عنب بلدي- حلب
انتظرت بتول (41 عامًا) رسالة “الهلال الأحمر السوري” من أجل تسلّم المساعدات الغذائية الموزعة على المدنيين من قبل برنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة (WFP)، ولكن بعد انتظارها لثلاثة أيام في آب الماضي، قررت مراجعة مركز “الهلال الأحمر”، لتعلم بتعليق حصتها من المساعدات الغذائية دون إيضاح السبب.
لم يُسمح لبتول، وفق ما قالته لعنب بلدي، الطعن بالقرار الصادر بشأن إيقاف تسليمها المساعدات الغذائية، وعادت إلى منزلها دون حصولها على المساعدات أو معرفة السبب الرئيس حول الأمر.
وخلال مطلع الشهر الحالي، استطاعت بتول (التي تحفظت عنب بلدي على نشر اسمها الكامل لأسباب أمنية) معرفة سبب إيقاف المساعدات الغذائية عن طريق أحد أقاربها.
وتبين أن سبب توقف المساعدات هو أن “لدينا أقارب موجودين في مناطق المعارضة المسلحة بالشمال السوري”، بحسب ما قالته بتول التي تابعت، “لدي خمسة أولاد وأنا من يعولهم، لأن زوجي توفي منذ حوالي سبع سنوات، بقيت في مدينة حلب لأنني لا أفضّل العيش في المخيمات، وهناك عائلات عادت إلى مدينة حلب، وحدّثتنا عن صعوبات العيش في المخيمات خاصة خلال فصل الشتاء”.
وقبل أيلول الماضي، كانت بتول تتسلّم المساعدات الغذائية عن طريق “الهلال الأحمر السوري” كل شهرين، وهي كمية من المساعدات تكفي حاجة عائلتها.
ما فاجأ بتول، هو أن “الهلال الأحمر” أوقف تسليم المساعدات لأسباب “غير مقبولة”، وفق ما قالته، “حتى إن كان لدي أقارب ضمن مناطق الفصائل، وحتى إن كانوا يعملون معهم، فهذا ليس ذنبي، أو ليس سببًا لعدم تسليمي المساعدات الغذائية، وهي توزع مجانًا من قبل منظمة الأغذية العالمية”.
وتحاول السيدة إيجاد طريقة لتأمين المساعدات، كونها لا تستطيع العمل لوقت طويل من اليوم بسبب معاناتها من أوجاع في الظهر (ديسك الظهر).
في عدة ظروف “غير إنسانية” عاشها سوريون، تحيط بمنظمة “الهلال الأحمر السوري” الاتهامات حول تقاعسها بالاستجابة إلى الاحتياجات التي كانت ضرورية للسوريين في أوقات الحصار وذلك لأسباب سياسية، إذ تكون منظمة “الهلال” المنفذ الوحيد والطريق الوحيد لإيصال المواد الطبية والإغاثية في أثناء الحصار، ومع ذلك تُغلق أبوب “الهلال الأحمر” أمام الفئات المحتاجة إلى المساعدة.
جولات لجمع بيانات
قالت فاتن (49 عامًا) من حي الشعار في حلب لعنب بلدي، إنها ندمت بعد استقبال “الهلال الأحمر” في منزلها بعد أن أوقفوا تقديم المساعدات لعائلتها.
عرف “الهلال” أن لدى فاتن أقارب في مناطق سيطرة المعارضة، كونها سُئلت عن هذا الموضوع، ولذلك تعتقد فاتن أن سبب قطع المساعدات يرتبط بوجود أقاربها في الشمال السوري.
“لن أستقبلهم مرة أخرى، حتى لو أعادوا لنا تقديم المساعدات الغذائية، لأنهم ألغوها لأسباب بعيدة عن الإنسانية، حتى إن كان لدي أقارب في إسرائيل فالمساعدات من حق عائلتي”، وفق ما قالته فاتن، التي تركت هذه التجربة لديها قناعة بأن “منظمة (الهلال الأحمر) لم تعد مستقلة أو تابعة لجهة دولية، وإنما تابعة للأفرع الأمنية للنظام، الذي يستمر بسياسة التضييق على الأهالي”.
وأجرى “الهلال الأحمر السوري” جولات عدة في أحياء حلب الشرقية منذ منتصف أيلول الماضي، واستمرت هذه الجولات حتى 10 من تشرين الثاني الحالي، لتكون المدة الزمنية لتقديم المساعدات هي حوالي الشهرين، وبعدها توقفت المساعدات عن عشرات العوائل.
جمع موظفو “الهلال الأحمر” من خلال هذه الجولات البيانات الخاصة بالعائلات المحتاجة، وبعد ذلك قُطعت المساعدات الغذائية عن بعض العائلات دون سابق إنذار.
وعلى الرغم من توجه تلك العائلات لمراكز “الهلال الأحمر” لمعرفة سبب قطع المساعدات، فإن تساؤلاتهم قوبلت بعدم الاكتراث بها، وفق ما رصدته عنب بلدي من آراء الأهالي.
حاول موظفو “الهلال الأحمر” أن يبقوا بعض العائلات ضمن “الجداول المعدمة”، ولكن لم تُستثنَ تلك الجداول من الشطب، بحسب ما قاله محمد (38 عامًا)، وهو موظف في “الهلال الأحمر السوري” بفرع حلب.
وبحسب ما أضافه محمد لعنب بلدي، فإن “القوائم الاسمية للعائلات رُفعت إلى الإدارة، التي قامت بدورها بدراسة وضع العائلات بشكل أوسع، ولكن صُدمنا عندما رأينا أنه أُلغيت المساعدات الغذائية لعدد كبير من العائلات المحتاجة، والسبب هو صلاتهم ووجود أقارب لهم في الطرف الخاضع لسيطرة عناصر المعارضة المسلحة بالشمال والشمال الغربي لمدينة حلب، وكذلك وجود أقارب لهم في إدلب”.
يشدّد “الهلال الأحمر” على أن مهمته تنحصر في تقديم المساعدة الإنسانية بغض النظر عن توجهات الأفراد خلال النزاع المسلح، إلا أنه كثيرًا ما تُمنع المنظمة من تقديم العون في مناطق محددة، أو تُجبر على تقديم خدماتها لمن لا يستحق في مناطق أخرى ضمن حدود ضيقة.
تابع محمد (الذي تحفظت عنب بلدي على ذكر اسمه الكامل لأسباب أمنية)، “تقييم تقديم المساعدات للمدنيين يكون على أساس الاحتياجات، وإلغاؤها على أساس عدم الحاجة إليها، لكن بالنسبة إلى إدارة (الهلال الأحمر)، إلغاء المساعدات الغذائية مرتبط بتوصيات من الأجهزة الأمنية في حلب”.
امتداد للأفرع الأمنية
بحسب تقرير “هيومن رايتش ووتش” الصادر عام 2019، فإن وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الدولية التي ترغب في العمل في سوريا، لا تستطيع القيام بذلك إلا إذا كانت شريكة مع جهات فاعلة محلية معتمدة لتنفيذ برامجها.
وهذه الجهات يمكن أن تكون منظمات غير حكومية محلية خاضعة للموافقة المسبقة والتدقيق، أو وزارات معنية بقطاعات محددة، أو “الهلال الأحمر السوري”.
وتقدم وزارة خارجية النظام السوري، بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية، قائمة بالشركاء الذين تمت الموافقة عليهم مسبقًا، “تضم فقط المنظمات التي تم التدقيق فيها والموافقة عليها من قبل فروع المخابرات السورية”، إذ “تنخرط الأجهزة الأمنية السورية مع هؤلاء الشركاء المحليين بانتظام، ويمكنها، وفقًا للمنظمات الإنسانية، الوصول إلى قوائم المستفيدين والبرامج الخاصة بهم في أي وقت”.
فروع المخابرات هذه مسؤولة، بحسب التقرير، عن انتهاكات حقوقية منهجية، وقد قيّدت الوصول إلى المساعدة، وأساءت معاملة من تعتبرهم معارضين سياسيين.
لذلك، فإن تدخّل الفروع الأمنية في البرامج الإنسانية، إما من خلال شركاء محليين وإما مباشرة، يعرقل قدرة العاملين في المجال الإنساني على إيصال المساعدات والحصول على وصول غير مقيّد إلى الأهالي، ويقيّد بشدة قدرتهم على تلبية الاحتياجات الأساسية لهم، منها المأوى، والمياه، والغذاء، والرعاية الصحية.
ويعني ذلك، بحسب التقرير، أنه عند مشاركة قوائم المستفيدين من المساعدات الإنسانية مع الشركاء المحليين، يمكن أن يكونوا فعليًا يسلّمون المعلومات الحساسة والسرية أحيانًا إلى أجهزة الاستخبارات، وبالتالي يسهّلون الانتهاكات بحقهم.
وقبل حوالي أربعة أعوام، أنهت العمليات العسكرية لقوات النظام السوري بدعم روسي، سيطرة فصائل المعارضة على الأحياء الشرقية لمدينة حلب، التي بدأت منذ منتصف العام 2012.
وخلّف قصف النظام هذه الأحياء بمختلف أنواع الأسلحة، خاصة بالبراميل والحاويات المتفجرة الملقاة من الطائرات المروحية، تدمير الأبنية والبنى التحتية، ولا تزال تلك الأحياء تعيش واقعًا خدميًا ومعيشيًا مترديًا وسط إهمال حكومي بمعالجة ذلك.
التعاون الأمني أو إيقاف العمل
تتحكم الأجهزة الأمنية بمفاصل الحياة في مدينة حلب، حتى إن تراخيص الجمعيات الخيرية والأهلية لا تتم من دون موافقة تلك الأفرع.
وخلال الجولات التي يقوم بها موظفو الجمعيات الخيرية، ومنظمة “الهلال الأحمر” وغيرها من المنظمات، “يرافقهم صف ضباط وأحيانًا ضباط برتبة ملازمين أو نقباء لمراقبة هذه الجولات”، وفق ما قاله صف ضابط برتبة رقيب في “الأمن السياسي” لعنب بلدي.
والمراد من هذه المرافقة “الحصول على معلومات كاملة عن كل عائلات الأحياء الشرقية في المدينة”، إذ أرسل فرع “أمن الدولة” طلبًا إلى فرع منظمة “الهلال الأحمر” في حلب، بضرورة مشاركة بيانات العائلات، وتلاه فرع “الأمن السياسي” بتقديم الطلب نفسه، وفق ما قيل على لسان الرقيب (الذي تحفظ على ذكر اسمه لأسباب أمنية).
وبحسب ما قاله الرقيب، فإن “جميع بيانات العائلات التي تحصل عليها المنظمات والجمعيات تتم مشاركتها مع الأفرع الأمنية، وذلك ضمن التوصيات لأي منظمة أو جمعية، وفي حال عدم مشاركة البيانات يتم تجميد عملها”.
ومن خلال هذه البيانات تلغى المساعدات الغذائية، لأن الأشخاص الذين تُلغى مساعداتهم يكون لديهم أقارب مطلوبون للاعتقال، وهم يوجدون في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة المسلحة، وإعطاؤهم المساعدات الغذائية، يكون بالنسبة إلى الأجهزة الأمنية بمثابة مساعدتهم وهم “خلايا لأقاربهم”، وفق تعبير الرقيب.
ولذلك، تقوم الأجهزة الأمنية، خلال الفترة الحالية، بإلغاء المساعدات الغذائية الموزعة على تلك العائلات.
وتعتمد كثير من العائلات على المساعدات الغذائية الموزعة عليهم من قبل منظمة “الهلال الأحمر” أو عن طريق الجمعيات الخيرية والأهلية، إذ يوجد في كل صندوق مساعدة مواد، مثل الأرز والسكر والملح والبرغل والمعكرونة وعبوات زيت للطبخ.
وأسعار تلك المواد الغذائية مرتفعة في أسواق المدينة، إذ يصل ثمن مجموعة المواد الغذائية هذه إلى أكثر من 100 ألف ليرة سورية (30 دولارًا)، ما يعني أن المساعدات الإغاثية تخفف من العبء المعيشي على تلك العائلات، ودونها يعيش الأهالي في حيرة من أمرهم، وصعوبة بتدبير احتياجاتهم، في ظل تهديد أمنهم الغذائي.