حسام المحمود | زينب مصري | جنى العيسى
تتنامى حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي ضمن أوساط اللاجئين السوريين في تركيا، جراء موجات متلاحقة من الخطاب العنصري، لا تكاد تخمد جذوتها في مكان، حتى تتجدد في آخر، متغذية على ما بقي عالقًا من رواسب اجتماعية جراء مشكلات وخطابات سابقة، إلى جانب ضخ إعلامي تحريضي يؤجج حالة العنصرية، دون تقديم ما يخدم السلم المجتمعي.
ومنذ اندلاع الثورة السورية، عام 2011، اتجه نحو أربعة ملايين سوري للجوء في تركيا، مشكّلين في الوقت نفسه مجتمعًا سوريًا مصغرًا، ضمن المجتمع التركي، ما يخلق حالة من العزلة الاجتماعية، والاستغناء الضمني، باعتبار أن العلاقات الاجتماعية في هذه الحالة غير قائمة على تأثير متبادل.
قابلت عنب بلدي في هذا الملف مجموعة من الصحفيين والعاملين بقضايا اللاجئين السوريين في تركيا، لبحث العوامل التي مهّدت لخلق هوّة بين المجتمع السوري اللاجئ، والمجتمع التركي.
وسلّطت الضوء على دور وسائل الإعلام في تصعيد الحالة العنصرية، كما بحثت سبل التوصل إلى حلول تفضي إلى ردم الهوّة المجتمعية بين مكوّنين اجتماعيين يعيشان بشكل متوازٍ ضمن بلد واحد.
السوريون في تركيا.. ما أسباب العزلة
يمكن إرجاع أسباب الفجوة بين المجتمعين السوري والتركي إلى أمرين: أولهما خطاب الكراهية والعنصرية الذي صدر من بعض الشخصيات السياسية، وهو الخطاب الذي يجد طريقًا سهلًا إلى وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، والثاني غياب سلطة القانون التي تمثلها الحكومة التركية، بحسب ما قاله الناشط في مجال حقوق اللاجئين طه الغازي في حديث إلى عنب بلدي.
هذان الأمران ولّدا خلال السنوات السابقة حالة مجتمعية سبّبت انغلاق السوريين كمجتمع لاجئ على أنفسهم، ما أدى إلى انعزالهم، وصعوبة تأقلمهم واندماجهم مع المجتمع التركي، إضافة إلى مجموعة من العوامل، أبرزها:
اللغة
وأضاف الغازي أن عامل اللغة أبعد السوريين عن الأتراك، فعدد كبير منهم ما زال غير ملمّ باللغة التركية، باعتبار أن الحالة المادية أو الواقع المعيشي يكون دائمًا عائقًا أساسيًا أمام تعلمهم أو تفرغهم للتعلم.
معلومات منقوصة عن السوريين
وبحسب الناشط، فإن الثقافة غير المكتملة عن اللاجئين السوريين تسهم أيضًا في اتساع هذه الفجوة، فالشارع التركي لا يدرك المجتمع السوري وثقافته، وبعض من فئات المجتمع التركي تتعامل بطريقة تعالٍ مع السوريين في بعض مناحي الحياة الاجتماعية والصحية والتعليمية.
التدهور الاقتصادي
ولا يمكن إرجاع التفرقة الموجودة بين المجتمع التركي والسوريين في تركيا إلى سبب واحد، برأي الباحث الاجتماعي في جامعة “ماردين أرتوكلو” الحكومية مهميت أوز، ولكن التدهور الاقتصادي يجعلها أكثر وضوحًا، كما تتسبب الخطابات السياسية المعارضة وصداها على وسائل التواصل الاجتماعي في تعميق التفرقة.
إحجام الأتراك عن الاندماج
وفي حديث إلى عنب بلدي، قال الباحث مهميت أوز، إن دراساته الميدانية تُظهر قابلية السوريين للتكيّف مع المجتمع التركي، لكن من غير الممكن توقّع قبول تركي بتكيّف مقابل، إذ يفضّل جزء كبير من الأتراك عودة السوريين إلى بلدهم.
وأضاف أن الانسجام أو الاندماج بين السوريين والأتراك ليس أمرًا أحادي البعد، فبصرف النظر عن الخطوات المتخذة لاندماج السوريين، يحتاج الأتراك أيضًا إلى الاستعداد لهذا الاندماج، ولذلك يجب تنفيذ برامج مختلفة ليقبل الأتراك بذلك.
ومن الضروري للشعب التركي عدم تحميل السوريين مسؤولية ارتفاع أسعار المنازل والمواد الغذائية، وفق أوز، إلى جانب منع انتشار المعلومات والادعاءات الكاذبة عنهم، بالإضافة إلى توعية العامة بشكل جدي في مسألة وجودهم.
الخطاب السياسي
من جهتها، ترى الباحثة التركية في علم الاجتماع بجامعة “كاليفورنيا” في الولايات المتحدة الأمريكية نهال كيالي أن كثيرًا من التوتر بين الأتراك والسوريين مدفوع بالخطاب السياسي المحلي في تركيا، حيث يُستخدم السوريون كورقة مساومة سياسية.
ويتعارض هذا الوضع السياسي مع الأهمية الأساسية للرؤية الإنسانية المشتركة وأوجه الشبه العديدة بين السوريين والأتراك، بحسب ما قالته الباحثة في حديث إلى عنب بلدي، مشيرة إلى حقيقة أن القومية المنتشرة إلى حد كبير في تركيا هي أيضًا مشكلة.
وكما هي الحال في العديد من البلدان، عندما يتدهور الوضع الاقتصادي في بلد ما، ويواجه المواطنون صعوبات في العثور على وظيفة، يبدأ الناس بلوم المهاجرين واللاجئين، وهذا الوضع يحدث حاليًا في تركيا، وفق كيالي.
غياب استراتيجيات الدمج المجتمعي
ويرى المنسق العام لمركز الهجرة والدراسات الثقافية في مركز “كرك آياك” التركي بولاية غازي عينتاب، كمال فورال تارلان، أن أحد أسباب الفجوة بين المجتمعين السوري والتركي، عدم امتلاك تركيا استراتيجية إدماج مجتمعي جيدة، لأن اللاجئين السوريين والمجتمع التركي المضيف متباينان من الناحية الثقافية.
“الحماية المؤقتة” حاجز
وقال كمال تارلان، في حديث إلى عنب بلدي، إن حالة “الحماية المؤقتة” التي يوجد اللاجئون السوريون بموجبها في تركيا، أحد الأسباب التي تعمّق الفجوة بين المجتمعين.
فبينما يُقال للسوريين، منذ عشر سنوات، إنهم ضيوف ووجودهم في تركيا مؤقت، يُقال للأتراك إن السوريين سيرحلون ولن يبقوا لمدة طويلة.
وهذا الأمر يقلّل من نقاط التماس الطوعية بين المجتمعين، ويؤدي إلى عيشهما مع بعضهما لكن بشكل متوازٍ دون وجود نقاط للتقاطع بينهما.
الشعبان مختلفان
ويرى تارلان أن اعتبار السوريين والأتراك قريبين من بعضهم من الناحية الثقافية خطأ في المشاريع المُنجزة التي تتعلق بإدماج السوريين في المجتمع التركي.
فالأتراك والسوريون متباينون ثقافيًا، ويتحدثون بلغات مختلفة ولديهم عادات مختلفة، إذ كانا يعيشان مع بعضهما تاريخيًا، لكن منذ نحو 100 عام افترقا وظهرت حدود جدية وعميقة بينهما، وفق رأيه.
ولا ضرورة لأن يشبه المجتمعان بعضهما، مقدار الحاجة إلى تعلّمهما كيفية العيش مع بعضهما، وهذا الأمر لا يحصل مع حالة “الحماية المؤقتة” الممنوحة للسوريين من قبل الحكومة التركية، لأنها مبينة على كونها مؤقتة وليست دائمة، وفق تارلان.
مشاريع غير كافية
وأوضح تارلان أن معظم المشاريع التي تقوم بها منظمات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية والمؤسسات الحكومية في تركيا غير مجدية، لأنها لا تمتلك استراتيجية دمج اجتماعية، وغير مفيدة في مسألة تقريب المجتمعين السوري والتركي من بعضهما.
كما أن معظم المشاريع الموجهة للسوريين، هي عبارة عن برامج تدور في إطار “الحماية المؤقتة” وتتمحور حول المساعدة فقط، وتظهر السوريين بشكل دائم على أنهم ضحايا وأصحاب حاجة، وبعض منها فقط يتمحور حول الدمج والمواءمة الاجتماعية، إلى جانب انعدام مفعولها.
كما لفت إلى أن بعض المؤسسات فقط تعمل بوعي وفق برامج تتمحور حول مشاريع الدمج والتكامل الاجتماعي، بينما تستهدف بقية المؤسسات السوريين فقط دون الأتراك، وهذا أمر “خطير” لأنه يسحب السوريين إلى الخلف ويجعلهم يكتفون بذاتهم، بحسب تعبيره.
صحفي سوري: الإعلام السوري مقصر
صحفي تركي: الكرة في ملعب السوريين
تسهم وسائل الإعلام الموجهة لجمهور معيّن بتوجيه رأيه العام، فتعمل عبر محتواها على تعزيز أفكاره وتوجهاته في مختلف المجالات، أو توعيته لمعرفة الحقائق التي قد لا يدركها في ظل عدم اطلاعه على مختلف الآراء في قضية ما.
وفي تركيا، تعمل بعض وسائل الإعلام التركية المعارضة بانحياز واضح توجهه العوامل والقضايا السياسية في البلاد، ما أدى إلى تعزيز خطاب الكراهية والعنصرية ضد اللاجئين السوريين في تركيا منذ سنوات عدة.
وقد يكون انحياز وسائل الإعلام التركية في القضايا التي تخص السوريين، أحد أهم أسباب تعزيز الفجوة بين المجتمعين السوري والتركي في تركيا، في ظل ابتعاد وسائل الإعلام السورية عن دورها في ردم هذه الفجوة عبر تسليطها الضوء على زوايا إيجابية موجودة لدى السوريين، قادرة على التأثير في وجهة نظر بعض الأتراك تجاههم.
وفي تقرير لمنصة “جميعنا لاجئون” (Hepimiz Göçmeniz) المناهضة للعنصرية تجاه اللاجئين في تركيا، أشار إلى “التمييز” الذي تمارسه بعض وسائل الإعلام التركية ضد السوريين.
وشرح التقرير سلوك تلك الوسائل بعنونة خبر عام يتضمّن مواضيع مختلفة بـ”الداخلية التركية توضح أعداد السوريين في تركيا”.
وأضاف التقرير أن الخبر ذاته تبدأ مقدمته بإعلان وزارة الداخلية فعلًا عن عدد السوريين، ليشرح في الفقرة التي تليها قضية “الإرهاب”، وتفاصيل حول انتشار فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19) في البلاد.
واعتبرت منصة “جميعنا لاجئون” أن محتوى الخبر السابق سيعطي صورة عن “أهم المشكلات التي يريد المجتمع التركي التخلص منها، وفي مقدمتها اللاجئون السوريون”.
تغطيات تفرضها الظروف السياسية
الكاتب والصحفي التركي جلال ديمير، اعتبر الفجوة بين المجتمعين السوري والتركي على الأراضي التركية موجودة لأسباب كثيرة، موضحًا أن ما تعرضه وسائل الإعلام هو “انعكاس لتفكير الناس في الواقع، فهم من يغذي المواد الإعلامية”، على حد قوله.
وأرجع ديمير، في حديث إلى عنب بلدي، سبب المبالغة في نقل بعض وسائل الإعلام التركية لأشخاص أتراك تظهر في خطابهم عنصرية مقصودة ضد السوريين إلى “المبالغة من أجل جذب الناس مع القليل من البهارات”.
وأشار ديمير إلى أن لكل من وسائل الإعلام التركية سواء الموالية للحزب الحاكم أو المعارضة له منبرًا تتوجه عبره لجمهورها، مؤكدًا أن تغطياتها الإخبارية وبرامجها تنطلق من أفكار القائمين عليها.
وأضاف الصحفي جلال ديمير أن مختلف وسائل الإعلام التركية أو السورية لا يتشابه محتواها أو أفكارها أو حتى جمهورها، لافتًا إلى أن معظم تغطياتها تفرضه الظروف والسياسات التابعة لها “مهما حاول القائمون على هذه الوسائل اتباع الحيادية”.
ووثق “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” الدوافع التي أدت إلى تصاعد خطاب الكراهية من قبل الأتراك تجاه اللاجئين السوريين.
وأصدر المركز تقريرًا، في 29 من كانون الأول 2020، يتحدث فيه عن تباين المرحلة الأولى التي جاء فيها اللاجئون السوريون إلى تركيا في بداية موجات النزوح مع المرحلة التي تلتها.
وعزا التقرير عدم استمرار الترحيب الشعبي والحكومي التركي باللاجئين السوريين، كما كان في بداية موجات النزوح، إلى الوضع الاقتصادي والاختلافات الثقافية الاجتماعية، والمنافسة على سوق العمل، خاصة لذوي المستوى المعيشي المنخفض، وهي نتيجة طبيعية قد تحصل في أي مكان تجاه اللاجئين في العالم.
كما وصلت نسبة الرفض التركي للاجئين السوريين إلى 67% عام 2019، بعدما كانت نحو 57% عام 2016، بحسب استطلاع أجراه مركز الدراسات التركي في جامعة “قادر هاس“.
“الكرة بملعب السوريين”
وحول عدم قيام العديد من وسائل الإعلام التركية بالعمل على مشاريع إعلامية توجهها للمواطنين الأتراك، توضح حقيقة أسباب وجود السوريين في تركيا، وعدم تعميم أنهم يتلقون المساعدات من الدولة، أو لفت الانتباه إلى مشاركة العديد من أصحاب الأموال من السوريين في دعم الاقتصاد التركي، قال الكاتب والصحفي التركي جلال ديمير، إن “الكرة هنا في ملعب السوريين”.
وأضاف ديمير أن هذا يجب أن يكون إحدى أولويات وسائل الإعلام السورية الموجودة في تركيا، موضحًا أن بلاده لم تمنع إقامة منصات سورية إعلامية على أراضيها.
واعتبر أن تلك الوسائل “يجب عليها تحسين جودة محتواها لجذب الأتراك”، فمن الممكن أن تكون نقطة تواصل بين السوريين والأتراك، وفقًا لحديث الصحفي التركي جلال ديمير.
ويرى ديمير أن وجود صحفيين ناطقين باللغة التركية ربما يسهم في إيصال صورة جيدة عن السوريين للشعب التركي، وانتقاء مواضيع يوجهها لهم قد تجذب اهتمامهم لمعرفة المزيد من التفاصيل، التي قد لا يرونها في حال لم تنقلها الوسائل السورية.
الصحفي السوري نضال معلوف، أكد تقصير وسائل الإعلام السورية الموجودة في تركيا في لعب دورها المهم بمساعدة اللاجئين السوريين على الاندماج مع الأتراك، وتوجيه خطابها للشارع التركي بمواضيع قد تعزز الاندماج بين المجتمعين.
وأرجع معلوف، في حديث إلى عنب بلدي، أسباب هذا التقصير إلى غياب التمويل كعامل أساسي من جهة، وإلى غياب المؤسسة الحقيقية بسبب غياب الدولة من جهة أخرى.
وأوضح معلوف أن الدور الحقيقي المؤثر لحل مشكلات السوريين يحتاج إلى دولة تخلق مؤسسات صحفية محترفة، وصحفيين يمتلكون القدرة على إنجاز المواد النوعية التي تحتاج إلى خبرة وتدريب كبيرين، مشيرًا إلى النقص الواضح لدى المؤسسات الإعلامية الحالية في ذلك، على حد قوله.
ولفت الصحفي نضال معلوف إلى أن غياب التمويل يشكّل العامل الأساسي بعدم توجه وسائل الإعلام السورية للمجتمع التركي.
“التوعية أولًا”
يرى الصحفي السوري نضال معلوف، أن دور وسائل الإعلام السورية الأساسي يتمثل بقيامها بدور أفضل قد يساعد السوريين على الاندماج مع الشعب التركي.
وأضاف معلوف أن التوجه نحو السوريين اليوم بتوعيتهم وتعريفهم بعادات وضوابط المجتمع التركي، بالإضافة إلى القوانين الأساسية التي يجب عليهم اتباعها، قد يقيهم من التعرض للإزعاج أو المخالفات، التي قد تنعكس بسبب شخص على جالية بأكملها.
وكخطوة يراها معلوف تلي الخطوة السابقة، يجب على وسائل الإعلام “في حال امتلاكها القدرات المادية وغيرها”، أن تكون على احتكاك بمؤسسات صحفية تركية لإنتاج خطاب باتجاه مغاير لما تنتجه وسائل الإعلام التي تحرض على العنصرية.
وإنتاج الخطاب الموجه للشعب التركي يحتاج إلى دراسة وفق أولويات تساعدهم على تقبل وجود السوريين، وتمكّنهم من رؤية شخصيات سورية مقنعة على شاشات القنوات التركية تنقل لهم الخطاب “بتوازن”.
مبادرات فردية تحاول ردم الفجوة
يحاول العديد من السوريين المقيمين في تركيا، كل بحسب استطاعته وموقعه، العمل على توضيح الصورة التي قد تدعم فكرة الاندماج ككل، إحساسًا منهم بالمسؤولية في دورهم الذي ربما يؤثر في تغيير وجهة نظر بعض الأتراك المعادية للسوريين.
خالد عبدو طالب صحافة في جامعة تركية، ينقل يوميًا عبر صفحاته الرسمية في وسائل التواصل الاجتماعي العديد من عناوين الأخبار والتعليقات السياسية بلغة تركية موجهة لمتابعيه من المواطنين الأتراك والسوريين.
ويرى خالد عبدو، في حديث إلى عنب بلدي، أن وجود مبادرة جماعية من قبل وسائل الإعلام السورية لردم الفجوة بين الأتراك والسوريين “أمر ضروري جدًا”، في ظل وجود مبالغات تمس حياة السوريين في صفحات التواصل التركية.
ويعتقد خالد أن التأثير اليوم، ومحاولة العمل على إعادة الاندماج بين السوريين والأتراك، قد لا يحقق النفع المطلوب كما لو كان بدأ قبل سنوات عديدة.
وتحتاج المبادرات الجماعية على مستوى مؤسسة إعلامية، بحسب ما أوضحه خالد عبدو، إلى عدد من الصحفيين الأتراك لرصد القضايا “المخطئة” التي يتداولها الشارع التركي، والبحث في تفاصيلها، لتوضيح حقيقتها بعد ذلك، واصفًا ذلك “بالأمر السهل نوعًا ما على مؤسسة إعلامية”.
“تصورات ضد اللاجئين السوريين”
وفي حزيران الماضي، أجرت “مؤسسة البحوث الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في تركيا” دراسة بعنوان “تصورات ومواقف ضد اللاجئين السوريين في اسطنبول”، بهدف تحسين العلاقات الاجتماعية بين الأتراك والسوريين.
وأظهرت الدراسة في استطلاع للرأي أجرته على ألفين و284 شخصًا تركيًا ممن يقيمون في ولاية اسطنبول، أن أغلب المواطنين الأتراك المشاركين في الاستطلاع يعتبرون أن السوريين “عبء اقتصادي”، وأنهم يحصلون على معاملة تفضيلية مقارنة بالمواطنين الأتراك.
كما يعتقد أغلب المشاركين أن السوريين لا يدفعون الضرائب، ويستفيدون من خدمات الكهرباء والماء بشكل مجاني، ويحصلون على رواتب من الدولة.
ووفقًا للدراسة، فالمواطنون الأتراك المقيمون في ولاية اسطنبول، لديهم “احتكاك اجتماعي محدود” مع اللاجئين، وأغلبيتهم لا يرغبون في بناء علاقات اجتماعية معهم، رغم وجود السوريين الكبير في الولاية.
وأوضحت الدراسة أن أكثر من يرفضون إقامة علاقات اجتماعية مع السوريين هم من أنصار حزب “الشعب الجمهوري” وحزب “الجيد” المعارضين لحزب “العدالة والتنمية” الحاكم في البلاد.
كيف نردم الفجوة بين المجتمعين
ردم الفجوة بين المجتمعين اللاجئ والمضيف لا يقع على عاتق السوريين لوحدهم، وإنما يتحمّل جانب كبير من المجتمع التركي ذلك أيضًا، بحسب الناشط في مجال حقوق الإنسان طه الغازي.
وقال الغازي، إن برامج الدمج المجتمعي التي أطلقتها رئاسة الهجرة التركية ما زالت قاصرة، إذ تستهدف فقط اللاجئين السوريين دون أن تتوجه إلى المجتمع التركي.
وتساءل الغازي كيف سيندمج السوريون مع فئات من المجتمع التركي لا تتقبل وجودهم، محمّلًا المسؤولية لرئاسة الهجرة ووزارة الداخلية، ومشيرًا في الوقت نفسه للحاجة إلى طرح مشاريع دمج مجتمعي تلامس محوري الدمج (المجتمع السوري اللاجئ والمجتمع التركي).
ويمكن أن يكون التقارب من خلال عقد ندوات ومشاريع مشتركة، سواء أكانت هذه المشاريع على مستوى الأحياء أو المناطق أو الولايات بكل مساراتها، لتقريب وجهات النظر، بحسب الناشط طه الغازي.
تحركات موجودة
ويعمل الغازي مع مجموعة من الناشطين السوريين على تقريب وجهات النظر السورية- التركية، والحد من خطاب الكراهية المتصاعد ضد اللاجئين السوريين عبر مجموعة لقاءات مع شخصيات سياسية تركية.
وانطلقت فكرة الاجتماعات مع المسؤولين الأتراك قبل نحو سنتين، خلال مؤتمر عُقد بجامعة “ميديبول” في اسطنبول دُعيت إليه كل المنظمات الحقوقية التركية ومنظمات المجتمع المدني وجانب من منظمات المجتمع المدني السوري، وشُكّلت خلاله لجنة مركزية لتجمع اسمه “Sığınmacılar Hakları Platformu”.
وخرجت الأطراف المجتمعة بنهاية المؤتمر في 10 من أيلول 2020، بوثيقة تدعو إلى ضرورة انفتاح المجتمع السوري اللاجئ عبر تشكيلات ومجموعات وهيئات على كل أطياف المجتمع التركي سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا.
لكن فكرة الاجتماعات توقفت خلال فترة تفشي جائحة “كورونا”، وفقًا للغازي، ليُعاد تفعليها منذ مدة، خلال الاجتماع بمجموعة من الأحزاب السياسية التركية والهيئات الحقوقية ولقاء عدة شخصيات، أبرزها زعيم المعارضة التركية ورئيس حزب “الشعب الجمهوري” (CHP)، كمال كلتشدار أوغلو.
وأوضح الغازي أن الجانب السوري أكد ضرورة وجود ميثاق تتعهد فيه جميع الأحزاب التركية بتحييد ملف اللاجئين السوريين عن أي صراعات أو نزاعات داخلية سياسية، وعدم استخدامهم كورقة انتخابية.
ويرى أن هذه الاجتماعات من الممكن أن تخفض من العنصرية وخطاب الكراهية، لأن انغلاق السوريين على أنفسهم و”تقوقعهم في الزاوية” ليس أمرًا سليمًا، ولا بد أن يكون للسوريين المجنسين وجود ودور مؤثر من خلال تواصلهم مع الأحزاب.
تعزيز مشاريع الاندماج
وتنظر الباحثة التركية في علم الاجتماع بجامعة “كاليفورنيا” في الولايات المتحدة الأمريكية نهال كيالي، بإيجابية لتنظيم المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني مشاريع لكل من الأتراك والسوريين لتسهيل الاندماج، رغم أن أغلبية الناس لا يشاركون في هذه المشاريع والأنشطة.
ولذلك، فإن المؤسسات الأكثر فعالية في مسألة الاندماج هي المؤسسات الموجودة مسبقًا والتي تجمع السوريين والأتراك، كالمدارس، وأماكن العمل، والتي يجب أن يتم العمل من خلالها بشكل دائم على تعزيز الاحترام المتبادل والاعتراف بكرامة الإنسان، لكي تكون فعّالة.
فيجب تدريب المعلمين مثلًا على كيفية تنمية هذا الاحترام المتبادل بين الطلاب، ويمكن للمنظمات غير الحكومية المساعدة في تنفيذ مثل هذه البرامج، وفق كيالي، التي تأمل أن تساعد المدارس في التغلب على التوترات مع نمو الأجيال الشابة معًا.
وقالت كيالي، إن هناك كثيرًا من الأمور المشتركة والمتشابهة بين الشعبين التركي والسوري، لكنه من غير المجدي التفكير في هذين الشعبين كمجموعتين متجانستين أو متناقضتين.
كما أنه ليس من المفيد حصر الملايين من الأشخاص المختلفين من كلا البلدين، والذين يملكون مختلف المهارات والدرجات العلمية واللغات والممارسات الدينية المختلفة في قوالب نمطية بسيطة، إذ يجب أن يكون الطرفان قادرَين على قبول إنسانية مشتركة مع احترام الاختلافات أيضًا، بحسب تعبيرها.
إيجاد استراتيجيات فعّالة
دمج السوريين في المجتمع التركي مفهوم إشكالي، بحسب المنسق العام لمركز الهجرة والدراسات الثقافية في مركز “كرك آياك” التركي، كمال فورال تارلان، ويعني أن تندمج المجموعات الصغيرة بالمجتمعات الأكبر.
وهذا سبب في فشل سياسات الإدماج العالمية، لذلك هناك حاجة إلى استراتيجية دمج اجتماعي تعتمد على ما يغيره الجدد (السوريون) وما يغيره القدماء (الأتراك) وما سيتعلمونه من العيش المشترك، بحسب ما قاله.
كما يجب أن تشمل الاستراتيجية تحسين الظروف المعيشية للسوريين، ومنحهم أذون عمل وتأمين مستقبل يستطيعون أن يحلموا فيه، وحصولهم على الحقوق المتاحة لجميع الناس في تركيا، وتأمين وصول جميع الأطفال إلى التعليم بشكل سريع.
الاستفادة من التجارب العالمية
وأضاف تارلان انطلاقًا من التجربة في مركز “كرك آياك”، أنه يجب النظر إلى جوانب القصور في التجارب العالمية حيال مسألة ردم الفجوة بين المجتمعين السوري والتركي، كالتجارب في ألمانيا وكندا التي تعتمد على مشاريع متعددة الثقافات تتمحور حول العيش المشترك.
وشدّد على ضرورة العمل على نقاط التماس المشتركة بين الشعبين لكونهم يعيشون مع بعضهم بشكل موازٍ، ووصلوا إلى نقطة لا يحتاجون فيها إلى بعضهم مع شروط الحياة المتسارعة وانتشار التكنولوجيا المتطورة.
نفسيًا.. جهود الحل تفوق التسبب بالمشكلة
تترك الأحداث والمواقف العنصرية تأثيرها على ضحية أو موضوع الحدث العنصري بطريقة لا يمكن التنبؤ بحجمها.
هذا الموقف الذي قد يحدث بين شخصين، أو شخص ومجموعة، يمكن أن يُترجم على الأرض بحالة انفجار أو غضب مبالغ به، بسبب تأثره بالعديد من العوامل، كمواقف عنصرية سابقة قوبلت بالتجاهل، أو الضخ الإعلامي الموجّه والمركّز والذي يصب في اتجاه واحد لنقل وجهة نظر معيّنة، دون تقديم ما يقابلها، أو الرد عليها.
جودي المصري، طالبة تتحضر للدراسة في إحدى الجامعات التركية، تحدثت إلى عنب بلدي حول قلقها كلاجئة سورية مقيمة في تركيا منذ سنوات عدة، من تصاعد صوت العنصرية ضد اللاجئين السوريين.
وأعربت الشابة (19 عامًا) عن مخاوفها من تعامل المعارضة التركية مع قضية وجود السوريين في تركيا كجزء من مشروعهم قبل أي انتخابات.
وقالت جودي، إنها تخشى أن تكون مجبرة بيوم وليلة على الانتقال إلى بلد جديد، والعودة للبدء من الصفر مجددًا، مشددة على أنها لا تحمل أي مخاوف أو مشاعر نفور تجاه المجتمع التركي، إلى جانب رغبتها بإظهار صورة إيجابية عن المجتمع السوري اللاجئ، قد لا يراها الجميع.
أما حسام الحوراني (30 عامًا) فلفت إلى وجود حالة عدم استجابة يواجهها أحيانًا عند التعامل مع موظفي الدوائر الرسمية في تركيا، رغم حصوله على الجنسية التركية.
وأكد الشاب حسام، الموظف في شركة استثمارات تركية، أن عدم إتقان اللغة التركية كما يتحدث بها أبناء البلد يخلق نوعًا من الفجوة في التواصل بين الطرفين، قد تصل إلى درجة عدم التجاوب، أو عرقلة المعاملة، في حال كان المراجع لا يتحدث التركية بطلاقة، فالجنسية في هذه الحالة لن تقيه فخ التمييز.
وعن الأحاسيس والمشاعر التي تنتاب اللاجئ السوري عند سيره في الطرقات والشوارع التركية، أكد حسام أن شعور الأمان والراحة يطغى على أي مخاوف أخرى حين يكون الشخص ملتزمًا بالقوانين والضوابط الاجتماعية.
وأشار الشاب إلى عدم الرغبة بالاحتكاك بالمواطنين الأتراك ما لم تستدعِ الضرورة ذلك، مخافة الوقوع ضحية لموقف عنصري محرج قد يثير الحساسية، في حال كان الطرف الآخر يحمل أفكارًا عنصرية تجاة اللاجئين السوريين.
حسام لفت أيضًا إلى قلق اللاجئ السوري في تركيا، حتى في حال امتلاكه الجنسية الاستثنائية، من خطابات المعارضة التركية التي تتوعد السوريين بالترحيل من وقت لآخر، لعدم وجود ملجأ أو جهة بديلة يقصدها السوريون، وفق رأيه.
ولفت حسام إلى دور اللغة كأسلوب فعال لمحاربة العنصرية، فامتلاك اللغة يعني القدرة على مناقشة الأفكار والمواضيع بأسلوب حضاري، دون تأجيج لأي موقف أو تحميله أكبر من حجمه، مشيرًا إلى أن التجاهل في بعض المواقف قد يوفر على الشخص الوقوع بمشكلات يصعب التنبؤ بحجمها وأبعادها.
وحول الأفكار والآثار النفسية التي تلقي بظلالها على حياة ضحايا المواقف العنصرية، يميز الدكتور في علم النفس التربوي عامر الغضبان، بين نوعين من السلوكيات، أحدهما مرتبط بالتقبل، والثقة، والإيجابية في التعامل، وغياب الاحتكاك.
والحالة الثانية تتجلى بغياب الثقة، وبروز سلوكيات عنصرية ظاهرة تفضي إلى استجابة سيئة تطفو على السطح حين يكون الأفراد متوترين، وبالتالي فمجرد وجود شخص من مجموعة مختلفة يغيّر الجو العام للمجموعة.
وأوضح الغضبان، في حديث إلى عنب بلدي، أن الانتقال من حالة التقبل إلى عدم التقبل أو العنصرية، يحصل بوتيرة سريعة أحيانًا، لا سيما عند ارتباطها بحالة ضخ إعلامي وتكوين رأي عام مضاد لمجموعة معيّنة.
ولا يعني التعرض لهذا الضخ أو الرأي العام قبوله بالضرورة لدى الجمهور، لكن حصول موقف يؤيد فكرة العنصرية وشيطنة الآخر، قد يدفع الشخص لتبني الأحكام التي كان يرفضها حيال العنصرية، وهو ما يحدث مع عامة الناس، وفق الغضبان، الذي يلفت إلى سرعة الانتقال بين حالتي التقبل وعدم التقبل، جراء ردود فعل قد لا تأتي من اتجاه عنصري كامل.
فربما لا يكون الشخص عنصريًا، لكنه يكرر خطابًا عنصريًا سمعه، ما يعني أن التصرفات والخطابات العنصرية قد لا تعبر عن عنصرية حقيقية، وبالتالي من الضروري مراعاة ذلك عند تحديد الاستجابة.
وشدد الغضبان على أن أهم آثار الحالة العنصرية هي حالة الانقلاب النفسي، فقد يفاجَأ الشخص بتغيّر أسلوب التعامل بين فردين ينتمي كل منهما لجماعة مختلفة، بناء على توجيهات من الإعلام أو الأسرة، أو المجتمع، ما يعني زعزعة الإحساس بالأمان، إلى جانب آثار أخرى كالتنمر والإساءة والضغوط المتواصلة التي تترك آثارًا نفسية على الأفراد.
وبسبب العنصرية قد يصل الشخص إلى اضطرابات قلق، تقوده إلى اضطراب أو مرض نفسي، وشعور بعدم الأمان والرغبة بالانعزال، فتخفف الأسرة علاقاتها لحماية أفرادها، وقد تتخذ قرارات في هذا السياق، كتغيير مكان العمل أو الإقامة أو مدارس الأطفال أو تحركات الانعزال المعرقلة للاندماج، الذي يقوم بالضرورة على أسلوب التعامل والتصرفات، وليس تذويب الثقافة والانصهار في بوتقة الآخر.
وما يعزز الاندماج، برأي الغضبان، اللغة وفهم البلاد وطبيعة المنطقة، وتعزيز التجارب بما يصب في خدمة زيادة مهارات الاندماج لدى الفرد.
وحول أساليب ردم الهوّة بين المجتمع السوري اللاجئ، أو “الضيف” بوصف الحكومة التركية، والمجتمع التركي، يرى الغضبان أن السعي للتقبل وتوجيه الخطاب نحو هذا الغرض، وتحقيق حالة توازن بين التعبير عن النفس وعدم قمعها ضمن التجمعات، يسهم في تحقيق هذا الغرض.
كما شدد على دور ومسؤولية الوجهاء والقيادات التقليدية ومؤسسات الإعلام، عن تقديم جهود ضرورية لحماية المجتمع والوضع الاجتماعي القائم من الشعور بتهديد عنصري قد يطيح باستقرار منطقة وربما دولة بأسرها.
وإذا كان تركيز خطاب إعلامي واحد على حالة سلبية واحدة كفيلًا بخلق مناخ عنصري، فإزالة تلك الآثار ستتطلب جهدًا أكبر، وضمن أكثر من خطاب للتخلص من الحالة كلل.