أكثر من شهر وداريا تحت الحصار والقصف مستمر، بالرغم من ذلك فضلت أم أحمد البقاء في المنزل لتقف مع زوجها وتساعده قدر المستطاع. ولأنها لا تتحمل قسوة النزوح وتعريض أطفالها لمشاقّ التشرد، فالمرأة في داريا تعاني الأمرّين، مرارة تجربة الحرب ومرارة معاناتها اليومية كأم وزوجة في ظل أوضاع تفتقر إلى مقومات الحياة، كما تقول أم أحمد. لكنها تتابع وقد بدت عليها آثار التعب: «أقضي نهاري في المطبخ لأعد الطعام لزوجي وأصدقائه وبعض
الشباب الذين بقوا في الحي، فهم يشاركون في القتال وحماية الحارة ليلًا» تبتسم فجأة وتتابع «الشباب يشعرون أحيانًا أنهم بحاجة للحلويات بسبب شدة البرد، فأحاول أن أصنع لهم ما يشتهون بالرغم من الصعوبة التي أجدها في تأمين ما أحتاجه لإعداد أي طبق».
وتمضي أم أحمد بقية يومها بصنع أقنعة واقية مستخدمة أدوات بسيطة، لتستخدمها هي ومن حولها تحسبًا لقصف المدينة بالغازات السامة..
أم أحمد تلبي احتياجات المنزل بشق الأنفس وهي تعتمد على ما تركه الأهالي من رزق (مواشي أو مزروعات) «وهو بالقدر اليسير ولا يكفي حاجياتنا، واعتمادنا الأساسي على المعلبات التي يتم توزيعها».
التقينا بأحد الناشطين الذين يعملون في المجال الإغاثي، ليروي لنا معاناة الناس في هذه الظروف «الناس خسرت ما لديها من مونة بسبب انقطاع التيار الكهربائي، فلا يوجد ما يأكلونه في البيت، ونحن لا نستطيع سوى توزيع الخبز وسلل غذائية تحتوي على معلبات وأرز وبرغل وسكر» ويتابع قائلًا «إن أفخم طبق بالنسبة للناس الذين بقوا في داريا هو المعكرونة».
ولا تقتصر معاناة النساء اللواتي بقين في داريا على تأمين الطعام وحماية الأطفال ورعايتهم فقط، بل يقوم بعضهن بأدوار على تماس مباشر مع الخطر.
أم هاني أم لطفلين، وتعمل ممرضة بالمشفى الميداني، وعملها هذا يجعلها أكثر عرضة لمخاطر القصف والقنص. تقول أم هاني «إنني بين نارين، واجبي كأم اتجاه أطفالي، وواجبي المهني والأهم واجبي تجاه الثورة… في بداية حصار داريا كنت مع أطفالي وكنت قلقة في حال تم طلبي، ولدي هاجس دائم كيف سأتركهم بهذه الظروف؟ لكن مع ازدياد عدد الجرحى والنقص في عدد الممرضات طلبوا مساعدتي، فقررت الذهاب وترك أطفالي مع زوجي الذي يعمل في المجال الإغاثي إذ يقوم بتوزيع المعونات والدواء للأهالي وإسعاف الجرحى، ويبقى الأولاد معه في السيارة أثناء جولاته مما يعطيني شعورًا بالاطمئنان، إلا أنني دائمًا ما أشعر بالقلق والخوف عند سماعي أصوات القصف أو الغارات الجوية، ولا أعرف في أي لحظة يأتي أطفالي من ضمن الجرحى الذين أعالجهم».. وظلت هذه الهواجس تطرق رأس أم هاني وتشغل فكرها، ولم يهدأ بالها حتى أرسلت أولادها إلى حيث استقرت أمها في منزل آمن. لكنها برغم ذلك ظلت مشغولة البال، بدا ذلك في صمتها الذي جعلها تتوقف عن الحديث قبل أن تتابع «حين جاءت ابنتي لزيارتي، كانت لحظة وداعها لي هي الأصعب.. عيناها دمعت وضمتني وكأنها آخر مرة تراني فيها وتقول لي: ماما رح اتركك بس من شان تعرفي تشتغلي»، هنا دمعت عينا أم هاني، ثم بدأت تستحضر أكثر المواقف التي تعرضت لها ألمًا «إن أكثر ما آلمني أن موعد زيارة ابنتي صادف اليوم الذي استشهدت فيه الطفلة أنسام زيادة التي يقارب عمرها عمر ابنتي. أنسام تلك الطفلة البريئة التي أصيبت بشظية قذيفة وهي داخل منزلها… وأثناء محاولة الطبيب إنعاش قلبها، كنت أشعر بالخوف على ابنتي، ونظرات تلك الطفلة وهي تنازع وأطفالي بعيدون عني جعلني أشعر بحرقة كبيرة في قلبي، كيف أكون في مكان وأطفالي في مكان آخر بعيدون عني! ولكن ما يبعث فيّ القوة أني أقوم بهذا العمل الرائع، وأنني سأستمر حتى النصر، فهذه مهمتي وهذا واجبي وعلي أن أكملهما..»
لم تأبه أم هاني لظروف عملها القاسية والخطرة فعملها يتطلب منها أن تتابع بعض المرضى خارج المشفى بعد خروجهم منها، وأحيانا «نخرج في وقت متأخر من الليل لنغير ضماد مصابةٍ أو مريضة، والقناصة تكون منتشرة بالشوارع ولا نعلم أين أماكن تمركزها. وكثيرًا ما تعرضت السيارة التي تقلنا لرصاص القناص في عدة أماكن» ولكن أم هاني كانت تغامر وتكمل طريقها الذي غالبًا ما يكون محفوفًا بمخاطر أخرى كسقوط القذائف أو الصواريخ على بعد أمتار منها، لكنها بدت واثقة وقوية ومؤمنة وهي تقول لنا «يلي بيخاف ما بيفوت بهاد المجال أبدًا، وأنا مالي خايفة لأنو القذيفة يلي بدها تجي تقتلك ما رح تسمع صوتها».