة هيكلة جميع المؤسسات في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري، حتى تحقق تطلّعات السوريين التي دفعوا ثمنها الكثير، خصوصًا في مناطق شمال غربي سوريا.
واعتبر قرنفل أن المشكلة لا تكمن في سلوك أفراد يسفر عن خرق للقوانين، إنما تكمن بطبيعة تنظيم هذه المؤسسات، والدور الذي تحاول كل مؤسسة “انتزاعه لنفسها” على حدة، وكأنها “سلطة مستقلة ذات سيادة خاصة”.
وتحاول هذه المؤسسات العمل بشكل منفصل دون النظر إلى وجود سلطة مرجعية يمكن النظر إليها كـ”الحكومة السورية المؤقتة” مثلًا، باستثناء السلطة العسكرية التي تخشاها هذه المؤسسات في كثير من الأحيان، بحسب قرنفل.
واعتبر قرنفل أن دور “الحكومة المؤقتة” في تنظيم العمل بالشمال السوري، يقتصر على “شاهد زور” يراقب الأعمال الخارجة عن القانون بالمطلق دون أن يملك السلطة على تغيير ما يحصل.
وينظر المحامي غزوان قرنفل إلى الحل الممكن اليوم لظاهرة الفساد المؤسساتي في الشمال السوري، أنه لا يمكن تطبيقه إلا بأخذ مبادرة جماعية ومسؤولية تجاه هذه المواقف، مشيرًا إلى أن من غير الممكن والمنطقي أن يتولى المجلس المحلي تسيير أعمال منطقة معيّنة، وأن يملك هذا المجلس مديرية تربية خاصة به، وهو أمر “معيب” بحق المؤسسات السورية، حسب قرنفل.
وأشار إلى أن العالم يفضّل التعامل مع دكتاتور واحد على أن يتعامل مع من أسماهم “شرذمة من الدكتاتوريين”، الذين كانوا سببًا في عدم وجود أي موقف دولي اليوم داعم لإدارة سورية خارجة عن نفوذ النظام السوري.
واعتبر أن الحل يقتصر على إقامة حكومة “مؤقتة” فعلية ذات صلاحيات تشمل جميع المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري، ومخولة بإدارة كل المجالات المدنية في هذه المناطق، إضافة إلى مجالس محلية يُعاد انتخابها كل سنة أو سنتين، وذات مرجعية إدارية تتبع لوزارة الإدارة المحلية في “الحكومة السورية المؤقتة”، وحصر التعامل مع الإدارات والمجالس التركية عبر “الحكومة المؤقتة”، عوضًا عن تحالفات يشكّلها كل مجلس محلي مع جهة أو شخصية تركية مختلفة بشكل مستقل.
واعتبر المحامي غزوان قرنفل أن تركيا “مُطالَبة بموقف واضح تجاه هذا الأمر”، إذ يُفترض ألا تتعاطى الإدارات التركية مع أفراد أو كيانات صغيرة من الداخل السوري بشكل مُطلق، وعلى جميع الأصعدة الخدمية والطبية والعسكرية، وإلا فما الغرض من وجود “الحكومة السورية المؤقتة”.
بينما قال الباحث الاجتماعي في مركز “حرمون للدراسات المعاصرة” طلال مصطفى، إنه وبالنظر إلى حالة غياب البديل عن المؤسسات “الفاسدة”، التي تعتبر بالحدود الدنيا “مماثلة لمؤسسات النظام السوري”، من الطبيعي أن ينتصر النظام سياسيًا في ظل غياب بديل يُجبر الناس على الالتفاف حوله.
وحتى ينهزم “الفساد المتأصل” في المؤسسات السورية، لا بد من وجود “نقيض له وبديل عنه”، على جميع الأصعدة والتفاصيل، والذي من المفترض أن يجري قطعًا مع هذه الثقافة الفكرية والتعليمية والمؤسساتية بالمطلق، وهو الأمر الذي لم يحصل حتى الآن.
سوريا تتصدّر مؤشرات الفساد
للعام الرابع على التوالي، احتلت سوريا المرتبة قبل الأخيرة في قائمة التقرير السنوي لمؤشرات “مدركات الفساد” الذي تصدره “منظمة الشفافية الدولية”، والذي يرصد حالتي الشفافية والفساد في 180 دولة حول العالم.
وصنفت “منظمة الشفافية الدولية”، في تقريرها لعام 2020، سوريا في المرتبة 178 برصيد 14 نقطة، تلتها جنوب السودان والصومال في المرتبة الأخيرة، برصيد 12 نقطة.
وتراجعت سوريا، وفق التقرير، من المرتبة 144 برصيد 26 نقطة وفق الترتيب الصادر في العام 2012، لتصل إلى الترتيب الحالي، بعد تراجعها 13 نقطة.
وحلّت سوريا خلال عام 2014 بالمرتبة 159 برصيد 20 نقطة، وفي 2015 بالمرتبة 154 برصيد 18 نقطة، وفي 2016 بالمرتبة 173 برصيد 18 نقطة، وفي 2017 بالمرتبة 178 برصيد 14 نقطة، وفي 2018 بالمرتبة 178 برصيد 13 نقطة، وفي 2019 بالمرتبة ذاتها برصيد 14 نقطة.
وبحسب المنظمة، كلما كانت المجتمعات أكثر ديمقراطية وانفتاحًا وشفافية، زادت قدرتها على مكافحة الفساد.
ويرصد التقرير القنوات الواصلة بين السلطة والمال، وحالات الفساد في مختلف تجلياتها.
ويتناول حالة الشفافية في العمليات الانتخابية والمشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات، إضافة إلى مدى تمكّن القضاء من تحقيق العدالة ومعاقبة متجاوزي القانون.
وتصدر “منظمة الشفافية الدولية” منذ 26 عامًا، ومقرها في العاصمة الألمانية برلين، تقارير عن الفساد حول العالم، مستندة في دراساتها إلى جملة من المقاييس والمعايير على مدى ديمقراطية البلد، وشفافية المعاملات الإدارية والمالية، ومدى تشجيع الدول للتنافسية ومناخ الاستثمار ومحاربة الفساد.