“والتفتوا لأمي لتشهد أنني هو، فاستعدّت للغناء على طريقتها، أنا الأم التي ولدته لكن الرياح هي التي ربته، قلت لآخري لا تعتذر إلا لأمك”.
في العبارة الأخيرة من الاقتباس السابق، عبّر الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، عن ديوانه الشعري ككل، إذ قدمت اللوحة الشعرية جوقة كاملة من الذكريات والأشياء التي مضت إلى غير رجعة، وللأبد، من حياة الذين غادروا بلادهم لاجئين.
اللوحة الشعرية التي جاءت في صفحتين لتحمل عنوان ومضمون ديوان شعري من 170 صفحة، لم تقدّم الكثير على صعيد شاعرية الكلمة، مقابل شاعرية الذكرى، فالسّرد الخفيف الذي قدّمه الشاعر للأشياء التي صارت ماضيًا على الأرض، ولا تزال حاضرة في النفس، شكّل نحو نصف حجم القصيدة، وربما الجانب الأكثر عاطفة فيها، إذ يستذكر درويش قهوة الأم وعطر الميريمية والحصيرة والوسائد وصورة الأب والأشقاء، وأصدقاء الطفولة، قبل أن يوصي نفسه بعدم الاعتذار لغير أمه.
وفي الديوان أيضًا لوحة بعنوان “تُنسى كأنك لم تكن”، وأخرى بعنوان “الآن إذ تصحو تذكّر”، وتوحي العناوين الثلاثة السابقة أن هناك حضورًا طاغيًا للذكرى، وصراعًا بين الذاكرة والنسيان، فالذاكرة أحد الأسلحة السلمية الصامتة بيد من فقدوا دورهم وأرضهم التي احتلها غيرهم.
يقول درويش في “تُنسى كأنك لم تكن”، “فأشهد أنني حيٌّ وحرٌ حين أُنسى”.
فالنسيان، وفق ما ورد في الديوان، نوعان، نسيان الآخرين للشخص بما يمنحه الحياة والحرية وفق رأي الشاعر، ونسيان القضية، الذي سيفضي إلى خسارة أكبر من تلك المتواصلة، وهذا ما يسعى الأدب الفلسطيني، و”شاعر القضية” درويش، كما يصفه محبوه، لمحاربته.
يقف ديوان “لا تعتذر عما فعلت” على ست قصائد، جاءت الأولى، التي حملت اسم “في شهوة الإيقاع”، على شكل لوحات شعرية منفصلة، تشكّل كل منها قصيدة منفصلة، وفكرة مختلفة، وموضوعًا آخر، ضمن مناخ نفسي متقارب يقدمه الديوان.
فغياب حق الاختيار والعنفوان الذي عبر عنه في “لا تعتذر عما فعلت”، و”لم أعتذر للبئر”، إلى جانب الحب وهواجسه، والحديث عن القتلى المجهولين، ضحايا بلادهم وصراعاتها وأحلامهم البسيطة، كان حاضرًا في الديوان الذي قدمه درويش عام 2004، ليكون واحدًا من التجارب الناضجة شعريًا في إرثه الأدبي والشعري والفكري، الذي اتجه نحو لغة أسمى وأكثر رمزية، وأصعب أيضًا، مع تطور الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وسلوكه منعطفًا يتطلب مخاطبة العالم، لا المواطن العربي فقط.
تناول درويش الخروج الفلسطيني من لبنان قبل الاجتياح الإسرائيلي للبنان أيضًا، وقال “شكرًا لتونس” التي كانت محطة المقاومة الفلسطينية بعد بيروت، وبكى حين ألقى القصيدة في إحدى أمسياته الشعرية، وتغزّل بالشام ومصر والعراق كلّه عبر قصيدة “أتذكر السياب”.
الملل والضجر والانتظار والسأم، والكثير من المشاعر البشرية المختلطة والمتعارضة، كل ذلك كان حاضرًا في ديوان درويش، إما بأسلوب شفاف خفيف يلمس القلب دون جرحه، وإما بصورة أقسى، لتخبر القارئ أيضًا أن ما يقرأه يعنيه فعلًا.
وعبر قصيدة “في بيت أمي” يقول درويش، “في بيت أمي صورتي ترنو إليّ ولا تكف عن السؤال، أأنت يا ضيفي أنا؟”.
ولد محمود درويش في قرية البروة بالجليل الأعلى الفلسطيني، في 13 من آذار عام 1941، ثم ولد في صفوف الشعراء وعلى رفوف المكتبات عبر ديوانه الأول “أوراق الزيتون”، الذي صدر عام 1964.
نشر درويش نحو 35 مجموعة شعرية ونثرية، تُرجمت إلى أكثر من 22 لغة، شكّلت إرثه الأدبي الذي غلبت عليه الرمزية والغنائية، قبل رحيله في 9 من آب عام 2008.