خطيب بدلة
أصيب صديقي أبو عثمان بداء العصر التافه، المسمى “كورونا”. أنا أعرفه جيدًا، رجل شجاع، وصبور، وصادق، لا يحب الضجيج، والهوبرة، والشكوى، وعنده نوع من الحكمة، أو الفلسفة.
لم ينتظر أن يطلب منه أحد الدخول في الحجر، سارع إلى حَجْر نفسه طواعية، واتفق مع ابن أخته على أن يأتيه بما يلزم لطعامه وشرابه وأدويته، يضعه في مدخل الدار، ويرفع حجرًا يجد تحته نقودًا، يأخذها مقابل المشتريات اليومية، وأوصاه أن يُبقي الأمر سرًا، فلا يعرف به أحد في العالمَين الواقعي والافتراضي.
الشخص الوحيد الذي تواصل معه خلال الأيام الأولى من المرض هو كاتب هذه الأسطر. قال لي إنه غير مكترث للأمر، و”أحمض ما عند الكورونا فليصبَّه”. ما هو الأحمض برأيك؟ أن أموت؟ قلت: بعيد الشر. قال: لا بعيد الشر ولا صرمايتك. عمري 73 سنة، إذا نجوت كم سنة سأعيش؟ خمسًا؟ سبعًا؟ يا سيدي، سامحناكم بالسنوات التي سنعيشها وسط الذل والمسخرة. صفنتُ قليلًا، لا أعرف ماذا أقول، ولكنه رفع عني الإحراج إذ بادرني القول إنه سيضع أمانة برقبتي، وهي عبارة عن فكرة، توصلَ إليها بعد طول تفكير، يرجوني أن أنشرها نقلًا عنه إذ توكل (مات)، وأما إذا نجا فسيطبقها على نفسه. قلت له: تحت أمرك، تفضل.
قال: أنا كنت أعيش في حماة، تحت سلطة ابن حافظ الأسد. كانت الأمور قبل الثورة سيئة، نظام دكتاتوري حقير، كلنا نعرفه ومكتوون بناره. ولكن، بعد الثورة، يا حبيب، جماعة الأسد أصيبوا بداء الكَلَب، صاروا يعضون الذاهب والآيب، بمناسبة ودون مناسبة، إذا حكيتَ كلمتين فششت بهما غيظك، يأخذونك إلى بيت خالتك، ويحيلون كلامك إلى مَخبر التحليل، ويستخرجون منه عدة تهم، وأنت تعرف الباقي، وإذا سكتَّ، يهاجمونك ويدينونك لأنك ساكت. أختك أم عثمان اقترحت عليَّ أن ننتقل للعيش في البلدة “سين” التي تتبع لمحافظة إدلب حيث تعيش ابنتنا فداء مع زوجها وأولادها. زعلت منها زعلًا شديدًا، قلت لها: ألا تعرفين أنني لا أحب حكامَ تلك المنطقة الذين تحولوا من مظلومين إلى ظالمين؟ ألحت. بلا طول سيرة ذهبنا. استأجرنا بيتًا صغيرًا وسكنا فيه. وإن شاء الله يا أبو مرداس تذوق الأفراح. ما عدنا نعرف كيف نتنفس. أول فيلم كان من بطولة ثياب أم عثمان. هذا اللباس يا أختاه لا يناسب المرأة المسلمة. ههههه، مَن يسمع يظن أن أم عثمان كانت طالعة بالميني جوب! غضبت. كنت على وشك أن أضب كلاكيشي وأعود إلى حماة، ولكن أم عثمان أسكتتني. قالت لي: أنا سألبس مثلما يريدون. أنت ما دخلك. ثاني فيلم كنت أنا بطله. كيف عرفوا أني تارك الصلاة إذا كنت أمضي جل وقتي في البيت؟ الله وكيلك لم أنجُ من الجَلْد لو لم يشهد اثنان من أصحابي (زورًا) بأنني أصلي.
قلت: وما الوصية؟
قال: إلى كل إنسان يعيش في البلاد الإسلامية، بمجرد ما تجد نفسك بين خيارين، العيش تحت سلطة العسكر أو الإخوان (ومشتقاتهم) ضب كلاكيشك وهاجر إلى آخر الدنيا.