عبد اللطيف الحمصي – حمص
خضعت المؤسسات غير الرسمية في سوريا، كالنقابات واتحادات الطلبة والمجالس المحلية والأوقاف ممثلة بوزارتها ومديرياتها، إلى سلطة النظام في حقبة الأسد الأب والابن، حتى عرفت معاهد تحفيظ القرآن الشرعية بـ “معاهد الأسد”.
وحاول النظام تطويع المؤسسات الدينية بما يخدم مصالحه ويلمع صورته ويغيّب العقل وينشر الخرافات والدجل، لأنه لم يستطع إبعاد الناس في حمص عن المساجد والمجالات الدينية بشكل عام، لكن قبضته أفلتت مطلع الثورة مع انضمام المشايخ إلى صفوفها، ليعود اليوم بخطوات تمكن نفوذه بين من بقي من أهالي المدينة.
ممارسات قبل الثورة
كانت خطب الجمعة توزع على الخطباء بشكل خطي قبل الصلاة، وعلى الجميع الالتزام بها والدعاء لـ “القائد” حافظ ومن بعده بشار في ختامها، وإلا سيواجه المخالف باستدعاءٍ لأحد الأفرع الأمنية وربما إجراءات أكثر صرامة في حال تكررت المخالفة.
السماح بإنشاء معاهد تحفيظ القرآن الكريم بشرط تسميتها باسم الأسد، إلى جانب تشجيع التيار الصوفي المتشدد المعروف بإبعاد العقل ونشر الجهل، كان بعض الممارسات التي تفرضها مؤسسات الدولة الأمنية، إضافة إلى إطلاع الجهات الأمنية على جميع التبرعات ومصادرها وإلى أين ستذهب والعديد من القوانين والقرارات التي تقيد المؤسسة الدينية وتحدّ نشاطها.
انضمام المشايخ إلى الثورة
وإبان الثورة السورية في آذار 2011، شهدت المساجد والمؤسسات الدينية عامة انعتاقًا من سلطة الأوقاف الرسمية، بسبب موجة التغيير التي جعلت من المساجد نقطة انطلاق لها، ما أعطى قوة ودفعة للخطباء والدعاة في كسر كثير من الحواجز، وتجاوز الخطوط الحمراء التي رسمها النظام.
حتى المحايدون من الخطباء لم يستطيعوا مجاراة الشارع الحمصي في الأشهر الأولى، خوفًا من أن يجرفهم تيار الثورة ويستبدلهم الناس بآخرين، وعلى سبيل المثال، أعلن مدير أوقاف حمص، أيمن الزهر، صيف 2011 عزل أحد الخطباء بسبب دعمه للثورة علنًا، فتوجهت مظاهرة شعبية باتجاه بيت مدير الأوقاف وأرغمته على إلغاء قراره وإرجاع الخطيب إلى مسجده.
وأصدر علماء ومشايخ حمص بيانًا متقدمًا (أول بيان عن مؤسسة في سوريا)، في 7 نيسان 2011، دعموا فيه الثورة ووضعوا بنودًا وخطوطًا عريضة لأي حل بين الحراك الشعبي وسلطات النظام، وطالب البيان حينها باعتبار المواطنة أساس الحقوق والواجبات وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص، نبذ العنف والطائفية والتمسك بوحدة الأمة، رفع حالة الطوارئ، كف يد الأجهزة الأمنية عن الاحتكاك بالناس وإهانتهم واستفزازهم، فتح الآفاق أمام الإعلام الحرّ والشفاف والمنضبط بإطار القيم، اعتبار التظاهر السلمي حقًا مشروعًا للمواطنين.
إلا أن النظام ضرب به عرض الحائط واكتفى رئيسه بمقابلة بعض رموز المشايخ المعروفين بمعارضته، كالشيخ سهل جنيد وغيره من الدعاة.
عودة القبضة الأمنية
استمرت حالة الانعتاق هذه إلى مطلع 2013 تقريبًا، حين بدأ النظام باستعادة السيطرة على مدينة حمص تدريجيًا، ابتداءً من السيطرة على بابا عمرو والريف الجنوبي ومحاصرته للثوار في الأحياء القديمة والوعر وانتهاء بإجلاء الثوار عن المدينة في ربيع 2014، فعادت قبضة النظام مجددًا لمحاولة التحكم في المؤسسات الدينية وكانت مديرية الاوقاف رأس الحربة في ذلك.
وعُيّن الشيخ عصام المصري، وهو عضو مجلس شعب سابق ويحظى بشعبية لا بأس بها، رئيسًا للمديرية، وهو يلعب اليوم دور الوسط بين الأجهزة الأمنية والخطباء ويملي تعليمات النظام الأمنية على المؤسسة الدينية، لتعود المديرية بشكل تدريجي إلى مهامها السابقة.
خطة دينية جديدة
خطوات جديدة لاحظها الشارع الحمصي في الأشهر الثلاثة الأخيرة، منها تبديل الخطباء بشكل دوري في المساجد إذ يتناوبون في مساجد حمص كلها، ويعزو مراقبون في الشارع الحمصي هذه الخطوة إلى محاولة النظام الحدّ من تشكيل حاضنة شعبية للخطباء وتشتيت الناس.
كما فرضت صيغة جديدة للدعاء لا تتضمن الدعاء لـ “القائد” مباشرة كما كان سابقًا، وإنما الدعاء لـ “شهداء سوريا المدنيين والعسكريين”.
وتختلف الخطة بين مدينة وأخرى حسب حجم تقبل الناس للنظام أو إحكام قبضته الأمنية فيها، ففي مساجد دمشق لوحظت في الفترة الأخيرة تكثيف مجالس “الحضرات” على مدى أيام الأسبوع، إضافة للدعاء لـ “القائد” مباشرة، كحال خطيب المسجد الأموي الذي يدعو لبشار الأسد وبوتين والجيش الروسي، إضافة لبعض “اللطميات” التي أقيمت في المسجد الأموي في الفترة الأخيرة.
الريف الحمصي خارج المعادلة
إلا أن هذا التضييق لا يشمل مناطق الريف الحمصي الواقعة تحت سلطة النظام، ففي جولة لعنب بلدي في مساجد قرى حسياء والحمرات، لم يبدّل الخطباء بين المساجد وكذلك لا توجد خطبة أو دعاء إجباري، وذلك لقرب مناطق الريف من المناطق المحررة وعدم رغبة النظام في استفزاز الأهالي.
لا يهدف نظام الأسد من قوانينه وخطواته إلى تطوير خطاب المؤسسة الدينية، بل يسعى لإبقائها في غيبوبة تطبّل للظلم وتتناسى آلاف الشهداء من أبناء المدينة، وما تزال هذه السياسة ناجحة بمساندة بعض المشايخ الذين يتبنون نظرية النظام للأحداث في المنطقة على اعتبارها “مؤامرة” تهدف للنيل من محور “الممانعة”.