عنب بلدي – خاص
لا تتوقف القذائف عن قصف أراضٍ زراعية في سهل الغاب شمالي محافظة حماة، من بينها مزرعة مصعب الياسين (35 عامًا)، التي تضرر حوالي 30 دونمًا منها، من بينها أشجار مثمرة، تضرر بعضها بشكل كلي أو جزئي.
يزرع مصعب الياسين في أغلب الأوقات محاصيل البندورة، والقمح، والتفاح، ضمن العمل الوحيد الذي يعينه على تحسين الوضع المعيشي لعائلته المكوّنة من عشرة أفراد.
إلا أن مواصلة القصف على مناطق شمال غربي سوريا، من بينها سهل الغاب، يعرّض سكان تلك المناطق للتهديدات والحوادث والضغوط المتغيرة لأسباب منها تنامي انعدام الأمن وسط نزاع مسلح لا يزال مستمرًا، يؤثر سلبًا على مناخ وبيئة تلك المناطق، في ظل أوضاع إنسانية هشّة.
ولا تنطبق القضايا البيئية في مناطق النزاع المسلح على المساعدة الإنسانية الفعّالة فقط، وإنما تنطبق أيضًا على الالتزام بتقديم الوعي الكبير لفئات المجتمع حول العلاقة بين المناخ والأمن، في الوقت الذي يكون فيه الاهتمام بهذه المواضيع “محدودًا نسبيًا”، بحسب تعبير منسقة برنامج التوعية في “الدفاع المدني السوري”، رندا الصغير.
وعلى عدة أيام من تشرين الثاني الحالي، نظّم فريق “الدفاع المدني السوري” في شمال غربي سوريا مبادرة التشجير، لتوعية المدنيين بضرورة الاهتمام بالثروة البيئية، “الضحية غير المعلَنة في الحروب”، من أجل الحفاظ عليها لضمان حياة سليمة صحيًا ومناخيًا.
وفي الوقت الذي يواجه العالم فيه مناخًا مضطربًا، فإن التحديات المرتبطة بالمناخ في مناطق النزاع السورية تكون أكبر وأعقد، حيث تُحدد الظروف الاجتماعية والأمنية والاقتصادية المخاطر المرتبطة بالبيئة، وغالبًا لا تكون تلك المخاطر مستقلة عن النزاع المستمر، أي لا توصف على أنها مخاطر طبيعية.
وفي ظروف معيّنة، يمكن أن يسهم الضرر البيئي الذي يسببه النزاع المسلح في التغير المناخي، ما يوجب حماية البيئة الطبيعية من قبل المنظمات المعنية الفاعلة في المنطقة، عن طريق تنظيم فعاليات ونشاطات تزيد من الوعي المجتمعي حول هذه المخاطر.
خسائر معيشية
ينقل المزارع الثلاثيني شكواه لعنب بلدي، “دمّرت قذائف النظام كثيرًا من البساتين، مثل أشجار الزيتون والرمان والفستق الحلبي، ودُمّرت كثير من البنية التحتية لكثير من المزارعين”.
كما أن لوهج القذائف الحارق تأثيرًا كبيرًا على الثمار، في أثناء مرحلة النمو لعدة أصناف من الخضراوات، بحسب ما أضافه المزارع، الأمر الذي يهدد إنتاج المحاصيل في هذه الأراضي، ويعرضها لأمراض.
وعندما تصل المحاصيل إلى مرحلة الضرر، يصبح أمر بيعها للتجار غير ممكن، ما يحدّ من إمكانية الاستفادة منها من أجل تحسين الوضع المعيشي الخاص بالمزارعين.
وجزء من هذه المساحة غير مزروع لعدة أسباب، منها الأراضي الزراعية القريبة من خطوط التماس، خاصة في جبل الزاوية جنوبي إدلب وسهل الغاب، إذ قُتل مدنيون وأُصيب آخرون خلال محاولتهم زراعة أراضيهم أو تجهيزها للزراعة.
وتقدر مساحة الأراضي الزراعية في مناطق سيطرة المعارضة شمال غربي سوريا بحوالي 1500 كيلومتر مربع، بحسب إحصائية لمركز “نورس للدراسات” في المنطقة.
محاولات لنشر الوعي
خلال الفترة الماضية، اتسع النقاش بشأن تغيّر المناخ، القضية التي كانت تستقطب فقط المهتمين بمجال حماية البيئة، لتشمل فيما بعد شرائح أوسع من المجتمع، وصارت هذه القضية يُنظر إليها على أنها مسألة أمن على المستوى الوطني والدولي.
وفي تشرين الثاني الحالي، انعقدت قمة الأمم المتحدة للتغيّر المناخي “كوب 26″، بحضور 197 دولة من أجل مواجهة هذه المشكلة ومعالجتها، بموجب اتفاقية “باريس” الدولية للمناخ.
لكن خلال النزاع المسلح، تبتعد ممارسات الأطراف المتنازعة عن اعتماد قواعد القانون الدولي الإنساني التي تشمل حماية البيئة الطبيعية في معاركها، ما يعني عدم المقدرة على التغلب على التحديات المناخية.
وبحسب ما قالته منسقة برنامج التوعية في “الدفاع المدني السوري”، رندا الصغير، في حديثها إلى عنب بلدي، فإن المبادرة التي تقوم بها المنظمة في المنطقة هدفها “إيصال رسائل التوعية حول أهمية البيئة، وتسليط الضوء على أخطار الحرب وآثارها المناخية، وضرورة التوعية بدور المدنيين في تخفيف وطأة الآثار المدمرة للحرب على البيئة”.
كما تهدف المبادرة إلى “التأكيد على أن الموارد البيئية هي إرث متوارث للأجيال المتعاقبة، وليست ملكًا لجيل واحد”.
البيئة ضحية مخلّفات النزاع
تعاني مناطق عدة في شمال غربي سوريا من تلوث البيئة بـ”مخلّفات الأسلحة والذخائر غير المنفجرة”، وفق منسقة المبادرة رندا الصغير، حيث تستمر الألغام ومخلّفات النزاع غير المنفجرة، مثل القنابل والقذائف والقنابل العنقودية، في قتل المدنيين والتشويه البيئي حتى بعد نهاية النزاع.
وتحمل هذه الآفة، وفق الصغير، اسم “التلوث الناجم عن السلاح”، إذ إن هذا التلوث يعتبر خطيرًا على مجموعات البشر المتضررين، كونه يمنعهم من الوصول إلى مصادر المياه والعمل الزراعي، ويعوق أعمال الإغاثة ويفاقم الأزمات الإنسانية.
وتتأثر فئات سكانية محددة مثل الأطفال والنساء بالأضرار البيئية نتيجة مخلّفات الأسلحة، وتصطدم بعقبات جسيمة حين تسعى هذه الفئات إلى الحصول على الموارد التي تسمح لها بالتكيّف مع ضغوط التلوث البيئي.
وإضفاء طابع أمني على مسألة التلوث البيئي نتيجة النزاع، أي أن الأمن البيئي هو انعكاس للأمن الغذائي والمعيشي لدى الناس، هو توجه مفيد للفت الانتباه إلى هذه القضية.
وتذكير الناس بـ”اليوم الدولي لمنع استخدام البيئة في الحروب والصراعات العسكرية” الموافق لـ6 من تشرين الثاني من كل عام، يعتبر وسيلة مهمة لتسليط الضوء على الآثار المدمرة للنزاعات المسلحة على البيئة، وفق ما تعتقده الصغير، لذا كانت مبادرة التشجير كنوع من “إيقاظ الوعي لنأخذ دورًا فاعلًا في حل هذه المشكلة، ونتخذ خطوة عملية في هذا المساق”.
ويعاني 12.4 مليون سوري من انعدام الأمن الغذائي، ويواجهون صعوبة في الحصول على وجبتهم الأساسية، بحسب بيانات برنامج الغذاء العالمي.
أزمات إضافية
يشمل التلوث البيئي نتيجة مخلّفات النزاع المسلح الأزمات المائية التي تعيشها عدة مناطق في سوريا.
وفي ظل ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض منسوب مياه الأمطار، تعاني سوريا من ندرة المياه العذبة، إذ أثّر النزاع المسلح على المياه بشكل أساسي، وتزايدت الأزمة المائية خصوصًا مع موجات الجفاف والتغيّرات المناخية، وفق ما قاله الصحفي السوري المختص بالقضايا البيئية زاهر هاشم، في حديث إلى عنب بلدي.
أدى توقف محطات معالجة وضخ مياه الشرب نتيجة عدم توفر الكهرباء والمحروقات، إلى اعتماد الأهالي على مصادر مياه غير صحية، ما أدى إلى انتشار أمراض بكتيرية وفيروسية بين السكان، وفق هاشم.
كما أدى نقص مياه الري إلى تدهور الزراعة وجفاف المحاصيل الزراعية وسوء الأوضاع المعيشية، وتسبب توقف محطات معالجة الصرف الصحي في تلويث التربة والمياه الجوفية والمزروعات.
وأسهمت الأعمال العسكرية وغياب الأمن بزيادة قطع الأشجار وحرائق غابات مفتعلة، ما أدى إلى أخطار على الكائنات الحية والمحاصيل الزراعية والمواشي.
ونتج عن الأعمال العسكرية تلويث التربة ببقايا الأسلحة التقليدية والكيماوية، فصارت غير صالحة للزراعة، يضاف إلى ذلك، التلوث الناتج عن قصف المنشآت النفطية وتسرّب النفط منها، وبالتالي تلويث التربة والمياه الجوفية والسطحية بملوثات شديدة الخطورة، وفق ما نوّه إليه الصحفي المختص بالقضايا البيئية.
كما يؤدي تكرير النفط بطرق بدائية إلى زيادة تلوث المياه السطحية، والجوفية، والتربة، والهواء بمكوّنات سامة ناتجة عن الحرق ومخلّفات التكرير، بالإضافة إلى مخاطر صحية على الإنسان نتيجة الملامسة واستنشاق الأبخرة.
ويرى هاشم أنه مع تزايد الأزمات المعيشة الناتجة عن عدم توفر المقومات الأساسية للحياة، مثل المياه، والكهرباء، والمحروقات، فإن حجم التلوث البيئي لا يمكن الحد منه من قبل الأهالي بشكل منفرد، بل لا بد من وجود جهات فاعلة على الأرض، بالإضافة إلى ميزانية كبيرة لتجاوز الآثار البيئية في مناطق النزاع المسلح.
ولا يمكن تحقيق ذلك إلا في ظل الاستقرار السياسي والأمني، ومساعدات دولية لإعادة تأهيل مصادر المياه، والكهرباء، والأراضي الزراعية، لتجنّب والتكيّف مع آثار الجفاف والتغيّر المناخي، والحفاظ على الأمن الغذائي للسكان.