عادة، يعد قرب المدن الصناعية المُشادة في المناطق الحدودية مع الدول المجاورة ميزة لهذه المناطق تنعكس على شكل حركة تجارية من المنافذ الحدودية، وتنمية اقتصادية وخدمية لها، وفرص وظيفية لأبنائها، بالإضافة إلى أن هذا القرب يُعد ميزة للتصدير والاستيراد، ولتخفيض تكاليف التصنيع والإنتاج.
وفي حالة الشمال السوري، لولا الحدود التركية لاختنقت المنطقة اقتصاديًا، إذ تُعد مجاورة مدن وبلدات الشمال لتركيا “شريان حياة” بالنسبة لها، بغض النظر عن إشادة المدن الصناعية فيها، بحسب الباحث في الاقتصاد الدكتور فراس شعبو.
وتربط الشمال السوري بالأراضي التركية سبعة منافذ حدودية، هي معبر “باب الهوى” في إدلب، ومعابر “غصن الزيتون” و”باب السلامة” و”الراعي” و”جرابلس” في ريف حلب الشمالي، ومعبرا “تل أبيض” شمالي الرقة و”رأس العين” شمالي الحسكة.
وبسطت تركيا نفوذها الاقتصادي مع سيطرتها العسكرية والسياسية في ريف حلب الشمالي والشمالي الغربي منذ 2017، مع سيطرة فصائل المعارضة عليه بدعم منها، نتيجة المتغيرات العسكرية التي شهدها الشمال والتي قسمته إلى منطقتي نفوذ عسكري واقتصادي.
وتدير السلطات التركية اقتصاد المنطقة، عن طريق المجالس المحلية التي أسهمت في إنشائها وتعمل على تمويلها، من خلال تزويدها بالخدمات وتسهيل الاستثمار فيها ودعم التجار والصناعيين، وطرح عملتها الوطنية، ومدّها بمؤسسات مالية.
عنب بلدي أعدت، في شباط الماضي، تحقيقًا بعنوان “تركيا تشكّل اقتصاد الشمال السوري.. لمن تعود المنفعة؟”، سلّطت الضوء فيه على الإسهام الاقتصادي التركي في مناطق الشمال السوري والعوائد الاقتصادية لكلا الجانبين.
وانطلاقًا من توزعها الكبير في تركيا، فإن السلطات لديها فكر بأن وجود المدن الصناعية في الشمال يسهم نوعًا ما في تنشيط الوضع الاقتصادي، لكن إقامتها تحتاج إلى الأمن بالدرجة الأولى، والخدمات (الكهرباء، الماء)، والبنى التحتية (الطرق)، بالإضافة إلى القدرة على الحصول على المواد الأولية ووجود إمكانية التصدير، وهذا ما تعمل تركيا على توفيره، بحسب ما قاله شعبو في حديث إلى عنب بلدي.
منع الهجرة
وأضاف الباحث أن غاية تركيا من التسهيلات التي تعطيها للتجار والصناعيين هي تنشيط اقتصاد الشمال، وإيجاد بيئة اقتصادية تمكّن السكان من العمل كي تمنع الهجرة إلى أراضيها.
سوق تصريف للمواد الأولية
كما تستفيد تركيا من وجود المدن الصناعية في الشمال السوري من خلال تصديرها المواد الأولية التي تدخل في الإنتاج، أي أن الشمال هو سوق لتصريف المواد الأولية كما هو سوق لتصريف المنتجات التركية (المنتهية التصنيع) ككل.
مدن رديفة للصناعة التركية
ويُعد وجود هذه المدن رديفًا للصناعة التركية، إذ تُصنع بعض المنتجات، كالأحذية، في الشمال بتكلفة وأجور يد عاملة منخفضة، وتُصدّر إلى تركيا، لتصدّر إلى الخارج على أنها منتجات تركية، تستفيد من خلالها تركيا من فروق الأجور والأسعار، وترفد خزينتها بالقطع الأجنبي، وفقًا للباحث.
لكن شعبو لفت إلى ضرورة عدم تضخيم الاستفادة التركية، إذ لا يمكن القول إن الاقتصاد التركي قائم أو انتعش بسبب وجود الصناعة في الشمال السوري، بحسب تعبيره، لكن يمكن القول إن وجودها “منعش” للاقتصاد التركي، ويسهم في إدخال العملة الصعبة.
ويبيّن التعميم الصادر عن وزارة التجارة التركية رقم “21/2021” والمُحدّث في 24 من آب الماضي، قوائم البضائع والمواد التي تُستورد من الشمال السوري أو تُصدّر إليه أو تمر من تركيا (ترانزيت) خلال نقلها إلى دول أخرى، والتي تُمنح “خدمات جمركية”، والمواد التي لا يمكن منحها هذه “الخدمات”.
وبحسب التعميم، فإن المواد المستوردة من سوريا التي تُمنح خدمات جمركية هي الأحذية، والقبّار (الشفلح) الطازج والمبرّد والمعلّب، والآلات وأجزاؤها، وبذار البطيخ، وبذار القطن، والذرة المجففة، ونفايات الورق، والسبائك الحديدية التي تدخل في صناعة الحديد والصلب، بالإضافة إلى اليانسون، والشعير، واللوز، والفول، والقمح، والكمون، وورق الغار، والكرز، والكزبرة، والمحلب، والحمّص، والقطن، والأرز، والثوم، والسمسم.
ولا تمنح السلطات التركية خدمات جمركية للمنتجات السورية التي تعبر تركيا للتصدير (ترانزيت)، المتمثلة في خردة المعادن، وأسطوانات غاز البترول المسال والغاز الصناعي، وبذور عباد الشمس والعدس والزيتون وزيت الزيتون، والشعير والقمح، والسجائر والنرجيلة الإلكترونية، والنرجيلة الكلاسيكية، والتبغ، والمشروبات الكحولية، وجميع أنواع الآلات والمعدات.
وأوضح وزير الاقتصاد في “الحكومة السورية المؤقتة”، عبد الحكيم المصري، لعنب بلدي، أنه لا يوجد اعتراف دولي قانوني بمؤسسات المعارضة السورية، ولذلك لا يوجد اعتراف بشهادات المنشأة الصادرة عنها، والمقصود بالخدمات الجمركية منح شهادات المنشأ و”ترفيقها” للميناء.
وعند التصدير (ترانزيت)، تمنح الحكومة التركية شهادة منشأ تركية للبضائع المنتَجة في الشمال والتي تُصدّر “ترانزيت” عبر تركيا، أما المواد المصدّرة لتركيا فلا تحتاج إلى تسهيلات جمركية، لأن السلطات تعترف بمؤسسات المعارضة.
وتستورد تركيا من الشمال السوري، بحسب الوزير، البطاطا، والبصل، والتين المجفف، والخوخ، والدراق، والفاصولياء البقولية، والفستق الحلبي، والسلالم المعدنية، والألبسة، والأحذية، وصابون الغار، والحجر السوري، وزيت الزيتون، وزيت الغار.
دعم إعادة اللاجئين
ويعد الشمال السوري مرتبطًا بالاقتصاد التركي كنتيجة للواقع السياسي في المنطقة، لذلك فإن وجود اقتصاد حقيقي في هذه المنطقة يحقق لتركيا عدة منافع، بحسب الباحث في الاقتصاد السياسي يحيى السيد عمر، أهمها تحسين واقع المؤشرات الاقتصادية بما يدعم مشاريع إعادة اللاجئين من تركيا، فلا يمكن الحديث عن إعادة للاجئين في ظل اقتصاد منهار.
وتعمل السلطات التركية على مدّ المناطق التي تخضع لسيطرة “الحكومة السورية المؤقتة” بدعم منها بالخدمات، بالتزامن مع ترويجها لعودة “طوعية” للاجئين السوريين إلى هذه المناطق.
وكانت السلطات تحدثت، في 12 من تشرين الأول الحالي، عن عودة 446 ألفًا و382 سوريًا “بشكل طوعي”، بعد تصريح لوزارة الخارجية التركية، في 12 من أيلول الماضي، بأنها تتعاون مع الأمم المتحدة والمجتمع الدولي لتأمين الإعادة الآمنة للاجئين السوريين.
تخفيف الضغط
ومن المنافع التركية من وجود المناطق الصناعية في الشمال تحويل هذه المنطقة من مستهلكة إلى منتجة، بحسب ما قاله السيد عمر لعنب بلدي، فبقاء الشمال السوري مستهلكًا يعد عامل ضغط للاقتصاد التركي.
إذ تعد المدن الصناعية عصب أي اقتصاد، وهي تدعم الاقتصاد الإنتاجي، وتظهر أهميتها في ظل تنامي الاقتصاد الخدمي الذي يعد ذا أخطار مرتفعة مقارنة بالاقتصاد الإنتاجي.
دعم إعادة الإعمار
ومن جهة أخرى، فإن وجود مناطق صناعية في المنطقة يدعم البنية التحتية اللازمة لإعادة الإعمار مستقبلًا، ومما لا شك فيه أن لتركيا نصيبًا من هذه العملية، وذلك نظرًا إلى ثقلها السياسي في القضية السورية، بحسب السيد عمر.
كما يدعم هذا الوجود الجهود التركية ويحقق منافع لها حين البدء بإعادة الإعمار، وهذا يمكن وصفه بالهدف البعيد المدى.
دعم الاستقرار السياسي والأمني
وأوضح الباحث السيد عمر أن هذه المناطق الصناعية من شأنها دعم الاستقرار السياسي في المنطقة، فلا يمكن فصل الاستقرار السياسي والأمني من جهة عن الاستقرار الاقتصادي من جهة أخرى، ومما لا شك فيه أن الاستقرار السياسي في الشمال السوري يدعم موقف تركيا إقليميًا ودوليًا فيما يتعلق بالقضية السورية، بحسب تعبيره.
وفي المقابل، تحتاج هذه المناطق إلى السوق التركية، إذ يعد الاقتصاد التركي المتنفس الحقيقي لاقتصاد الشمال السوري، فحوامل الطاقة كلها مصدرها الأراضي التركية، إضافة إلى استيراد بعض مستلزمات الإنتاج والمواد الأولية من تركيا وعبرها، لذلك فإن لتركيا دورًا رئيسًا في إنجاح ودعم هذه المناطق.
ومن الممكن أن تلعب الحكومة التركية دورًا في تذليل بعض العقبات التي تواجه المستثمرين في الشمال، خاصة العقبات المتعلقة بالإتاوات التي تفرضها بعض الفصائل العسكرية.
كما يمكن للحكومة التركية تبسيط إجراءات عبور المنتجات إلى الأراضي التركية، وهذا الأمر يعد عاملًا مساعدًا لنشاط هذه المناطق، إذ إن الصعوبات التي يواجهها المستثمرون متوقعة في ظل الواقع السوري، فالاستقرار في الشمال يعد استقرارًا نسبيًا، ولكن من المتوقع أن يتعزز مستقبلًا بدعم تركي.