خطيب بدلة
“العلاك” اصطلاح سوري، يعني الكلام الفارغ، ويقال له أحيانًا “الحكي الفاضي”، وأظن أن اختراع طناجر التيفال، قبل نصف قرن من الزمان، قد أوحى لأحد السوريين أن يطلق عليه اسمًا متطورًا هو العلاك المصدّي. (هذه التسمية البارعة توحي بوجود نوع من العلاك الـ”ستانلس”، الشبيه بطناجر التيفال التي لا تعلق الطبيخ).
من أهم إنجازات الحركة التصحيحية، التي قادها المجرم المناضل حافظ الأسد، منع الناس من كل أنواع الكلام، وبضمنها العلاك. السوريون عبروا عن تلك الحالة الكئيبة بتأليف نكتة تقول إن طابورًا من الناس كانوا واقفين على باب سفارة إحدى الدول الأوروبية، طالبين الحصول على “فيزا” لأجل العمل. لاحظ أحدُ موظفي السفارة وجود كلب واقف في الطابور، اقترب منه وسأله عن سبب رغبته في السفر، فقال الكلب: أريد أن أسافر إلى بلادكم لكي أعوي على كيفي، فالعواء عندنا ممنوع.
بيد أن عددًا لا يمكن إحصاؤه من السوريين الذين كانوا محرومين من نعمة التعبير عن الرأي في أيام حافظ الأسد (ووريثه الضحوك)، تحولوا، بعدما تحررت مناطقهم من سيطرة العصابة الأسدية، إلى علاكين محترفين، يجلس الواحد منهم في مكان عام أو خاص، ويتحدث في كل شيء، ابتداء من التجارة والزراعة والصناعة، مرورًا بالفلسفة وعلم الاجتماع ونشوء الدول، وصولًا إلى الطب والبيطرة وقلع الأضراس دون بنج. وفي بعض الأحيان يفتتح أحدُهم علاكه بعبارة تافهة، فيؤازره ثلاثة أو أربعة من الحاضرين. يا سيدي، ومن هذا فكرة، ومن ذاك تعليق، وإذا بالجلسة تتحول إلى “ساحة مَعْلَكة”.
عُقدت، قبل أيام، في أحد أحياء اسطنبول الشعبية، جلسة ضمت لفيفًا من الرجال، بدأ أحدُهم الكلام (العلاك) زاعمًا أن السوريين شعب عظيم، ولذلك يتعرض لمؤامرة كبرى. ولكيلا يلتبس الأمر على المستمعين، وتذهب بهم الظنون إلى أنه ينقل فكرة المؤامرة عن المجرم المناضل الضحوك بشار الأسد، قال: أقصد مؤامرة على الشعب المسلم. أيده رجل يعيش في دولة أوروبية منذ 30 عامًا بقوله: نعم، الأوروبيون يكرهون الإسلام، فهم يعرفون أن مستقبل العالم للمسلمين، لذلك يمارسون عليهم أقصى درجات العنصرية. أكد رجل ثالث، يبدو أنه مطلع على خفايا المجتمعات الأوروبية، أن الرؤساء الأوروبيين الذين نراهم ونسمع أحاديثهم في الإعلام ليسوا سوى واجهات، والحاكم الحقيقي للدول الأوروبية هو المافيات! ثم أخفض صوته، وأحنى ظهره، وراح يتحدث بلهجة الأسرار، قائلًا إن رئيس وزراء إسرائيل، نتنياهو، قام بزيارة سرية إلى ألمانيا، في أواخر سنة 2010، واجتمع مع أنجيلا ميركل، بعيدًا عن كاميرات الصحفيين، وقال لها، بالحرف الواحد: ليش المسلمين في سوريا حتى الآن قاعدين في بيوتهم بأمان الرحمن؟ لازم يتهجّروا. ميركل، بدورها، قالت له “عُلِم”، ووعدته بتهجيرهم، وبدأت التنفيذ في الحال.
كان بين الحاضرين رجل قليل الكلام، أذهلته كمية العلاك التي طُرحت في الجلسة، فخاطبهم بقوله، إن الشعب السوري يتعرض بالفعل لمؤامرة رهيبة، تتجلى في هذا الوهم بأنه شعب عظيم، ومستهدف. وأنا أتوقع أن تطول محنته التاريخية كثيرًا، بسبب هذا الكم الهائل من الأكاذيب.