حسام المحمود | جنى العيسى
تعاقبت على الملف السوري عدة مسارات سياسية، موسعة أو على نطاق ضيّق، قبل التوصل إلى اللجنة الدستورية التي حدد المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسون، موعد الجولة السادسة من اجتماعاتها بجنيف، في 18 من تشرين الأول الحالي.
وكخيار يبدو يتيمًا في الوقت الراهن، وبعد العديد من التصريحات والتطلعات السياسية حول ضرورة الاتفاق على منهجية واضحة وضمانات تحقق “النتائج الإيجابية” للجولة المقبلة، يتحضر وفد المعارضة لحضور الجولة السادسة، بعد خمس جولات “فارغة”، لم تحمل مخرجاتها أي جديد منذ سنتين.
ومع إعلان بيدرسون موعد الاجتماع المقبل “بهمة عالية” لدفع المسار السياسي، وتأكيد النظام السوري أن أي مخرجات عن اجتماعات اللجنة لن تؤثر في تغيير شيء على أرض الواقع، يمضي وفد المعارضة إلى جنيف معتمدًا على “الجهود” التي يبذلها بيدرسون بهدف التوصل إلى اتفاق.
تستطلع عنب بلدي في هذا الملف آراء عدد من السياسيين والحقوقيين في جدوى عمل وفد المعارضة باللجنة الدستورية اليوم، والبدائل المتوفرة عن اللجنة لدفع المسار السياسي، بالإضافة إلى دور المبعوث الأممي إلى سوريا فيها، وموقف النظام السوري منها، وأبرز مخرجات جولاتها السابقة.
“المعارضة في مأزق”
لماذا تصرّ على وجود اللجنة الدستورية؟
يستكمل وفد المعارضة، دون رغبة، المفاوضات التي تجريها اللجنة المكوّنة من ثلاثة وفود (المعارضة، النظام السوري، منظمات المجتمع المدني) بتيسير من الأمم المتحدة، بحسب ما يراه مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، محمد العبد الله.
وأوضح العبد الله، في حديث إلى عنب بلدي، أن المعارضة السورية صارت مجبرة على حضور جولات اللجنة الدستورية وغيرها من مسارات التفاوض، بعد أن أوصلت نفسها إلى هذه الحال، إثر عدة تنازلات قدمتها، فلا خيار آخر لديها لعدة أسباب.
ووفقًا لمحمد العبد الله، فإن وفد المعارضة السورية إلى اللجنة يعيش “مأزقًا” وصل إليه بنفسه، بعد قبوله الانخراط بعدة جولات سابقة منها، بالإضافة إلى أن اللجنة الدستورية أصبحت العملية السياسية الوحيدة التي يرعاها المجتمع الدولي، دون وجود أي بديل عنها.
وتكمن نقطة ضعف المعارضة اليوم، بحسب محمد العبد الله، بعدم اتخاذها قرار الانسحاب في وقت مناسب وسابق بكثير من هذا اليوم.
وكان الأجدر بها أن تعترض أو تتخذ ذلك القرار بموقف أقوى، بدلًا من تنازلها وموافقتها على تضييق وتقليص نطاق العملية السياسية وبيان “جنيف 2” من بداية عملها الأول الذي بدأ بالاتفاق على تطبيق القرار الأممي “2254”، مرورًا بالوصول إلى اتفاق “السلال الأربع”، انتهاء بمحادثات اللجنة الدستورية.
ويعتقد محمد العبد الله أن المعارضة تعيش “ضغطًا سياسيًا كبيرًا” على الأرض في سوريا، تترجمه على الطاولة بمشاركتها بمفاوضات تجمعها مع النظام وعدم قدرتها على الانسحاب، نتيجة ميل الكفّة العسكرية على الأرض لمصلحة النظام، ما يجعلها الحلقة الأضعف المجبرة على التفاوض.
ماذا يرى وفد المعارضة؟
تحدث رئيس اللجنة المشتركة لوفد المعارضة في محادثات اللجنة الدستورية، هادي البحرة، عن “حالة عدم وضوح” لدى البعض في “قراءة قرار مجلس الأمن رقم (2254)”، وفي “التمييز” بين المرحلة التفاوضية التي تجري الآن، في سبيل التوصل إلى اتفاق سياسي لتحقيق سبل وأدوات تنفيذ القرار السابق.
وأوضح البحرة، في حديث إلى عنب بلدي، أن المرحلة الانتقالية تبدأ من لحظة التوقيع على الاتفاق السياسي، وتنتهي بلحظة تحقيق البيئة الآمنة والمحايدة اللازم تحقيقها قبل البدء بإجراء أول عملية انتخابية “نزيهة وحرة” بإشراف الأمم المتحدة، مشيرًا إلى أن العملية الانتخابية الأولى هي “الاستفتاء التأسيسي على مشروع الدستور الجديد”، الذي تعمل اللجنة على التوصل إلى صياغته، على حد قوله.
وأضاف البحرة أن مهمة تحقيق تلك البيئة الآمنة والمحايدة تبدأ عند “إقامة الحكم ذي المصداقية والشامل للجميع وغير القائم على الطائفية”، وفق ما نصت عليه المادة الرابعة من القرار الأممي “2254”، ووفق ما نص عليه بيان “جنيف” عام 2012، تحت مسمى هيئة أو “جسم” الحكم الانتقالي، وتبناه لاحقًا قرار مجلس الأمن رقم “2118”.
بينما تبدأ مرحلة الانتقال السياسي من لحظة تحقيق “البيئة الآمنة والمحايدة” لإجراء “الاستفتاء السياسي” على مشروع الدستور الجديد، وتنتهي بعد إنجاز الانتخابات البرلمانية والرئاسية “وفق التراتبية التي سينص عليها الدستور المنشود”، وبدء ممارسة المُنتخَبين مهامهم وفق صلاحياتهم التي يحددها أيضًا “الدستور الجديد”، وفقًا لما قاله هادي البحرة.
وبحسب البحرة، فإن مشروع “الدستور الجديد”، الذي يتم العمل عليه الآن، لن يصبح نافذًا إلا بعد إتمام جميع المراحل السابقة بالتسلسل.
غياب لـ”المحاسبة السياسية”
يرى الدبلوماسي السابق وكبير الزملاء في مركز “عمران” للدراسات الاستراتيجية، داني البعاج، أن ما يجعل المعارضة السورية مصرّة على متابعة المشاركة بمحادثات اللجنة الدستورية حتى اليوم، هو مبدأ عملها الذي انتهجته منذ بدايتها، والقائم على “العناد” و”عدم الاعتذار أو التراجع عن الأخطاء التي ترتكبها”.
وقدمت المعارضة السورية اللجنة الدستورية منذ بداية الحديث عن الاتفاق على محادثاتها، على أنها “انتصار للشعب السوري”، دون أن توضح أو تثبت أي مواقف جدّية قامت بها تلك اللجنة إلى اليوم، وفقًا للباحث داني البعاج.
وأضاف البعاج أن ما يعزز وجود هذا الإصرار لدى وفد المعارضة (الإصرار على الخسارة) أيضًا، غياب أدوات المحاسبة السياسية بشكل كامل عنهم من جهة، واستقبالهم في محادثات ترعاها الأمم المتحدة بصفتهم ممثلين عن المعارضة السورية، ما يعتبرونه “حماية لهم” من جهة أخرى.
تتكون اللجنة الدستورية من ثلاثة وفود بهدف وضع دستور جديد لسوريا وفق قرار الأمم المتحدة “2254”، القاضي بتشكيل هيئة حكم انتقالي، وتنظيم انتخابات جديدة.
ويعتبر القرار “2254” مرجعًا أساسيًا للعملية السياسية في سوريا، وينص على تشكيل حكم انتقالي شامل وغير طائفي، ثم وضع دستور جديد للبلاد، وتنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية بموجب الدستور الجديد خلال 18 شهرًا. |
ما جدوى أعمال اللجنة الدستورية اليوم؟
تعديل الدستور أو الإصلاحات التي تتحدث عنها اللجنة الدستورية لن تغيّر شيئًا على أرض الواقع في سوريا، بحسب ما أوضحه الحقوقي محمد العبد الله، الذي اعتبر أن المشكلة الأساسية تتجلى بتطبيق الدستور، وليست حول نص الدستور.
وأضاف العبد الله أن “من المؤسف اختزال العملية السياسية في سوريا بأكملها، وعملية السلام التي ترعاها الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، بمحادثات لتعديل الدستور فقط”، فالدستور السوري “ليس سيئًا”، لكنه يتضمن بعض المواد التي تحتاج إلى التعديل، باعتبار أن أساسه مترجم من الدستور الفرنسي إلى حد كبير.
وما دامت محادثات التفاوض بين وفدي النظام والمعارضة تقوم على تكرار نفس الأسماء القيادية فيها التي قادت التفاوض لسنوات دون جدوى، فلن ينتج عن ذلك أي تغيير حقيقي يدفع المسار السياسي إلى الأمام، وفق رأي الدبلوماسي السابق داني البعاج.
من جهته، قال رئيس اللجنة المشتركة لوفد المعارضة في محادثات اللجنة الدستورية، هادي البحرة، في حديثه إلى عنب بلدي، إن العملية التفاوضية لها عدة أدوات وأشكال، منها العسكري والدبلوماسي والقانوني والاقتصادي، تُحصد جميع نتائجها على طاولة المفاوضات السياسية.
واعتبر البحرة أن المعركة السياسية كالمعركة العسكرية لا يمكن التحكم بفترتها، مضيفًا أن الانسحاب أو إيقاف العملية السياسية هو “كمن يتوقع الفوز في معركة لم يقبل المشاركة فيها”، كما اعتبر أن “النتيجة في تلك الحالة محسومة لمصلحة الطرف الذي نزل إلى ساحتها”.
وبرر البحرة مرور سنتين على بدء عمل اللجنة دون أي مخرجات على الأرض، بأن “العملية السياسية ليست عبارة عن قائمة جاهزة من الخيارات المتاحة، التي إن توقف أحدها سيكون تنفيذ الآخر منها تلقائيًا”، موضحًا أن تلك الخيارات “تخضع لظروف وتوافقات دولية وإقليمية، ويتطلب الوصول إليها جهودًا كبيرة”.
وأضاف البحرة أن أساس عمل “هيئة التفاوض السورية” في العملية السياسية (بما فيها أعمال اللجنة الدستورية)، “خاضع لعملية تقييم مستمرة وفق أسس وقواعد تعود لعلم التفاوض، تتطلب البحث المستمر عن (أفضل بديل لاتفاق تفاوضي)، وفي حال وجوده وجب اتباعه”.
وأشار البحرة إلى أن “المعركة التفاوضية تحتاج إلى الثبات والحكمة في اتخاذ القرارات”، معتبرًا أن “المعركة النهائية لن يحسمها من يكسب المعركة العسكرية، بل من يستطيع ضمان استدامة الأمن والسلام والعدالة”.
ومع انتهاء الجولة الخامسة من محادثات اللجنة الدستورية، في 29 من كانون الثاني الماضي، دون أي جديد للسوريين، ووصول المحادثات فيها إلى طريق مسدود، كثرت الدعوات للتخلي عنها، واستبدال آلية جديدة بها، تضمن الرجوع لتنفيذ القرار “2254” كاملًا، لا جزئية واحدة منه فقط (إعادة صياغة الدستور).
وبحسب مقال نشرته العضو في اللجنة الدستورية عن وفد المجتمع المدني جمانة قدور، في شباط الماضي، قالت فيه إن الدول الداعمة لجهود الأمم المتحدة أمامها خياران، إما إجهاض نشاط اللجنة الدستورية على الفور أو التهديد بذلك إذا استمرت بعدم التوصل إلى نتائج، وإما إنشاء آلية دبلوماسية جديدة (بالإضافة إلى عمل اللجنة أو بعد توقف عملها) تتعامل مع التفويضات الأساسية لقرار مجلس الأمن رقم “2254”.
وفي تشرين الأول 2019، وبعد إعلان تشكيل اللجنة الدستورية، توقع المحامي والمستشار القانوني والدبلوماسي السوري محمد حسام حافظ، بحسب دراسة نشرها عبر موقع “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، أن تواجه اللجنة “تحديات كبيرة” بسبب هشاشة مرجعياتها وبنيانها القانوني والسياسي، وعدم تمثيلها مناطق شاسعة من سوريا، بالإضافة إلى إقصاء الكوادر الاختصاصية ذات التأهيل العالي من وفود اللجنة عن المعارضة والنظام والمجتمع المدني.
وأشارت الدراسة إلى قائمة الأسماء المشاركة عن وفد المعارضة التي “امتلأت” بأعضاء “هيئة التفاوض السورية”، و”الائتلاف”، وقائمة المشاركين في وفد المجتمع المدني التي تضمنت أسماء “مقربة جدًا من الدوائر الأمنية للنظام”، بالإضافة إلى قائمة النظام التي “وإن ضمت اختصاصيين، فإنها دارت حول الكثير من أسماء العناصر المرتبطين أمنيًا بالنظام”.
البدائل “ضعيفة”
لا يرى مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، وجود أي بديل حالي عن محادثات اللجنة الدستورية لدفع المسار السياسي إلى الأمام في سوريا، لكونها العملية الوحيدة فقط التي ترعاها الأمم المتحدة اليوم، مضيفًا أن عمل هيئات المفاوضات اليوم معلّق بيد اللجنة الدستورية التي كانت مشكلاتها واضحة منذ البداية، متمثلة بعدم وجود مصداقية لديها أو جدوى حقيقية منها نظرًا إلى تدخل روسيا الواضح فيها، وفرضها إدخال شخصيات محددة فيها وإخراج شخصيات أخرى منها.
وحول المؤتمرات الأخرى التي تجري لبحث الأوضاع في سوريا كمسار “أستانة/ سوتشي”، يعتبر الحقوقي محمد العبد الله أنها بدائل “ضعيفة”، لأن الضامنين فيها هم الأطراف المتصارعة على الأرض في سوريا (روسيا، إيران، تركيا)، إلى جانب عدم امتلاكها تمثيلًا دوليًا تعترف به الدول الكبرى (الولايات المتحدة الأمريكية، الاتحاد الأوروبي).
ويعتقد العبد الله أن فتح الباب لبدائل أخرى عن اللجنة، يُخشى منه، إذ يمكن أن تُستبدل بوفد المعارضة “عشرات النسخ الموجودة من تكتلات المعارضة”، التي ستكون مستعدة لتشارك فقط لمجرد الجلوس على طاولة المفاوضات، أو لعب دور قيادي فقط، أو طمعًا بحصولها على قيادة سياسية في أجسام المعارضة.
ويتفق الدبلوماسي السابق وكبير الزملاء في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، داني البعاج، مع محمد العبد الله، بعدم وجود بدائل عن اللجنة، إذ يرى البعاج أن اللجنة وُجدت “لتُعرقل العمل السياسي، وتثبته عند نقطة مناقشة الدستور”، وهي المهمة التي أُوكلت إليها منذ البداية.
وأوضح أن المشكلة الأساسية بدأت بموافقة المعارضة على الانخراط بهذه اللجنة رغم معرفتها السابقة بوجود بدائل كثيرة عنها ذات حلول أفضل منها، مشيرًا إلى ظهور تحذيرات عديدة من الباحثين والمتابعين لمسار المفاوضات عززت الرفض الشعبي للبدء باللجنة منذ بداية إعلان تشكيلها.
ويرى البعاج أن أي تحرك مستقبلي بديل يجب أن يأتي من “هيئة التفاوض” التي لن تخرج “بجديد”، بحسب رأيه، مُلقيًا اللوم على عدم قدرة أجسام المعارضة على التحرك بمسارات بديلة، لانخفاض الخبرة السياسية رغم سنوات طويلة من التفاوض.
وأكد رئيس اللجنة المشتركة لوفد المعارضة في محادثات اللجنة الدستورية، هادي البحرة، أن العملية السياسية التي ترعاها وتيسّر أعمالها الأمم المتحدة في جنيف، “هي المخرج الوحيد الذي يقدم الحل القابل للاستدامة” للتوصل إلى تطبيق القرار “2254”.
وحول البدائل الموجودة بعد فشل اللجنة الدستورية، يعتقد البحرة أن المعارضة تعمل على “تسريع حدوث عدة مسارات داعمة للعملية السياسية” للتوصل إلى توافقات دولية وإقليمية وعربية تؤدي لإنجاز اتفاق سياسي بين الأطراف السورية وفق خارطة طريق واضحة.
وأشار البحرة إلى أن المعارضة تتوقع أن تبدأ الجولة المقبلة من محادثات اللجنة بـ”العمل بجدية على صياغة (وليس مجرد إعداد) إصلاح دستوري”، بالإضافة إلى “التوصل لإنجاز جدول الأعمال المحدد لهذه الجولة”، وذلك بناء على معطيات المباحثات التي أجراها البحرة مع غير بيدرسون.
أضاف البحرة أن جدول أعمال الجولة المقبلة محدد منذ بداية الجولة الخامسة في كانون الثاني الماضي، ويتضمن البدء بعملية صياغة المبادئ الأساسية في الدستور (أي الفصل الأول)، لكون هذه المبادئ الأساسية تشكّل الأسس التي تُبنى عليها بقية فصول الدستور.
واعتبر رئيس وفد المعارضة أن الخلاف بين وفدي النظام والمعارضة سابقًا كان حول “منهجية العمل”، مشيرًا إلى أن ضرورة التوافق على منهجية تؤدي إلى نتائج تمكّن اللجنة من إنجاز مهمتها الموكلة إليها في إطار تفويضها.
النظام والروس.. موقف متشابه بلهجة مختلفة
في 14 من أيلول الماضي، نقلت قناة “سبوتنيك” الروسية، عن مصادر سورية وصفتها بـ”المطلعة”، أن لقاء رئيس النظام السوري، بشار الأسد، والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي جرى في العاصمة الروسية، موسكو، منتصف أيلول الماضي، تطرق إلى مسار “أستانة” واللجنة الدستورية، لكن مسألة اللجنة الدستورية لم تعد ذات أهمية بالنسبة للروس، خاصة بعد الانتخابات الرئاسية التي أجراها النظام في أيار الماضي، وبارك بوتين فوز الأسد الذي وصفه بـ”المستحق” بها.
ولا يشكّل الموقف الروسي بتهنئة بوتين للأسد تعارضًا مع تصريحات وزير خارجيته، سيرغي لافروف، الذي أعرب عن تطلعاته بعقد مبكر لاجتماع اللجنة الدستورية في جولتها السادسة، خلال مباحثات أجراها مع بيدرسون، في 22 من تموز الماضي، بالاستناد إلى توقعات أطلقها في 31 من آذار الماضي، خلال مشاركته في أعمال منتدى “فالداي” الدولي للحوار في موسكو.
وتوقع لافروف أن تكون الجولة السادسة “جديدة ونوعية”، مقارنة بجولات اللجنة السابقة، باعتبار أنها المرة الأولى التي يُتفق خلالها على عقد لقاء مباشر بين رئيسي وفدي الحكومة والمعارضة.
وباعتبار أن الروس يؤيدون مسار اللجنة، وعملوا على إقناع أطراف عدة بتأييده، اعتبرت الخطوة الأولى المتمثلة بالضغط على حكومة النظام لحضور اجتماعات اللجنة خطوة إيجابية، لكن سرعان ما اتضح أن “تنازلات” وفد حكومة النظام ستقتصر على حضور المحادثات، وفق ما ذكرته عضو اللجنة الدستورية جمانة قدور، في آذار الماضي.
واتضح سريعًا، بحسب قدور، أن مشاركة حكومة النظام كانت مجرد خدعة، فبدلًا من مناقشة مسائل جوهرية، أو الصياغة الدستورية، أضاع ممثلو حكومة النظام الوقت في التهديد بسحب الجنسية من أعضاء المعارضة الخونة، والبعض يرى أن روسيا غير مستعدة للوفاء بوعودها، وبالتالي تسعى لتأجيل أي تقدم في عمل اللجنة، بينما يعتبر بعض آخر أن قدرتها على ضمان تنازلات فعلية من النظام مجرد أوهام.
وينسجم الموقف الروسي مع موقف النظام إلى حد بعيد، إذ لا يدفع الروس بالنظام نحو موقف جدي، ليستمر باللعب على عامل الزمن وإضاعته.
وبالنظر إلى مهاجمة الأسد للجنة منذ جلستها الأولى التي ضيّعها وفد النظام بالحديث عن “الثوابت الوطنية”، فالجلسات المتتابعة للجنة الدستورية جاءت ترجمة فعلية لتصريحات الأسد، من خلال تركيز وفد حكومة النظام على قضايا لا تشكّل أولوية أو محل الخلاف القائم بنظر المعارضة.
وفي 12 من آب 2020، قبل انعقاد الجولة الثالثة من اجتماعات اللجنة، وصف الأسد أمام أعضاء مجلس الشعب، “المبادرات السياسية” بأنها تحولت إلى “خزعبلات سياسية، بفضل الولايات المتحدة ووكيلتها تركيا وممثليهما في الحوار”، مجددًا التأكيد على اقتصار دور اللجنة على موضوع الدستور.
ثلاث سنوات لبيدرسون..
فائدة أم على خطى دي مستورا؟
في 30 من تشرين الأول 2018، عيّنت الأمم المتحدة الدبلوماسي النرويجي، غير بيدرسون، مبعوثًا أمميًا إلى سوريا، من بين أربعة مرشحين لإدارة دفة التفاوض بعد تنحي المبعوث الأممي السابق، ستيفان دي مستورا، الذي حافظ على منصبه لأربع سنوات لم تقدم حلًا سياسيًا للملف السوري.
ورث بيدرسون الملف السوري بثقل تفاصيله عن أسلافه المبعوثين الأمميين، ومشى في مسار اللجنة الدستورية أشواطًا زمنية لم تحقق تقدمًا ملموسًا على الأرض.
بيدرسون الذي أعلن، في 28 من أيلول الماضي، موعد الجولة السادسة من اجتماعات اللجنة الدستورية بجنيف، في 18 من تشرين الأول الحالي، أعرب في وقت سابق بعد انتهاء الجولة الخامسة من الاجتماعات عن “خيبة أمل”.
وقال خلال مؤتمر صحفي عقده، في 29 من كانون الثاني الماضي، “ليس هناك فهم واضح بشأن كيفية التقدم في أعمال اللجنة”.
ومع ذلك، يواصل مهمته التي تنقسم الآراء حول الجدوى من مواصلتها، أو الانسحاب كالمبعوثين السابقين وتسليم الراية لمبعوث جديد قد يتبع خطى أسلافه في الشأن السوري، بالتزامن مع تراجع الملف السوري عن سلّم أولويات المجتمع الدولي أمام وجود قضايا أكثر إلحاحًا على المستوى الدولي، إثر تحوّل الملف السوري إلى قضية لا تشكّل تهديدًا خارجيًا.
كبير الزملاء في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، داني البعاج، تحدث لعنب بلدي حول دور بيدرسون والفائدة التي يرجوها من مواصلة جولات اللجنة الدستورية.
ويرى البعاج أن دور المبعوث الأممي ينحصر بما تريده الأطراف الدولية المعنية بالقضية، مع وجود حيّز ومساحة للمناورة يتيحها منصبه كمبعوث أممي مهمته تسهيل التواصل وتقريب وجهات النظر ونقل الأفكار بين الأطراف، وترويج أفكار وأساسيات كل طرف لدى الآخر.
ويمكن للمبعوث الأممي أو الوسيط الدولي، بحسب البعاج، أن يبادر ويقسم مسارات التفاوض، مشيرًا إلى ما فعله المبعوث السابق، دي مستورا، الذي بادر بتقسيم مسارات التفاوض إلى “السلال الأربع”، التي لا تزال معطلة.
وفي 3 من آذار عام 2017، أعلن دي مستورا انتهاء “جنيف 4″، موضحًا أن جدول أعمال الجولة الخامسة (جنيف 5) سيتضمن “أربع سلال”، السلة الأولى هي إنشاء حكومة جديرة بالثقة، وشاملة للجميع غير طائفية خلال ستة أشهر، والسلة الثانية بدء عملية صوغ دستور جديد خلال ستة أشهر أيضًا.
أما السلة الثالثة فتتضمن مناقشة إجراء انتخابات حرة نزيهة تحت إشراف الأمم المتحدة، وتشمل أعضاء في المهجر من الجالية السورية التي يحق لها التصويت، وتكون بعد وضع الدستور في غضون 18 شهرًا.
وأكد المبعوث الأممي السابق أن هناك “سلة رابعة” أُضيفت إلى جدول الأعمال، بناء على طلب وفد النظام السوري، وهي “مناقشة استراتيجية مكافحة الإرهاب”.
وأوضح داني البعاج أن بيدرسون غير مضطر للمبادرة، خاصة في ظل وجود اتفاق دولي على اللجنة الدستورية، ما يجعله مكتفيًا بمحاولة الدفع في هذا المسار السياسي، مع التأكيد على أن نجاح أو فشل هذا الدفع يتوقف على خبرته كمبعوث دولي ومدى قدرته على حشد ضغط دولي وخلق زوايا جديدة للتفاوض والحوار بين الأطراف المعنية.
ولفت البعاج إلى أن الاهتمام الدولي بالقضية السورية آخذ بالتراجع، ويمكن قراءة ذلك من خلال تسلسل المبعوثين الدوليين إلى سوريا، بدءًا بالأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، كوفي عنان، ثم الأخضر الإبراهيمي، الذي أنجز اتفاقيات وساطة كبيرة أسفرت إحداها عن “اتفاق الطائف” في لبنان، وبعد ذلك تولى دي مستورا زمام التفاوض السياسي لأربع سنوات، ثم خلفه بيدرسون.
فالبدء بأمين عام للأمم المتحدة والانتهاء بمبعوث دولي، لا يحظى رغم نجاحاته وخبرته بالثقل الدبلوماسي نفسه، مؤشر على تراجع الاهتمام بالقضية برأي البعاج، الذي حمّل المسؤولية للدول الراعية للملف السوري لعدم اتفاقها بعد خروج القرار من يد السوريين.
كما حمّل المعارضة جزءًا من المسؤولية لعدم امتلاكها الخبرة ومراكمتها الأدوات، مشيرًا في الوقت نفسه إلى أن استقالة كوفي عنان، ورفضه الانخراط بعملية سياسية “فاشلة”، كان رسالة مفادها أن حل القضية لن يجري بعملية مفاوضات سياسية عبر الأمم المتحدة.
ويشدد الدبلوماسي السابق داني البعاج على أن الوسطاء الدوليين لا ينشدون الامتيازات، ولا يسعدهم تعثّر المسار التفاوضي في القضايا التي يعملون عليها، فالوسيط الدولي يسعى دائمًا لإنجاح القضية التي يعمل عليها كجزء من سيرته السياسية، ومن الخطأ لوم الوسيط الدولي على قضايا بإمكان أطراف النزاع تغييرها.
كما لم يستبعد البعاج أن يقرر بيدرسون، في وقت ما، مغادرة منصبه، وملاقاته مصيرًا مشابهًا لأسلافه قد ينتهي بالاعتذار والاستقالة، لكن على الأقل بعد تحقيق تقدم نسبي أو نجاح رمزي في المهمة على غرار المبعوثين السابقين، إذ وضع كوفي عنان خطة “بيان جنيف” الأساسي الذي دعا الأطراف السياسية إلى الطاولة، وعقد الإبراهيمي أول جولة تفاوض مباشرة بين أطراف النزاع، بينما دفع دي مستورا باللجنة الدستورية و”السلال الأربع”.
وتنقسم الآلية التي تعامل بها المبعوثون الدوليون إلى سوريا لفئتين، تعاملت الأولى بواقعية، وتجلى ذلك باستقالة كل من كوفي عنان والإبراهيمي في وقت قصير عند الشعور بغياب الإجماع الدولي على الحل.
بينما يواصل بيدرسون المهمة منذ ثلاث سنوات، سائرًا على خطى دي مستورا، الذي تمسك بالمنصب ودفع المسار السياسي في حين كانت المدن السورية تحت وطأة قصف ومدفعية النظام وعملياته العسكرية، وفق ما قاله مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، في حديثه إلى عنب بلدي.
وأوضح محمد العبد الله أن بيدرسون تولى ملفًا ثقيلًا دون أي وعود أو ضمانات بمنحه غطاء سياسيًا أو دعمًا دوليًا، وما يستطيع القيام به فعلًا يتجلى باقتراح لقاءات ليس بالضرورة أن تفضي إلى نتائج ملموسة على الأرض، وإدارة الأزمة والمماطلة بها، وليس حلّها.
وبحسب العبد الله، فالمبعوث الأممي النرويجي لا يتمسك باجتماعات اللجنة الدستورية ومحاولة استمراريتها من منطلق الإيمان بقدرتها على خلق تقارب سياسي، بل باعتبار المسار السياسي الحالي مرسومًا مسبقًا، ولا حلول بديلة عنه، في ظل عدم امتلاك بيدرسون غطاء دوليًا، وهذا ما يعقّد المهمة وإمكانية نجاحها.