عنب بلدي- الرقة
منذ تأسيسها عام 2014، كانت “الإدارة الذاتية”، الفاعلة في شمال شرقي سوريا، تسعى إلى تشكيل مظلة سياسية تمكّنها من الحصول على الشرعية اللازمة للمشاركة في أي مفاوضات أو تسويات سياسية، والمحافظة على مكتسباتها العسكرية.
يتأثر هذا السعي الدائم بتشكيل “الإدارة الذاتية” لبنية هيكليتها الإدارية داخل مؤسساتها، من خلال توسيع المشاركة الفعلية لمكوّنات محلية في إدارة المؤسسات على حساب مكوّنات أخرى.
ورغم مرور سنوات عدة على إنشاء “مجلس سوريا الديمقراطية” (مسد)، الذارع السياسية لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وإدارتها مؤسسات المنطقة الشمالية الشرقية لسوريا، فإن غياب التنسيق والتوافق ما زال يفرض نفسه في إشكاليات التمثيل من حيث المكوّنات الاجتماعية التي تؤثر في تعميق الاضطرابات والخلافات، وتخلق تفاوتًا بين حاجة المؤسسات وبين الخبرات التي تعمل داخلها.
لم يستطع أحد موظفي “ديوان العدالة الاجتماعية” التابع لـ”الإدارة الذاتية” متابعة عمله في الديوان بعد أن رأى نفسه “مقيّدًا بتعليمات تتنافى مع استقلالية ومهنية العمل القضائي”، وفق ما قاله لعنب بلدي.
تحاول “الإدارة الذاتية” تطبيق “تمثيل للمكوّنات”، إلا أن ذلك يأتي “على حساب وجود الخبرات وأصحاب الشهادات في مؤسساتها”، وفق ما قاله موظف “العدالة الاجتماعية”.
ويرى الموظف (الذي تحفظت عنب بلدي عن ذكر اسمه لأسباب أمنية) أن قاعدة “تمثيل المكوّنات” التي تتبناها “الإدارة”، هي أقرب ما تكون لنموذج “المحاصصة” في النموذجين العراقي واللبناني.
ويمثل “ديوان العدالة الاجتماعية” العام لشمال شرقي سوريا السلطة القضائية العليا في “الإدارة الذاتية”، ونظريًا، يعد المرجع من قبل مؤسسات العدالة الاجتماعية في كل من الإدارات الذاتية والمدنية ضمن الأقاليم، كما يختص برسم السياسة العامة للعدالة وتنظيم مؤسساتها، ويتكون المجلس من 13 عضوًا، مدة ولاية كل عضو سنتان، برئاسة مشتركة.
وتثير قاعدة “تمثيل المكوّنات” التي تطبقها “الإدارة الذاتية” حفيظة ناشطين وحقوقيين، قال بعضهم لعنب بلدي، إنهم أوصلوا هذه الفكرة إلى مسؤولي “الإدارة” خلال اجتماعات سابقة، ووعدوهم بتجاوزها مستقبلًا.
أحد موظفي “مجلس الرقة التشريعي” قال لعنب بلدي، إن “اليد الطويلة ونسبة التمثيل في أغلبية المجالس التشريعية في شمالي وشرقي سوريا هي لشيوخ ووجهاء العشائر إن كانت من العشائر الكردية أو العربية”.
وتساءل الموظف (الذي تحفظت عنب بلدي عن ذكر اسمه لأسباب أمنية) عن إمكانية إنتاج قوانين محلية عصرية في ظل وجود السلطة العشائرية التي غالبًا ما تقع تحت سيطرة العادات والتقاليد، ولا تواكب التطورات والأحداث المتسارعة على الساحة السورية.
ولا يعتبر مستوى التمثيل الموجود لأغلبية المكوّنات السياسية والاجتماعية في مناطق “الإدارة الذاتية” ضمن الرئاسة المشتركة لبعض السلطات وغيرها من مواقع المسؤولية إلا “تمثيلًا شكليًا”، يحاول من خلاله بعض الأحزاب شرعنة تحكّمها وإدارتها.
وسيطرت “قسد” على مدينة الرقة، في 17 من تشرين الأول عام 2017، بعد معارك دامت 166 يومًا ضد التنظيم، بدعم من “التحالف الدولي” الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، والذي كان يوفر الغطاء الجوي والدعم اللوجستي للقوات المقاتلة على الأرض.
وبعد تمكن “قسد” من إبعاد قوات التنظيم عن المنطقة، أُعلن عن قيام “الإدارة”، التي ذكر “مسد” أن الهدف منها هو “تشكيل هيكل إداري ينسق الخدمات بين المناطق، ولملء الفراغ الإداري والأمني”.
تتضمن هيكلية “الإدارة” مجلسًا تنفيذيًا مشرفًا على عمل “إدارات مدنية ديمقراطية”، تتكون من “مجالس عامة وتشريعية” في المناطق الخاضعة لسيطرة “قسد”، بينما تعتبر “المجالس المدنية” للمنطقة بمثابة حكومات تدير الشؤون المحلية.
“تمثيل المكوّنات” ضمن قضايا “الإرهاب”
لا يعتبر تمثيل المكوّنات في المجتمع ضمن شمال شرقي سوريا مقتصرًا على العمل داخل المؤسسات الإدارية فقط، إنما تعمل “الإدارة الذاتية” على استرضاء المكوّن العشائري في بعض المناطق وتخفيف الاحتقان معه ضمن ملف “مكافحة الإرهاب”، خصوصًا في المناطق ذات الكثافة العربية.
ففي سياق المصالحات العشائرية أو العفو العام في المنطقة، يكون هناك نوعان من العفو، وفق دراسة أعدها الباحث في مركز “عمران للدراسات” ساشا العلو.
ويتمثل النوع الأول من العفو العام بالمدنيين الذين يتم اعتقالهم من قبل “الإدارة الذاتية” في إطار حملات أمنية بتهم “إرهاب”.
ويصدر هذا النوع من العفو مع شيوخ ووجهاء عشائر محددين ممن ترغب “الإدارة الذاتية” برفع أسهمهم واستثمارهم، إذ لم تستجب “الإدارة” لطلبات شيوخ آخرين.
وبعض شيوخ ووجهاء العشائر الذين وقّعوا على قرار الإفراج عن عناصر سابقين من تنظيم “الدولة الإسلامية” على كفالاتهم لا يعرفون أغلبهم بشكل شخصي، خصوصًا من أبناء بقية المحافظات الشرقية المعتقلين في سجون الحسكة.
وفي عام 2020، استفسرت بعض العوائل عن عدم الإفراج عن أبنائها ضمن عفو عام أصدرته “الإدارة الذاتية” على الرغم من أن العفو يشملهم، إلا أنه لم يتم الإفراج إلا بعد دفع مبالغ لبعض الكوادر المسؤولين عن السجون عبر وسطاء، وتُقابَل تلك التسويات التي يتصدرها شيوخ ووجهاء معيّنون باستياء شعبي كبير في المجتمع المحلي.
إقرار بـ”خلل مرحلي”
أقر أحد مسؤولي “الإدارة الذاتية” بوجود غياب التنسيق بتمثيل المكوّنات باعتبار أن ما حدث هو “خلل مرحلي تستطيع الإدارة تجاوزه عندما تحين الفرصة المناسبة”.
واعتبر المسؤول، في حديث إلى عنب بلدي، أن تمثيل المكوّنات، وبالأخص تقريب شيوخ ووجهاء العشائر، كان الهدف منه تحسين صورة “الإدارة الذاتية” والبحث عن قبول جماهيري لها في المناطق التي تديرها.
وأشار مسؤول “الإدارة” (الذي تحفظ عن ذكر اسمه لأنه لا يملك تصريحًا بالحديث للإعلام)، إلى أن إعادة صياغة “ميثاق العقد الاجتماعي” الذي تعمل عليه “الإدارة الذاتية” حاليًا، هي فرصة لتلافي الأخطاء السابقة التي حدثت في البنية التنظيمية، وأن “إعادة الهيكلة عقب الانتهاء من صياغة العقد الاجتماعي ستولّد حكومة محلية قادرة على إرضاء الجماهير وتجنب المحاصصة على حساب مصلحة الشعب”.
وفي حزيران الماضي، أعلنت “الإدارة الذاتية” عن تشكيل لجنة لإعادة صياغة “ميثاق العقد الاجتماعي”، مكوّنة من 157 عضوًا، لتعلن “الإدارة” بعد أسابيع اختزالها بـ30 عضوًا فقط.
وتأتي إعادة الصياغة وسط انتقادات وُجهت لـ”العقد الاجتماعي” الذي “كُتب على عجل ولم يشارك في صياغته ممثلون عن المناطق كافة”، فأغفل عند صدوره أول مرة، عام 2014، عدة مبادئ حقوقية أساسية، إلا أن صياغته هذه المرة تحتاج إلى حرفية ومهنية عالية، لوجود حاجة موضوعية لإدارة تلك المناطق.
وتتطلب صياغة “العقد الاجتماعي” ألا يتمتع المشاركون في صياغته بأي صفة وظيفية، لتجنب محدودية التفكير ضمن نطاق عمل “الإدارة الذاتية”.
يرافق مشروع “الإدارة الذاتية” مجموعة من الإشكاليات، أولاها محاولاتها في الحصول على قبول مجتمعي بمناطق مختلفة بتنوعها البشري، والعرقي، والثقافي، والديني، واعتراف سياسي بمشروعها من قبل أطراف النزاع في سوريا.
إذ تُحدد مصادر الشرعية من خلال الشعب وفعاليته الثقافية والسياسية، إلا أن “الإدارة الذاتية” لم تتمكن حتى الآن من دفع المجتمعات الواقعة تحت سيطرتها، سواء العربية أو الكردية، لدعم مشروعها بناء على عوامل عدة، منها غياب التمثيل العادل لهذه المجتمعات ضمن إدارة الموارد المتاحة لـ”الإدارة”، فيكتسب بذلك واقع حكمها المزيد من التعقيد الذي يصعب حلّه في المستقبل.