خلال تاريخ سوريا شهدت السياسة عدة محاكمات شغلت الرأي العام، بسبب القضايا التي تتعلق بتلك المحاكمات، مثل الجرائم التي تتعلق بحرية الرأي والتعبير، وتشمل محاكمة الصحافة والمختصين فيها، وقضايا الخيانة العظمى، والقضايا التي تتعلق بالتآمر على سلامة الدولة.
يوثق الباحث السوري هاشم عثمان في كتابه “المحاكمات السياسية في سوريا”، الصادر عام 2004، محاكمات نُشرت في الصحف والمجلات وقائعها الكاملة، من بدايتها إلى نهايتها مع الأحكام التي صدرت بحق المتهمين.
وفي المقابل، تحدثت صفحات الكتاب عن “تعتيم على بعض المحاكمات، فلم تنشر الصحف غير الأحكام التي أصدرتها المحاكم. أما وقائعها فظلت مجهولة لم يطّلع عليها أحد”.
يستعرض الكتاب (394 صفحة) أبرز المحاكمات السياسية السورية التي جرت منذ زمن الانتداب الفرنسي حتى زمن “ربيع دمشق” الذي بدأ عام 2001، بانتشار المنتديات الثقافية والسياسية التي أشرف عليها سياسيون سوريون معارضون للسلطة.
وتعتبر محاكمة الزعيم الوطني إبراهيم هنانو أشهر المحاكمات السياسية في تاريخ سوريا الحديث، كون المطلوب محاكمته ليس شخصًا عاديًا، وإنما هو رمز وطني، إذ يوثق الكتاب بشكل تفصيلي التجربة التي خاضتها “ثورة هنانو” ضد الفرنسيين ضمن 121 معركة في شمالي سوريا، وكان مرسومًا لها النصر بجميع تلك المعارك، إلا أن معاهدة “أنقرة” التي وقعتها فرنسا مع تركيا عام 1921 كان لها الدور الأساسي في انطفاء الثورة، وذلك لأنها قطعت عن الثوار طريق الإمداد بالذخيرة والعتاد.
وفي ظل هذه المعطيات، قرر هنانو، في 12 من تموز عام 1921، أن يغادر المنطقة بصحبة 55 جنديًا باتجاه مدينة السلمية في ريف حماة، ثم غادر، في 10 من آب، إلى الأردن لزيارة القدس، وهناك كان الفرنسيون عقدوا مع القائد الإنجليزي في فلسطين اتفاقية لـ”تبادل المجرمين”، وكان هدفها اعتقال هنانو، وهذا ما حصل في 13 من آب 1921، أمام فندق “القدس” محل إقامة هنانو.
حين اُعتقل هنانو اختار للدفاع عنه المحامي السوري فتح الله الصقال، وهو أحد أشهر محامي حلب في زمنه.
نتج عن مرافعة الصقال إعلان رئيس المحكمة براءة هنانو، وخرج هنانو من السجن في ظل القضاء الفرنسي، ليواصل نضاله ضد الانتداب الفرنسي حتى وفاته عام 1935 في منطقة كفر تخاريم بمحافظة إدلب.
محاكمة معتقلي الرأي
شهدت قاعة محكمة “أمن الدولة العليا” في دمشق خلال فترة “ربيع دمشق” محاكمات لمعتقلي الرأي، تحدثت عنها الصحف والإذاعات الأجنبية، أبرزها محاكمة رياض الترك، والدكتور عارف دليلة، والنائبين السابقين رياض سيف ومأمون الحمصي، والمحامي عيسى حبيب، والمحامي فاتح جاموس.
وقائع هذه المحاكمات لم تُوثّق، لأنه ممنوع على الصحف نشر أخبارها أو الأحكام التي تصدرها بحق المتهمين، ومن غير المسموح به الاطلاع على ملفات هذه القضايا في محكمة “أمن الدولة”.
لكن وعلى الرغم من ذلك، استطاع الكتاب توثيق بعض الوقائع التي تتعلق بمحاكمة كل من النائب السابق والمعارض رياض سيف والدكتور عارف دليلة من محامي سيف وعائلة دليلة.
ومن ضمن تلك الوقائع، الدفوع التي تقدم بها محامو الدفاع عن رياض سيف، وضبط فرع “الأمن السياسي” المتضمن إفادة الدكتور عارف دليلة، ومحضر استجواب دليلة أمام محكمة “أمن الدولة العليا”، وقرار الاتهام الذي أصدره رئيس النيابة العامة لدى محكمة “أمن الدولة” بحق دليلة.
وتعتبر محاكمة رياض سيف أبرز محاكمات الرأي في سوريا، والتي شغلت الرأي العام السوري لسنوات عدة.
رياض سيف هو أحد أعمدة الصناعة في سوريا، استطاع تأسيس شركة من أكبر شركات صناعة القمصان والألبسة الجاهزة، وهي ماركة “400”، ودفعه نجاحه إلى تأسيس شركة في شمالي فرنسا لبيع الملابس السورية مباشرة للمستهلك الفرنسي.
وفي “مجلس الشعب”، بدأ نشاط سيف السياسي من خلال مداخلاته الكثيرة التي تناول فيها قضايا حساسة لم تجرؤ الأغلبية على التحدث عنها، كونها تمس السلطة مباشرة، منها قانون الاستثمار، والركود الاقتصادي وأسبابه في سوريا.
على إثر تلك المواضيع اُستدعي رياض سيف للتحقيق، في 3 من آذار لعام 2001، دون توقيفه، بحسب الكتاب، ونتيجة لذلك أعلن سيف، في 31 من الشهر نفسه، عن إغلاق منتدى “الحوار الوطني”.
إلا أن ذلك لم يمنع السلطة في سوريا من محاكمته بسبب “عقد عدة منتديات في منزله الكائن في بلدة صحنايا بعد أن دعا إليها بعض الأشخاص الذين كانوا يتناولون قضايا وطنية (…) لتغيير بعض مواد الدستور السوري”، وفق قرار المحكمة، وتم تجريمه وفق المادة “291” من قانون العقوبات، ووضعه في سجن الاعتقال المؤقت مدة خمس سنوات.