سكان الشمال السوري يتلقون ضربات تراجع الليرة التركية

  • 2021/10/24
  • 9:41 ص

بائع خضرة وفواكه في سوق مدينة إدلب- 7 من نيسان (عنب بلدي)

عنب بلدي – أمل رنتيسي

لم تشفع لخالد الخطيب (28 عامًا) المقيم في مدينة إدلب مشقة عمله في البناء لساعات طويلة بالحصول على أجر كريم، إذ لا يتجاوز أجره الحالي 40 ليرة تركية في اليوم.

يبدأ خالد عمله منذ ساعات الصباح الباكر حتى المساء، وقال لعنب بلدي، والعرق يتصبب من جبينه بعد خلطه أكثر من عشرة أكياس من الأسمنت استعدادًا لبدء عملية البناء، “أرباب العمل والمتعهدون يستغلون زيادة أعداد الشبان العاطلين عن العمل ليتحكموا بالأجور ويخفضونها وفق أهوائهم دون حسيب أو رقيب”.

وأثّر انخفاض قيمة الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي على الوضع الاقتصادي والعمّال في شمال غربي سوريا الذين يتقاضون أجورهم بشكل يومي، إذ ما زالوا يحصلون على أجور ثابتة ومتدنية بالليرة التركية، وسط ارتفاع أسعار تشهده تلك المناطق.

كما ارتفعت أسعار أغلب المواد والمنتجات في الأسواق، وخاصة المنتجات الاستهلاكية اليومية والمحروقات، مقابل الدخل.

وبلغت قيمة الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي 9.6 ليرة، في 22 من تشرين الأول الحالي، بحسب موقع “Döviz” المتخصص بأسعار الصرف والعملات، وهو أدنى مستوى تصل إليه في تاريخها.

أضاف العامل خالد لعنب بلدي، أن الفقر والحاجة إلى وجود مصروف يومي يدفعان الشباب للقبول بأي أجر، وإن كان قليلًا وزهيدًا، لأنهم يجدونه خيرًا من البقاء دون عمل إطلاقًا.

كما تساءل عن سبب رفع التجار وحكومة “الإنقاذ” العاملة في إدلب وريفها أسعار كل المواد والسلع والمحروقات في المنطقة حين تنخفض قيمة الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي، بينما تبقى أجور العمال الوحيدة على حالها.

“من غير دف عم نرقص”

من جهته، بدأ أسامة العلوش (25عامًا) حديثه عند سؤاله عن أثر انخفاض قيمة الليرة التركية بالقول “نحن عمال المياومة بإدلب من غير دف عم نرقص”، في إشارة منه إلى مدى تأثير انخفاض قيمة الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي على تدني أجورهم التي يتقاضونها لقاء عملهم اليومي.

يعمل أسامة في صناعة خبز الصاج بأحد محال مدينة حارم شمال إدلب، وقال لعنب بلدي، “منذ استبدال الليرة التركية بالعملة السورية قبل أكثر من عام وأجورنا نحن العمال لا تكفينا ثمن طعام لعائلاتنا”، مشيرًا إلى أنه يحصل على مبلغ 30 ليرة تركية يوميًا، وهي لا تكفيه حتى لشراء بعض الخضار التي ارتفعت أسعارها بشكل جنوني مؤخرًا.

وأضاف أن انخفاض قيمة الليرة التركية أمام الدولار في الأسابيع الأخيرة ضاعف الأسعار العامة في إدلب دون أن يضاعف أجور العمال، التي بقيت على حالها ولا تتناسب إطلاقًا مع طول ساعات العمل والغلاء الحاصل.

وطالب أسامة المعنيين بتحديد سقف لأجور عمال المياومة بما يتناسب مع الوضع المعيشي وارتفاع الأسعار بشكل يومي.

مناطق سيطرة “المؤقتة” ليست أفضل حالًا

أكثر القطاعات التي تكون عُرضة لتأثير انخفاض قيمة الليرة عادة هي أسواق المواد الغذائية، لأن أصحاب تلك المحال يعتمدون التسعير بالدولار والبيع بما يقابله بالليرة التركية، فيكون الارتفاع بشكل فوري بعد كل انخفاض جديد لليرة، بحسب ما أفاد به مراسل عنب بلدي في مدينة اعزاز.

وشمل ارتفاع الأسعار قطاع سيارات الأجرة وسيارات النقل العمومي، نتيجة تأثرها بشكل كبير بارتفاع أسعار المحروقات في المنطقة.

أحمد الفارس، وهو عامل في أحد المطاعم بمدينة اعزاز قال لعنب بلدي، إن الليرة التركية أصبحت منهارة وصارت تشكّل عائقًا جديدًا أمام الغاية من استبدالها بالليرة السورية، إذ يتقاضى أحمد 800 ليرة تركية وأصبحت تقدر بـ86 دولارًا في حين كانت قبل عام من الآن تبلغ قيمتها 114 دولارًا.

وأضاف أحمد أنه يجب اعتماد الدولار الأمريكي في جميع المعاملات المالية الكبيرة والصغيرة في الشمال السوري، لأن العملة التركية غير مستقرة، وتتسبب بخسائر كبيرة بانخفاضها، خاصة لأصحاب الدخل المحدود.

أما في مدينة عفرين شمالي حلب، فقال فهد ياسين، وهو صاحب محل مواد غذائية في أحد الأحياء الشعبية بالمدينة، إن استمرار انهيار العملية التركية أمام الدولار عاد عليه بالضرر الكبير، وإن محله يخسر بشكل يومي ما لا يقل عن 300 ليرة تركية، وذلك بسبب البيع بالدَّين، حيث يشتري بضاعته بالدولار ويبيعها دينًا بالليرة التركية.

كل 830 ليرة كانت تساوي قبل أسابيع 100 دولار، أما اليوم فأصبحت تساوي 950 ليرة، أي أن كل البضاعة التي باعها بالدَّين للزبائن خسرت بكل 100 دولار قرابة 120 ليرة تركية.

وحول البيع بالدَّين، أشار فهد إلى أنه مجبر على البيع بهذه الطريقة كون محله يعتمد على سكان الحي، وفي حال رفضه قد يلجأ الأهالي إلى محل آخر بسبب سوء الحالة الاقتصادية لمعظم الأهالي، وبسبب اعتماد الموظفين على رواتبهم نهاية كل شهر.

ولفت فهد إلى أن بعض أهالي عفرين لا يزالون يستخدمون العملة السورية، أي أن خسارته تأتي مضاعفة عن بقية المناطق، مشيرًا إلى أن التجار المستوردين لا يراعون هذه الظروف، ويطالبون بثمن البضاعة بالدولار حصرًا.

أنور طوبال، وهو أحد سكان مدينة عفرين ويعمل صانعًا في إحدى ورشات الحدادة، قال إن يوميته لا تتناسب أبدًا مع مصروفه، إذ يتقاضى يوميًا 35 ليرة تركية، بينما يحتاج إلى أكثر من 40 ليرة تركية بشكل وسطي لوجبة طعام واحدة.

وأشار أنور إلى أن الغلاء في أسعار السلع الأساسية صار لا يُحتمل، وانهيار العملات التي يتم التعامل بها في المنطقة أثّر بشكل كبير على الطبقة العاملة، وعلى جميع الشرائح، كما اتهم التجار المستوردين بالسرقة وعدم مراعاة حال الأهالي، واصفًا ذلك بـ”الجشع المفرط”، حيث لا مبرر لرفع سعر المواد الغذائية وهي مستوردة بالسعر القديم، ولا مبرر لثبيت سعرها المرتفع عندما تتحسن العملة المتداولة.

ويرى أنور أن السلطات المحلية في المنطقة غير مبالية بضبط هذا التفلّت والجشع، مطالبًا الحكومة “المؤقتة” والسلطات المحلية بمتابعة الموضوع وإيجاد حلول مناسبة ترضي التجار والأهالي.

مظاهرات منددة بالغلاء.. تبريرات متشابهة

شهدت مدينة إدلب، في 15 من تشرين الأول الحالي، مظاهرة شعبية رافضة لسياسة حكومة “الإنقاذ”، مطالبة بالعديد من الخدمات التي تحتاج إليها المنطقة، كما احتجت على ارتفاع الأسعار بشكل عام، والمحروقات بشكل خاص.

وجاء في مقدمة الطلبات تخفيض أسعار المحروقات، وخصوصًا مادة الغاز التي ارتفع سعرها بشكل غير مقبول، على حد تعبير المتظاهرين، وبما لا يتناسب مع الارتفاع العالمي لأسعار النفط.

 

عقب الاحتجاجات، أرجع وزير الاقتصاد في “الإنقاذ” العاملة في إدلب، باسل عبد العزيز، أسباب الارتفاع المستمر بالأسعار في الشمال السوري، خلال تصريحات، إلى سببين رئيسين، الأول، الارتفاع العالمي لأسعار الطاقة والسلع الأساسية، التي وصلت إلى مستويات لم تصل إليها منذ سنوات عدة، وأعلى مما كانت عليه قبل جائحة فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19).

والسبب الثاني، انخفاض قيمة الليرة التركية، إذ فقدت أكثر من 22% من قيمتها منذ بداية العام الحالي، وكان الدولار يساوي حوالي 7.5 ليرة تركية، أما اليوم فوصلت قيمته إلى حدود 9.20 ليرة.

وتحدث عبد العزيز عن تأثر قطاع الأفران بشكل كبير مع هذا الارتفاع، وخاصة بعد تأثره في الأشهر الماضية بارتفاع سعر الدقيق (الطحين) المستورد، بسبب موجات الجفاف التي ضربت كبرى الدول المصدّرة للقمح، ما زاد الطلب عليه من معظم بلدان العالم.

وقال الوزير، إن ارتفاع أسعار النفط الخام والغاز إلى معدلات قياسية في الآونة الأخيرة، انعكس سلبًا على عموم الشمال السوري بارتفاع أسعار مشتقات النفط المستوردة من تركيا، بعد رفع الشركة التركية الأسعار مع الانخفاض المستمر لقيمة الليرة التركية الذي أثّر على الأهالي بشكل ملحوظ.

وتواصلت عنب بلدي مع حكومة “الإنقاذ”، وصرّح مدير المكتب الإعلامي في الحكومة، ملهم الأحمد، أن العرض والطلب يلعب دورًا في تحديد الأسعار وانخفاضها، وفي حال وجود سلع أساسية بسعر مرتفع، تُدرس من قبل دائرة الأسعار التابعة لمديرية التجارة والتموين في وزارة الاقتصاد والموارد، وتقوم بحساب تكلفة هذه المواد، وإذا تبين وجود أي مادة بسعر مرتفع دون مبرر تتم محاسبة التاجر على أنه محتكر، وفق الأحمد.

وأضاف أن المواد الأساسية كالمحروقات والخبز، يتم تسعيرها من قبل وزارة الاقتصاد بهدف حماية المستهلك.

وحول تدني أجور العاملين بالمياومة في مناطق إدلب، علّل الأحمد ذلك بأن المعاملات المالية اليومية في معظم القطاعات يتم تداولها بالليرة التركية، خاصة ما دون فئة 50 دولارًا، أما التداولات الكبيرة فلم تتأثر بسعر صرف الليرة التركية لأنها تتم بالدولار.

واعتبر أن تأثير العرض والطلب يمتد ليطال ويتحكم بأجور العاملين ودخل الفرد، فضلًا عن نسب البطالة المرتفعة، إذ “تعمل الحكومة على تشجيع الاستثمار، وإنشاء مشاريع تخدم البنية التحتية وتشجع على الزراعة والصناعة ما يوفر فرص عمل، وبالتالي يخفض مستوى البطالة ويحسّن دخل الفرد ويرفع الحد الأدنى للأجور في المنطقة”، بحسب ما صرّح به الناطق الإعلامي باسم “الإنقاذ” لعنب بلدي.

بدوره، قال وزير الاقتصاد في الحكومة “المؤقتة”، عبد الحكيم المصري، في مراسلة مع عنب بلدي، إن أسعار السلع في مناطق ريف حلب تتأثر بالعرض والطلب، وإن جميع التجار يستوردون من خارج تركيا وتمر ترانزيت عبرها، الأمر الذي يجعلها تتأثر بسعر الدولار.

ولم يُرجع المصري أسباب ارتفاع الأسعار إلى انخفاض الليرة التركية فقط، بل لارتفاع أسعار عالمي نتيجة ارتفاع أسعار النفط وأجور النقل البحري التي تضاعفت 200%، حسب قوله.

وأوضح أن أكثر القطاعات التي تأثرت في شمال غربي سوريا هي قطاعات البناء والمحروقات، وذلك لأن المحروقات تخضع للأسعار العالمية التي ارتفعت هذه السنة، لذا نجد أن المحروقات وخاصة الأوروبية تضاعفت أسعارها تقريبًا بنسبة 100% مقارنة مع السنة الماضية، كما تأثر أيضًا قطاع النقل.

وأضاف المصري أن وزارة الاقتصاد في “المؤقتة” أجرت أحدث دراسة لـ”السلّة السلعية” (التكاليف المعيشية للأسرة) في تشرين الأول الحالي، إذ تتكون السلّة من 74 سلعة، وتقيس معدّل التضخم.

ووفق المصري، ارتفعت أسعار السلع في “السلّة السلعية” من 1408 ليرات تركية منذ بداية العام إلى 1748 ليرة، أي بمعدل 25%.

وأوضح أن قائمة السلة، التي اطلعت عليها عنب بلدي، تشمل حاجة العائلة من خمسة أشخاص، وغير شاملة أجرة المنزل، إذ تحتاج العائلة المكوّنة من هذا العدد إلى 2200 ليرة كحد أدنى من الأجور، مشيرًا إلى أن الرواتب “ليست أقل من ذلك إطلاقًا، وتتناسب مع الحد الأدنى”.

متظاهرون في إدلب يحتجون على الغلاء وارتفاع الأسعار- 15 تشرين الأول 2021 (عنب بلدي/أنس الخولي)

مَن المتضرر والمستفيد من تذبذب الليرة التركية؟

تعدّ قضية تذبذب العملة وتراجع قيمتها من التحديات التي تواجه عدة اقتصادات في العالم ومنها الاقتصاد التركي، وبالتأكيد هذا الأمر ينسحب على اقتصاد الشمال السوري كونه يتعامل بشكل رئيس بالليرة التركية، بحسب ما قاله الدكتور السوري والباحث في الاقتصاد السياسي يحيى السيد عمر، في حديث إلى عنب بلدي.

وأضاف الباحث أن هذا الأمر يترك تداعيات عدة على مختلف أوجه النشاط الاقتصادي، فمن جهة، تعدّ الشرائح ذات الدخل الثابت من أكثر الشرائح تضررًا، وذلك بسبب تآكل القدرة الشرائية لدخولها، وهذا بدوره يسبب تراجع الطلب الكلي في المنطقة فيتراجع معدل الإنتاج، كما يسبب تآكل رؤوس الأموال لا سيما تلك المستثمرة في التجارة.

ومن جهة أخرى، فإن تذبذب قيمة الليرة يجعل من عملية حساب التكاليف والإيرادات أمرًا بالغ الصعوبة، ويجعل اتخاذ القرار الاستثماري في هامش خطأ واسع، وفق السيد عمر.

كما يعتقد الباحث أنه بخصوص المتضرر والمستفيد، فإن الأغلبية الساحقة من الأشخاص الطبيعيين ستتضرر من هذا الأمر، وقد تحقق هنا بعض مكاتب الصرافة بعض الأرباح الاستثنائية نتيجة تذبذب الليرة، ولكنها أرباح مؤقتة لا يمكن التعويل عليها.

ويرى السيد عمر أن قضية التعامل مع انخفاض قيمة الليرة التركية وتذبذبها يعد أمرًا بالغ الصعوبة، لا سيما أن اقتصاد الشمال السوري يعتمد بدرجة كبيرة على الاقتصاد التركي، وهنا يمكن التخفيف من حدة الآثار السلبية بزيادة الاعتماد على الدولار الأمريكي، وإن كان هذا الحل دونه عقبات عدة، أهمها قلة المصادر التي توفر الدولار في المنطقة، حسب الباحث.

ومع الانخفاض المستمر لقيمة الليرة السورية، وبعد محاولات حل مشكلات الغلاء وتدهور القدرة الشرائية، اعتمدت السلطات المحلية في الشمال الغربي السوري، في حزيران 2020، الليرة التركية كعملة للتداول أكثر استقرارًا وحفظًا للقيم المالية.

وحاول الأهالي في كل من مدينة إدلب ومناطق ريف حلب الشمالي التكيف مع استبدال الليرة التركية بالليرة السورية، لكن مشكلات عدة واجهت عملية الاستبدال هذه، أبرزها تقلّب الليرة التركية وخساراتها المتتالية أمام الدولار الأمريكي.

واعتمدت كلتا الحكومتين، “الإنقاذ” و”المؤقتة”، تداول الليرة التركية في المناطق التابعة لهما إلى جانب تداول الدولار الأمريكي والليرة السورية، حتى اعتمدتها “الإنقاذ” بشكل كامل مع منع تداول الليرة السورية، على عكس “المؤقتة” التي تسمح بتداول الليرة السورية.

وبحسب تقرير صادر عن برنامج تقييم الاحتياجات الإنسانية (HNAP)، بالاشتراك مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) و”مجموعة التعافي المبكر وسبل العيش” في شمال غربي سوريا، في آب الماضي، فإن 91% من العاملين في شمال غربي سوريا يقيمون في أسر تعيش في فقر “مدقع””، ما يدل على ضعف الاقتصاد المحلي، مشيرًا إلى أن 18% فقط من الرجال الذين عملوا خلال الأشهر الثلاثة التي سبقت صدور التقرير يعملون بدخل منتظم.

ويُظهر التقرير حول سبل العيش أنه حتى بين الأشخاص الذين يعملون، يعيش تسعة من كل عشرة في فقر مدقع.

سعر الليرة التركية مقابل الدولار الأمريكي منذ اعتمادها كعملة أساسية في الشمال السوري (investing)


شارك في إعداد المادة مراسلة عنب بلدي في إدلب هاديا منصور، ومراسلا عنب بلدي في ريف حلب وليد عثمان ومالك الهبل.

مقالات متعلقة

أخبار وتقارير اقتصادية

المزيد من أخبار وتقارير اقتصادية