محمد رشدي شربجي
كتبت في مرات سابقة عن ظاهرة “الذئاب المنفردة” التي ينتهجها تنظيم الدولة، خلايا صغيرة العدد لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، تنفذ هجومًا انتحاريًا لا يحتاج إلى تخطيط كبير، بأسلحة فردية رشاشة، لتُدخل بلدًا كاملًا في الفوضى والاضطراب والاستنفار الأمني، حدث ذلك في متحف باردو في تونس، وأول أمس في باريس.
من الصعب فهم الاستراتيجية التي يعمل بها الكيان الغريب المسمى “تنظيم الدولة”، فما هي مصلحته بأن يؤلّب عليه العالم أجمع بهذا الشكل وما هي مصلحته في تنكيد حياة المسلمين أينما كانوا؟ ولكن قراءة في أدبيات التنظيم قد تعطي بعض التفسير، حيث اعتمد في تأسيسه النظري والعملي على كتابات أبي حمزة المهاجر في “فقه الدماء”، وأبي بكر ناجي في كتابه “إدارة التوحش”.
يؤكد أبو بكر ناجي على ما أسماه استراتيجية “الاستقطاب”، ويعرفه بأنه “جر الشعوب إلى المعركة بحيث يحدث بين الناس -كل الناس- استقطاب، فيذهب فريق منهم إلى جانب أهل الحق وفريق إلى جانب أهل الباطل”، وجر الشعوب إلى هذه المعركة بحسب ناجي يتطلب مزيدًا من الأعمال التي تشعل المواجهة والتي تجعل الناس تدخل المعركة “شاءت أم أبت”، بحسب تعبيره.
ربما نستطيع من هذه الزاوية فهم استراتيجية التنظيم، يزداد تشويه المسلمين مع كل عمل إرهابي يقترفه تنظيم الدولة أو القاعدة في أوروبا، فهم يقترفون ما يقترفون “دفاعًا عن الإسلام والمسلمين”، بحسب بياناتهم دائمًا، ويشعر المسلمون لذلك بأنهم مدانون بأفكارهم وعقيدتهم، وتزداد العنصرية -الموجودة أصلًا- ضدهم من قبل المجتمعات الأوروبية، ثم تزداد عزلتهم وقهرهم، وبالنتيجة “استقطابهم” لصالح الجماعات المتطرفة، شاؤوا ذلك أم أبوا.
لا يمكن التعامل مع حادثة الجمعة إلا بمنطق الإدانة المطلقة للمجرمين والتعاطف الكامل مع الضحايا، ولا يوجد أي علاقة طبعًا بين قتل عشرات المدنيين الأبرياء في مسرح فرنسي، وبين ما يسوقه أنصار الدواعش من كلام سخيف ممجوج عن جرائم فرنسا في القرن الماضي ضد الدول الإسلامية قبل قرن من الزمان، فقد يكون من الضحايا أنفسهم مسلمون، أو من أحفاد ضحايا جرائم الاستعمار أنفسهم، ولكن تنظيمًا لا يهتم بكل هذا، يريد أن يدخل المسلمون معه في العدمية، وأن يشوههم وحياتهم حتى لا يجدوا سماءً تظلهم ولا أرضًا تؤويهم إلا أرض البغدادي.
تنظيم الدولة (والسلفية الجهادية التي نشأ منها) مرض سني خاص، لم يأت على المسلمين والبشرية إلا بالكوارث، مع الإدراك طبعًا أن السلفية الجهادية نفسها نشأت عن كوارث، فهي حصيلة الفقر والقهر والعنف والاستبداد وسحق السنة في المشرق العربي، والعالم المختل شديد النفاق، وموروث ديني بال مليء بالمتناقضات والنقائص، ومكتوب في عصر إمبراطوري منته.
المواجهة مع كل هذه الكوارث لم تكن سهلة يومًا، خاصة أنها تأتي في أجواء سلوك طائفي تنتهجه دول المنطقة ضد السنة والإسلام السياسي السني حصرًا، مع حرب عالمية سخيفة على الإرهاب (السني حصرًا مرة أخرى)، لا يوجد ما يخدم تنظيم الدولة أكثر منها، ولكن بالرغم من ذلك فإن هذه المواجهة حتمية، ولا سيما مع الاستبداد بالدرجة الأولى، والموروث الديني بالدرجة الثانية، فأي نص ديني حمّال أوجه، وعنف الاستبداد يرجّح الوجه السيئ دائمًا.
من الصعب معرفة تبعات ما حدث في باريس على صعيد السياسة الدولية تجاه سوريا، هل ستدفع هذه الأحداث المجتمع الدولي لتبني استراتيجية جدية تنحّي الأسد أساس الإرهاب عن السلطة كما ترغب المعارضة؟ أم أنها ستدفع المجتمع الدولي نحو التحالف مع الأسد ضد الإرهاب كما ترغب روسيا وإيران؟ ولكن العالم (بما فيه الدول الداعمة للثورة) أصبح أكثر استعدادًا لمحاربة “الإرهاب”، قبل الأسد كما ظهر في بيان فيينا أمس.
الرصاص المنهمر في العاصمة الفرنسية أصاب صدور المسلمين في أوروبا، وهم الهاربون من جحيم إرهاب الأنظمة وتنظيم الدولة، وما لم يكسب معركة الحرية والإصلاح الديني، فالرحمة لنا قبل ضحايا باريس ومن بعدهم.