العودة إلى “اليرموك” يعطّلها مخطط يأكل 60% من المساحة وموافقات أمنية
عنب بلدي- صالح ملص
تنطلق فكرة بناء “الوطن الآخر” في المنفى ببروز دولة دكتاتورية أُسست على أحلام الناس، أو كي تحفظ هذه الفكرة ذاكرة أوجاعهم، وسط نضالهم لحفظ أرضهم الأصلية التي نزحوا أول مرة خارج حدودها الجغرافية.
“الوطن الآخر” (مخيم اليرموك) يصير مع مرور الزمن “بوصلة العودة”، وميدانًا للحراك السياسي والشعبي، من أجل استعادة ما سُلب في الماضي.
تراكم الأوجاع يخلق تجارب إضافية للنزوح، فيضاف إلى الأحلام المسلوبة “حلم العودة الجديد” إلى ذاك “الوطن الآخر”، وضمان عدم ضياع هويته في يد سلطة دكتاتورية أخرى باستطاعتها أن تُفقد معنى مخيم “اليرموك” دون رادع قانوني عادل.
في أيلول الماضي، سمحت حكومة النظام السوري بدخول أهالي مخيم “اليرموك” للاجئين الفلسطينيين، من سوريين وفلسطينيين، وذلك من خلال إصدار قرار للجهات المعنية من قبل رئيس النظام السوري، بشار الأسد، بتسهيل عودة أهالي المخيم “دون قيد أو شرط”، في حين يعاني فيه المخيم من حالة انعدام الأمن، وتردي الخدمات الأساسية، ومخاوف من ضياع الملكيات العقارية.
وقبل إصدار ذلك القرار، شهد مخيم “اليرموك” عودة مئات العائلات دون تأمين الاحتياجات اللازمة كي يعيش العائدون حياة كريمة، من حيث البنية التحتية والماء والكهرباء والصرف الصحي، مع اشتراط تقديم أي عائلة تنوي العودة الأوراق التي تثبت ملكيتها للمنزل، ما يشكّل ضغطًا على أصحاب العقارات الذين لا يملكون تلك الوثائق التي تثبت حقوقهم في الملكية أو فقدوها.
الرغبة بالعودة تواجه “موافقة أمنية”
مئات العائلات التي سُمح لها بالعودة إلى مخيم “اليرموك”، هي من لديها بيوت ما زالت صالحة للسكن، أو بيوتها تضررت جزئيًا وأصحابها يقومون بترميمها على حسابهم الشخصي، بحيث تكون جاهزة للسكن بصورة أولية.
والشرط الأساسي لتحقيق العودة إلى المخيم، هو حصول الشخص على “موافقة أمنية” للعودة إلى بيته، وفق ما قاله الحقوقي الفلسطيني أيمن أبو هاشم، في حديث إلى عنب بلدي، وما زالت أعداد تلك العائلات التي حصلت على “الموافقة الأمنية” المطلوبة قليلة جدًا قياسًا بالعدد الكبير لسكان المخيم.
ويتوزع اللاجئون الفلسطينيون في سوريا ضمن تسعة مخيمات رسمية، منذ عام 1948 حتى الآن، يشكّلون جزءًا من المجتمع السوري، إذ بلغ عددهم قبل العام 2011 أكثر من 500 ألف لاجئ فلسطيني، يتمركزون بشكل رئيس في مخيم “اليرموك” جنوبي دمشق، بالإضافة إلى مخيمات ومناطق أخرى.
وعلى عكس ما ورد على لسان الأسد بشأن عدم وجود أي قيود على عودة أهالي المخيم، فإن إجراءات تقييد عودة الأهالي من خلال “الموافقة الأمنية” ما زالت قائمة، ولم يتم رفعها حتى الآن، وفق ما قاله الحقوقي أبو هاشم، بل وجدت بعض العائلات التي عادت إلى بيوتها في المخيم، بأنها “تعرضت لعمليات نهب وتعفيش جديدة، حتى بعد صدور قرار رئيس النظام”.
والحق بالسكن، يعتبر حقًا أساسيًا نصّت عليه مبادئ رد المساكن والممتلكات المعتمدة من قبل “لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان”، المسماة بمبادئ “بينهيرو“.
وعدا عن التضييق الأمني على العودة إلى مخيم “اليرموك”، اعتبر الحقوقي أن صدور المخطط التنظيمي الجديد للمخيم في منتصف العام 2020، الذي ألغى بدوره المخطط التنفيذي لعام 2004، بمثابة “تهديد حقيقي بسلب أملاك العائلات العقارية ونزعها منهم”.
إذ يلاحَظ من خلال المخطط التنظيمي أنه يفرض تغييرًا شاملًا للهوية العقارية والديموغرافية للمخيم، بما تضمنه من تجزئة الوحدة العقارية، وتقسيم المخيم إلى ثلاث مناطق عقارية مختلفة، سكنية، وتجارية، وحدائق وملاعب، ولو نُفذ المخطط بهذا الشكل المرسوم له، فهذا يعني، بحسب الحقوقي أبو هاشم، “استحواذ الشركات العقارية التي ستكلف بالتنفيذ، على أكثر من 60% من بيوت ومساكن المخيم”.
وبلغ عدد الاعتراضات المقدمة من قبل أهالي المخيم ضد المخطط التنظيمي أكثر من عشرة آلاف اعتراض، ما أدى إلى صدور قرار عن محافظة دمشق بـ“التريث في تنفيذه”.
إلا أن “التريث في التنفيذ” ضمن صيغة القرار لا يعني إلغاءه أو التراجع عنه، وفق ما يراه الحقوقي، كذلك فإن القيود التي وضعها القانون رقم “10” لعام 2018 وتعديلاته اللاحقة، على إثبات الملكية في مختلف المناطق السورية، تشمل المخيم، الذي تختلف أشكال الملكية العقارية فيه، وهي بيوت مسجلة في قيود “الهيئة العامة لمؤسسة اللاجئين الفلسطينيين العرب” التي تمثل الجهة الإدارية التابعة للحكومة التي تشرف على المخيمات الفلسطينية في سوريا.
كذلك أملاك مسجلة بوكالات عدلية وبموجب أحكام قضائية، وأخرى من خلال عقود بيع وشراء في الأراضي الزراعية على الشيوع، وأملاك مسجلة في السجل العقاري (الطابو).
هذا التداخل في أشكال الملكية العقارية للمخيم يزيد من الصعوبات والتعقيدات بالنسبة للبيوت والمساكن والمحال التجارية التي تعرضت لتدمير كلي أو جزئي، وفي ظل سياسات حكومة النظام العقارية الهادفة إلى ترسيم التغيير الديموغرافي الذي لم ينجُ منه مخيم “اليرموك”، يمكن فهم حجم المخاوف المشروعة لأهالي المخيم من ضياع وإهدار أملاكهم العقارية.
وقبل عام 2011، كانت اللجنة المحلية لمخيم “اليرموك”، ولديها تبعية مزدوجة ما بين محافظة دمشق و”الهيئة العامة لمؤسسة اللاجئين الفلسطينيين العرب”، هي الجهة الرسمية التي تمتلك نظام التراخيص وضابطة البناء، ولديها المصور العام للمخيم وفق المخطط التنظيمي لعام 2004، بينما كانت قيود الملكية موثقة في سجلات مؤسسة اللاجئين، ولدى كاتب العدل، وفي سجلات الأحكام القضائية وفي السجل العقاري (الطابو).
لكن منذ عام 2018، وبعد استعادة النظام سيطرته على المخيم، تم إلغاء اللجنة المحلية الخاصة بالمخيم، وصار يتبع إداريًا لمكتب الخدمات في محافظة دمشق، بينما يقتصر نشاط الجهات الحقوقية الفلسطينية في السنوات الأخيرة على قضايا الانتهاكات التي تعرّض لها أهالي المخيم مثل الحصار لمدة خمس سنوات، وقضايا الاعتقال التعسفي والتهجير، لكن على صعيد التوثيق وحفظ السجلات العقارية، فهي مهام تحتاج إلى إمكانيات كبيرة لم تتوفر لديها، وفق ما يراه الحقوقي أبو هاشم.
“مؤخرًا، سمعنا عن قرار النظام بإعادة اللجنة المحلية لمخيم اليرموك، دون معرفة طبيعة صلاحياتها في الفترة المقبلة. العديد من الهيئات السورية التي عملت في مجال التوثيق العقاري حصلت على دعم من الجهات الممولة، بينما بقي ملف مخيم اليرموك والمخيمات الفلسطينية الأخرى طيّ التجاهل من قبلها، ويبدو لأسباب سياسية لم تعد خافية على أحد”، وفق ما قاله الحقوقي أيمن أبو هاشم.
مخيم “اليرموك”.. رمز العودة
بُني مخيم “اليرموك” بين عامي 1953 و1954، على مساحة من الأرض تبلغ 2.2 كيلومتر مربع، إلى الجنوب من حي الميدان بمدينة دمشق، على مسافة ثمانية كيلومترات من مركزها، وفق تقرير لـ”مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا”. ويعد مخيم “اليرموك” أكبر تجمع للاجئين الفلسطينيين في سوريا، يعيش فيه أكثر من 200 ألف لاجئ فلسطيني وحوالي 100 ألف مواطن سوري. ينحدر معظم اللاجئين الفلسطينيين في المخيم من قرى أقضية الجليل، وقرى حيفا، وصفد، وطبرية، والناصرة، وعكا، والعديد من مدن وقرى فلسطين. واعترض فلسطينيون في سوريا على المخطط التنظيمي لمخيم “اليرموك”، الذي أصدرته محافظة دمشق في أواخر حزيران 2020، خارج إطار القانون رقم “10”. |
استطلاع رأي
أجرت عنب بلدي استطلاعًا للرأي عبر منصتها في “إنستجرام”، حول رغبة أهالي مخيم “اليرموك” بالعودة إليه في هذه الفترة للمحافظة على الملكيات العقارية.
79% من المصوّتين لا يرون أن هناك احتمالًا لعودتهم إلى المخيم، بينما 21% من المصوّتين يعتقدون أن بإمكانهم العودة إليه.
صعوبات خدمية تحول دون عودة الأهالي
إلى جانب التحديات القانونية والأمنية التي تتعلق بتوفر مناخ للعودة الآمنة والطوعية، ثمة صعوبات خدمية واقتصادية يعاني منها مخيم “اليرموك” تحول دون عودة الأهالي إلى بيوتهم ومساكنهم.
خلال نيسان الماضي، وثّقت “مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا” وجود جثث للاجئين فلسطينيين لا تزال تحت أنقاض المنازل في المخيم، رغم انقضاء ثلاثة أعوام على الحملة العسكرية التي شنتها قوات النظام السوري على المخيم.
أنقاض من منازل مهدمة، جثث تحت الأنقاض، هذه الحالة تختصر وضع المخيم الأمني والخدمي في هذه الفترة، حيث “تركزت الجثث بشكل خاص في شارع اليرموك ومنطقة العروبة، وشارع عطا الزير”، وفق ما قاله مسؤول قسم الإعلام في “مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا”، فايز أبو عبيد، في حديث إلى عنب بلدي.
ولم تتحرك أي من الجهات الرسمية من أجل انتشال الجثث من تحت الركام، حسبما قال أبو عبيد، في حين منع النظام السوري طواقم “الهلال الأحمر الفلسطيني” وأهالي مخيم “اليرموك” من انتشال جثث ضحاياهم العالقة تحت الأنقاض، بحجة عدم معرفة هوية الضحايا وعدم وجود ذويها.
وفي تشرين الأول الحالي، حذرت “مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا” من مخلّفات الحرب غير المنفجرة خلال عمليات ترميم المباني المهدمة وإزالة الردم داخل المخيم.
ولكن لم تسجل إلى الآن أي حالة وفاة في مخيم “اليرموك” نتيجة تلك المخلفات، وفق ما قاله أبو عبيد، إلا أنه وبعد مشاهدة مجموعة من الناشطين قذيفة لم تنفجر في أحد المنازل، تم تحذير أهالي المخيم من مخلفات الحرب غير المنفجرة، وعدم لمس القذائف والقنابل أو أي أجسام غريبة أو مواد مشبوهة، وذلك خوفًا من وقوع الأذى خلال عمليات تنظيف المنازل ورفع الركام.
وفي حال وجود مخلفات الحرب، شدد الناشطون على التواصل مع الجهات المعنية وذوي الاختصاص لإزالتها.
وقالت “وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين” (أونروا)، إن شخصًا واحدًا من كل شخصين تقريبًا في سوريا معرّض لخطر التلوث بالمتفجرات.
وثلث المجتمعات المدنية في سوريا من المحتمل أن تكون ملوثة، وفق تقرير “أونروا”، ما يؤثر أيضًا على اللاجئين الفلسطينيين.
كما أن نسبة الدمار في المخيم “كبيرة تصل إلى 60%، بينها مبانٍ ومنازل آيلة للسقوط، وهنا يكمن الخطر على تلك العائلات التي ستعود إلى بيوتها في المخيم”، وفق ما قاله أبو عبيد.
وبدأت، قبل فترة قصيرة، ورشات العمل تدخل إلى مخيم “اليرموك”، حيث أصلحت بعض مضخات المياه لبعض حارات المخيم، وفق ما أوضحه أبو عبيد، كما تقوم ورشات العمل على رفع الأنقاض والركام من الشوارع والحارات الرئيسة، بعد أن قام الأهالي بتنظيف بيوتهم.
إلا أن أهالي المخيم لا يزالون يعانون صعوبات كبيرة في تأمين الحاجات الأساسية، كمادة الخبز والماء الصالح للشرب والمحروقات للتدفئة أو لصنع الطعام، وفق ما قاله أبو عبيد، حيث لا وجود لمحال تجارية أو مواد مباعة في المخيم، بالإضافة إلى عدم توفر مواصلات لنقلهم من وإلى خارج المخيم لشراء الحاجات الأولية.
كما يشتكي الأهالي من فقدان الرعاية الصحية، والاجتماعية، والخدمية، فلا مستشفيات، ولا مستوصفات، ولا صيدليات، أو كوادر طبية وصحية في المخيم.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :