حشود وأرتال عسكرية، منشورات محذّرة، مظاهرات، وتصريحات حادّة من أنقرة عن “نفاد الصبر من العناصر الإرهابية شمالي سوريا”.
قد تكون هذه أبرز التطورات التي تحصل في الشمال السوري بعد استهدافات للجانب التركي من قبل “وحدات حماية الشعب” (الكردية)، التي تعتبر عماد “قوات سوريا الديمقراطية” والتي تعتبرها أنقرة امتدادًا لـ “حزب العمال الكردستاني”(PKK)، المحظور والمصنف إرهابيًا في تركيا.
وقُتل، في 15 من تشرين الأول، جنديان تركيان نتيجة هجوم صاروخي نفذه “العمال الكردستاني”، حسب ما أعلنه وزير الداخلية التركي، سليمان صويلو، كما سقطت ثلاث قذائف داخل الأراضي التركية في منطقة كركامش التابعة لولاية غازي عنتاب جنوبي تركيا، بحسب بيان صدر عن الولاية، رجّح فيه أن تكون القذائف سقطت من المناطق التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) القريبة من الجمارك.
وكانت الرئاسة التركية قدمت، في 20 من تشرين الأول، مذكرة للبرلمان التركي، لتمديد الصلاحيات الممنوحة لرئيس الجمهورية بشأن تنفيذ عمليات عسكرية في سوريا والعراق لعامين آخرين، اعتبارًا من 30 من تشرين الأول الحالي.
وشنت تركيا مع “الجيش الوطني السوري” عمليتين عسكريتين على مناطق اتخذتها “قسد” نفوذًا لها، وهما “نبع السلام” شرق الفرات في 9 من تشرين الأول 2019، سيطرت خلالها على تل أبيض ورأس العين، و”غصن الزيتون” عام 2018، وسيطر خلالها على منطقة عفرين شمال غربي محافظة حلب.
مناطق محتملة للسيطرة التركية
لدى تركيا ثلاثة مناطق استراتيجية تسعى لها لتأمين حدودها، وهي تل رفعت ومنبج وعين العرب.
وبحسب ما ذكره مسؤولون أتراك رفيعي المستوى لوكالة “رويترز” في 15 من تشرين الأول، صرّحوا أن تركيا تستعد لشن عملية عسكرية جديدة ضد “وحدات حماية الشعب” لصدها لمسافة 30 كيلومترًا على الأقل، إذا فشلت المحادثات بشأن هذه القضية التي سيجريها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان مع نظيره الأمريكي، جو بايدن، خلال لقائهما في قمة “مجموعة العشرين”، التي ستُعقد نهاية تشرين الأول الحالي.
عنب بلدي توجهت بأسئلة إلى الباحث في مركز “جسور للدراسات” عبد الوهاب عاصي حول أهمية كل من هذه المناطق بالنسبة للأتراك، وإلى الباحث في الشؤون الكردية وشرق الفرات، عبد الرحيم سعيد تخوبي، حول أثر خسارة إحدى هذه المناطق بالنسبة لـ”قوات سوريا الديمقراطية”.
تل رفعت.. تأمين مناطق عمليات “غصن الزيتون” و”درع الفرات”
تلا التصريحات التي أدلى بها المسؤولون الأتراك توزيع منشورات ورقية، في 16 من تشرين الأول، في تل رفعت، حملت تحذيرات عن اقتراب معركة في المنطقة.
وبحسب ناشطين تواصلت معهم عنب بلدي في المنطقة، فإن المنشورات ألقتها طائرات مسيّرة يُرجّح أنها تابعة للجيش التركي.
ويرى الباحث في مركز “جسور” عبد الوهاب عاصي، في حديثه إلى عنب بلدي، أن تل رفعت تمثّل أهمية لتركيا من ناحية تأمين مناطق عمليات “غصن الزيتون” و”درع الفرات”، حيث تتخذها “قسد” كقاعدة لتنفيذ عمليات ضد مصالح تركيا والمعارضة السورية على حد سواء، بما يهدد الأمن والاستقرار في هذه المناطق التي تعمل تركيا على جعلها آمنة.
وأضاف عاصي أن العمليات التي تنفذها “قسد” تشمل القصف المدفعي والصاروخي والتسلل والهجمات في العمق عبر المفخخات والإغارات وغيرها، فالسيطرة على تل رفعت تبعد تهديد النظام السوري عن المنافذ الحدودية شمال حلب في باب السلامة والراعي، وكذلك تأمين العمق الحيوي لمدن استراتيجية مثل اعزاز وعفرين ومارع.
كما تمنح تلك السيطرة المعارضة السورية فرصة لتهديد العمق الحيوي للنظام السوري وحلفائه في مدينة حلب، وفق عاصي.
وفي حديث سابق لعنب بلدي مع رئيس وحدة المعلومات في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، نوار شعبان، أوضح أن هذه النقطة مثّلت إشكالات أمنية بالنسبة للجانب التركي سابقًا وفي الوقت الحالي، وتم اختيارها من تركيا لأهداف استراتيجية وأمنية.
وشرح شعبان أن “قسد” لا تملك السيطرة الفعلية الكاملة على هذا الجيب، ورغم أنها موجودة عسكريًا في المنطقة، فإن روسيا هي التي تسمح لها بالتحرك فيها، فهي “المسيطر الأول والأخير”، حسب الباحث.
من جهته، الباحث في الشؤون الكردية وشرق الفرات عبد الرحيم سعيد تخوبي قال لعنب بلدي، إن تل رفعت وريفها تشكل أهمية لـ”قسد”، فهي نقطة الاتصال الوحيدة لـ”قسد” مع عفرين، وتحتوي مخيمات النازحين من عفرين، وهي المنطقة التي الوحيدة المتبقية من إقليم عفرين الذي تعتبره “الإدارة الذاتية” إقليما رئيسيًا ضمن الأقاليم المشكلة “للإدارة الذاتية”.
وتسيطر “قسد” على مدينة تل رفعت منذ عام 2016، مستفيدة من هجمات متزامنة تعرض لها “الجيش الحر” آنذاك، من تنظيم “الدولة” والنظام السوري.
منبج.. تأمين عملية “نبع السلام”
تعتبر منبج المدينة الوحيدة الواقعة غرب الفرات التي تسيطر عليها “قسد”، وهي محاطة بقوات عسكرية للأطراف الأخرى.
ويوجد “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا في الجهة الشمالية الغربية من المدينة، ونقاط التماس بين “الجيش الوطني” و”قسد” متقاربة.
أما من الجهة الجنوبية والغربية للمدينة فتنتشر قوات النظام، التي تبعد 15 كيلومترًا من الجنوب و20 كيلومترًا من الغرب.
الباحث عبد الوهاب العاصي أشار، في حديثه إلى عنب بلدي، إلى أنه بالنسبة لمنبج فالسيطرة عليها تعني تأمين منطقة عملية “نبع السلام” من هجمات وحدات الحماية التي تتخذ منها منطلقًا لتنفيذ هجمات ضد النقاط العسكرية التركية ومواقع المعارضة السورية.
كما تسهم السيطرة على منبج في تأمين العمق الحيوي لمدينة جرابلس ومنفذها الحدودي، وكذلك بالنسبة لمدينة الباب سواء من هجمات “قسد” أو النظام السوري نفسه.
وهذه السيطرة تحول دون توسيع النظام السوري لنفوذه في الخارطة العسكرية على حساب بقية الفاعلين وتحديدًا المعارضة السورية، حيث يستخدم ذلك الإنجاز العسكري في الضغط عليها خلال العملية السياسية، وفق عاصي.
وأضاف أن السيطرة على منبج تعني قطع خطوط الإمداد لـ”قسد” عن تل رفعت بشكل كامل وفي حال سيطرة تركيا والمعارضة السورية على كلتا المنطقتين تكون “قسد” قد خسرت وجودها في غرب الفرات بشكل كامل.
ويرى الباحث في الشؤون الكردية وشرق الفرات عبد الرحيم سعيد تخوبي، أن لمنبج أهمية اقتصادية وتجارية لـ”قسد”، فهي نقطة عبور الكثير من البضائع التركية إلى مناطق “قسد” عبر معبر “الدادات”، وكذلك عبور البضائع من مناطق النظام إلى مناطق “قسد” عبر معبر “التايهة”.
وكانت “قسد”، بدعم “التحالف الدولي”، سيطرت على منبج في آب 2016، ما قابله تأكيد تركيا نيتها طرد هذه القوات من المدينة.
وفي آذار 2017، قال وزير الدفاع التركي السابق، فكري إشيق، إن “أولوية تركيا هي تحرير مدينة منبج، وننتظر من التحالف الدولي، وفي مقدمته أمريكا، الالتزام بوعوده”، مضيفًا أن “تركيا تنتظر انسحاب عناصر (PYD) و(PKK) من غرب نهر الفرات، هذا ما تعهدت به أمريكا لتركيا، وننتظر تنفيذ هذا التعهد بأقرب وقت”.
وسبق أن خرجت مظاهرات في منبج من المكونات العربية والكردية تندد بسياسة التجنيد الإجباري التي تتبعها “قسد”.
عين العرب (كوباني).. تأمين المدن الحدودية جنوبي تركيا
أما عين العرب فسيطرة تركيا والمعارضة السورية عليها تعني تأمين المدن الحدودية جنوب تركيا وتحديدًا الواقعة في ولايتي غازي عنتاب وأورفة من هجمات “قسد”، إضافة إلى فتح طريق الإمداد بين مناطق سيطرة المعارضة في منطقة “نبع السلام” ومنطقة “درع الفرات”، وبالتالي توسيع نفوذها في خارطة السيطرة العسكرية، بما يعزز من حظوظها في مفاوضات العملية السياسية، حسب ما قاله الباحث عبد الوهاب عاصي لعنب بلدي.
ويرى عاصي أنه في حال اقتصرت العملية العسكرية على منطقة عين العرب، تكون تركيا بذلك قد أخضعت طريق الإمداد الرئيسي لـ”قسد” من شرق الفرات إلى غربه، لـ”مرمى النيران مباشرة”، حسب وصف الباحث.
بدوره اعتبر الباحث عبد الرحيم تخوبي، أن كوباني هي مركز ثقل شعبي لـ”قسد” من جهة لأنها ذات غالبية كردية، والسيطرة التركية عليها ستسمح بوصل جرابلس مع تل أبيض وهذا سيؤدي إلى أن تكون منطقة عمليات “نبع السلام” و”درع الفرات”و”غصن الزيتون” مناطق متصلة وهو ما سيزيد الخطر على “قسد”.
وكان الرئيسان التركي والروسي، رجب طيب أردوغان، وفلاديمير بوتين، قد أبرما اتفاقًا في عام 2019 في مدينة سوتشي بعد عملية “نبع السلام” التي شنتها تركيا، بشأن مناطق شمال شرقي سوريا.
ونص الاتفاق على سحب كل عناصر “الوحدات الكردية” من الشريط الحدودي لسوريا بشكل كامل، بعمق 30 كيلومترًا، خلال 150 ساعة، إضافة إلى سحب أسلحتها من منبج وتل رفعت.
وجاء حينها في الاتفاق العمل على تسيير دوريات تركية روسية بعمق عشرة كيلومترات على طول الحدود السورية- التركية، باستثناء القامشلي، مع الإبقاء على الوضع ما بين تل أبيض ورأس العين.
وتخضع مدينة عين العرب لسيطرة “وحدات حماية الشعب”، ودخلتها قوات النظام السوري، ضمن اتفاق مبرم مع “الوحدات” على خلفية العملية العسكرية التركية.
توغل عسكري تريده تركيا لكنه صعب التحقيق
عمليًا وحتى الآن لا توجد بوادر مباشرة لعملية عسكرية تركية ضد “قسد”، فلا تزال روسيا رافضة لأي توغل تركي ضمن الأراضي السورية، ومن غير المتوقع حصول تغير في موقف روسيا، إلّا إذا تغير موقف تركيا تجاه إدلب أو مناطق من ريف إدلب وسمحت للنظام بالتقدم، وفق تخوبي.
وأضاف أن الاقتصاد التركي سيتعرض لانتكاسة في حال فرضت أمريكا عقوبات جديدة، بسبب العملية العسكرية، ولا سيما أن العملة التركية تعاني من الضعف حاليًا، لذلك فمن المتوقع أن تكتفي تركيا باستهداف مواقع وقيادات “قسد” بواسطة طائرات مسيرة من دون أن تتوغل بريًا، وفق تخوبي.
وفي حديث لعنب بلدي مع الباحث في الشأن التركي والعلاقات الدولية، محمود علوش، قال إن التفاهمات التي أبرمتها تركيا مع موسكو وواشنطن في 2019 قيدت مشروع “المنطقة الآمنة” الذي ترغب أنقرة بتحقيقه على طول الشريط الحدودي.
وأضاف علوش أن عدم التزام روسيا والولايات المتحدة بالبنود المتعلقة بإبعاد “الوحدات” عن الشريط الحدودي وبقاءها في منبج وتل رفعت زاد من دوافع تركيا للتخلص من هذا الوضع الذي كرسته تلك التفاهمات، لكن موسكو وواشنطن طرفان رئيسيان في هذه المعادلة، وأي تحرك تركي بمعزل عنهما ينطوي على مخاطر أمنية وسياسية، حسب علوش.
ويرى الباحث أن أنقرة تعطي الأولوية للحوار مع الجانبين، والتلويح المستمر بشن هجوم جديد جزء من أوراق الضغط التركية لتحقيق شروط أفضل في أي مفاوضات بخصوص مستقبل “الوحدات”.