إبراهيم العلوش
“رقصة الشامان الأخيرة” رواية عبد الرحمن حلاق الجديدة، تؤرّخ لبدايات الثورة السورية، ورغم تفاقم عنف النظام وتطرف بعض الإسلاميين، فإنها تركّز على مسار الثورة وناشطيها بمدينة حلب في نقطة حرجة هي نهاية 2012.
تبدأ الرواية بمشهد هروب خالد بعد مظاهرة “طيّارة” في حلب، ومقتل الناشط مصطفى على يد أخيه عدنان الذي يتزعم إحدى مجموعات “التشبيح”، وتعتمد الرواية أسلوب تداعي الأفكار الذي أسسه وليم فوكنر في روايته الشهيرة “الصخب والعنف”.
يختبئ خالد في مدرسة مهجورة ومدمّرة، يلتمس طريقه في العتمة حتى الصباح، يتذكر خالد صديقه الناشط مصطفى، المرِح والشجاع، ويتأكد من أن عدنان هو من قتل أخاه مصطفى عندما رآه يقترب من الجثة ويصرخ غاضبًا باسم أخيه.
تقدم الرواية الصادرة حديثًا عن دار “الفراشة للنشر والتوزيع” في الكويت، شخصياتها بكثافة وباختزال لا يحتمل السرد المطوّل، وبتقنية تذكّرنا أحيانًا بسرد القصة القصيرة المتمازج مع لغة الشعر المتعالية، بالإضافة إلى أن كثافة الأفكار أخرجت الكثير من صفحات الرواية عن متابعة السرد بعفوية، وليس من المصادفة صياح صباح بخالد: “أنت أبو العرِّيف!”، وريم بدورها تقول لصباح: “هذا درس وليس حكاية، أنتم الشيوعيين تحبون التنظير كثيرًا”. فخالد وصباح البطلان الرئيسان في الرواية، ولديهما من الأفكار أكثر مما لديهما من العفوية.
قدمت الرواية شخصية صباح ومعاناتها كيتيمة، وكشيوعية، وتعرّضها للتحرش الجنسي من أحد أقاربها، ومن رفاقها الذين لا يفكرون بالمرأة إلا كهدف جنسي، ولكنها تتسم بالشجاعة وبقدرتها على مواصلة حريتها عبر حبها لخالد، الرجل المطلَّق نتيجة تصنيفه لنفسه كزوج فاشل.
ورغم وقوع بعض أجزاء الرواية بالتوصيف الجاهز للشخصيات، ربما نتيجة اختيار طريقة السرد حسب الأسماء، فإن الرواية تقدم من جهة أخرى شخصيات تعجّ بالحياة، مثل سهيل الشاوي الذي يخلق في لحظات اليأس فسحات من المرح المتسم بالإصرار على الهدف الذي انطلقت من أجله الثورة، ويعمل بإخلاص مع زوجته سماح كمتطوعَين في الإنقاذ، الذي ينضمان إلى فرقه بعد الغارات والصواريخ التي يلقيها النظام على أحياء حلب الشرقية. وقد نجد سهيلًا قادمًا وهو ملطخ بالدماء ليروي للمجموعة مشاهداته الحزينة، ولكنه سرعان ما يطلق مسبّة أو نكتة يقلب بها الجو إلى المرح.
غيث القادم من السويداء مع صفاء من أهم شخصيات الرواية، وحكايته هي الخيط الروائي الأهم من حيث استعمال الحكاية وتطوّر الأحداث المشوّقة رغم مأساويتها.
يتفق غيث مع صفاء للذهاب إلى حلب من أجل المشاركة بتقديم مسرحيات للأطفال الذين يعيشون تحت القصف، وينجح بشكل كبير باستقطاب الانتباه وإخراج الأطفال من حالة اليأس التي تتسبب بها الطائرات والقنابل، ويحاول إخراج الطفل عادل الذي توفيت والدته بالقصف، ويقنعه بالرسم فيرسم أمه كوردة وشمس بدلًا من الرسم الآدمي، معبرًا عن جمالها بالوردة وعن دفئها بالشمس كما شرح لزملائه الأطفال، ولعل هذه الصورة من أجمل ما مرّ في الرواية بعيدًا عن الاستخدامات المتكررة للغة التوصيف التقليدية التي كانت ثقيلة على بعض مساحات النص.
يفرح غيث وتفرح المجموعة بنجاح المسرحيات، ويتنقلون من هنانو إلى طريق الباب والأشرفية والشيخ مقصود وأحياء حلب الأخرى، ولكن الصاروخ يصل في الصباح التالي ليدمر عدّة المسرحية وديكوراتها، ويصيب أبطالها، في مشهد تتطاير فيه الأشياء والحيوانات والبشر بشكل مأساوي، حيث تضرب شظية عنق سماح وتصيب أخرى غيثًا بجرح بليغ.
يموت غيث في مستشفى تركي، وترجع جنازته مع سهيل وخالد، ويحاولان دفنها مع أكرم في قرية درزية قرب حلب بناء على طلب أهله، لكن “الشبيحة” في قرية معرة الأخوان يرفضون ذلك، يرجعان إلى المخيم ويرفض مشايخ التمويل الخارجي دفن الجثة بحجة أن المتوفى غير مؤمن بأفكارهم وتنبذه فتاواهم، يحاول الشيخ عثمان إقناع أحد شرعيي الفصائل بدفن الجثة قبل خروج رائحتها فيتنمّر شرعي الكتيبة على الشيخ عثمان ويهدده بالتكفير هو نفسه.
وهكذا تنتهي الجثة في قبر روماني قديم أو في مغارة لم يعد يعرف أحد إحداثياتها ليضيع غيث في رحم الأرض السورية بلا أهل، وبلا زوّار أو عنوان، لأنه كان مخلصًا بشكل نقي وبريء لحلمه بالحرية.
وتقدم الرواية قصة حب رومانسية بين ريم ابنة خالد والشاب الكردي آزاد زميلها في الجامعة، حيث تدرس ريم في كلية العمارة وتنشط في أوساط الطلاب وتقف بشجاعة أمام لجنة التحقيق العربية، وتخرج بأفكار جديدة عن أهمية الهدم المعماري الذي تحتاج إليه البلاد بقدر حاجتها إلى البناء، فالتعفن أتعب البلاد وأتعب بناها المتهالكة.
تلجأ ريم إلى بيت نهلة المسيحية وتعتبرها مثل أمها، تلك المرأة التي هاجر أولادها وظلت وحيدة تنتظر لمّ الشمل بهم، وفي يوم الامتحان تتواعد ريم مع آزاد الذي تطوع في “الجيش الحر” ودخل معركة تحرير مدرسة “المشاة” في المسلمية، تخرج ريم من امتحانها مبكرة وعلى غير عادتها بالتأني وبمراجعة الأجوبة، لتكون على موعد مع حبيبها ومع صاروخ يضرب الجامعة وينثر أشلاء الحبيبين مع الكثير من الطلبة في أول يوم من الامتحانات في نهاية 2012 بالجامعة.
نهاية الرواية اتسمت بمأساة ريم وآزاد، وأوقفت حكايات الشخصيات وطوت أحلامها، حتى إننا لا نعرف مصير سماح زوجة سهيل الذي رافق غيث في رحلته نحو القبر الروماني.
وهذه النهاية تثير أسئلة كثيرة، مثل هل هذا الموت المأساوي تعبير عن اليأس الذي وصلت إليه الثورة التي صار يتحكم بها الشيخ رضوان وصديقه عدنان الذي أرسله النظام كمبعوث له في كتائب “الجيش الحر”؟
ولا بد من سؤال عبد الرحمن حلاق، هل لا يزال خالد وصباح وسهيل وسماح وأكرم وصفاء مستمرين؟ وثمة أسئلة كثيرة تخطر على البال في نهاية هذه الرواية التي تعيدنا إلى بدايات الثورة الحالمة!