أحمد الشامي
من الصعب على من لا يعيش في بلد كبير وعريق، ديمقراطي وينبض بالحياة مثل تركيا، أن يتناول الحياة السياسية الداخلية لهذا البلد، دون أن يكون مطلعًا على دقائق هذه السياسة وهذا المجتمع.
لست ملمًا بخفايا السياسة التركية وتوازناتها، لذلك أرجو من القارئ الكريم أن يعذرني إن جانبت الموضوعية أحيانًا، لكن فرحتي بانتخابات اﻷحد الماضي وبالنجاح الساحق لحزب العدالة والتنمية وللسيد “أردوغان”، تدفعني لتهنئة كل اﻷتراك المحبين لوطنهم وكل السوريين الذين حبسوا أنفاسهم خوفًا من نجاح “أصدقاء اﻷسد” في هذه الانتخابات، والذي كان سيعني تشريد وتهجير مليوني لاجئ سوري وطعن السنّة في سوريا في الظهر.
هناك الكثير من المآخذ على سياسة السيد “أردوغان” وعلى مواقفه تجاه الثورة السورية، لكن مقارنة سريعة بين ما فعله الرجل ومواقف جيران سوريا الآخرين توضح أن الفرق هو ما بين الثرى والثريا. كذلك الأمر فيما يخص باقي الأحزاب التركية التي ترواحت مواقفها بين طرد السوريين فورًا أو بعد حين.
بحسب بعض المطلعين، كانت هذه الانتخابات فرصة لإظهار الاستقطاب الجاري حاليًا في تركيا، بين قوميين أتراك سنة، يعتزون بدولتهم وبديانتهم وبتاريخهم من جهة، وبين “علمانيين” على شاكلة البعث اﻷسدي من جهة أخرى. هؤلاء “العلمانيون” يتوزعون بين “حزب الشعب الجمهوري” المساند لنظام البراميل وهو واجهة للأقلية العلوية في تركيا ولأقليات أخرى، و”حزب الشعوب الديموقراطي” وهو الجناح السياسي لعصابات الـ “بي كي كي” الذي يرفع شعارات علمانية ويسارية زائفة هدفها تجميل حقيقة أن هذا الحزب يهدف لقيام دولة كردية “يسارية” صديقة لكل من “بلطجي” الكرملين وجزار دمشق.
لنتصور، عزيزي القارئ، ولو للحظة، أن “حزب الشعب الجمهوري” قد انتصر في الانتخابات الأخيرة! التحالف بين حزبي اﻷقليات العنصريين هذين: “الجمهوري” و “الشعوب الديمقراطي” كان سيؤدي لنوع من “جبهة وطنية تقدمية” بنكهة أتاتوركية على حساب سنة تركيا.
لننس المصير اﻷسود الذي كان يتربص بالسوريين اللاجئين في تركيا ولنتأمل في مصير اﻷتراك.
من يقول إن هذا السيناريو خيالي عليه أن يتذكر ما حصل في مصر حين انقلب “السيسي” على الرئيس المنتخب وانتهى اﻷمر إلى مجزرة “رابعة”. هل نجت الأغلبية التركية بنتيجة هذه الانتخابات من “مجزرة تقسيم” كانت تنتظرهم على يد اﻷقلية المتمثلة بحزب الشعب الجمهوري وأصدقائها من “الكيان الموازي”؟ لا أدري، فأهل مكة أدرى بشعابها.
رغم كل شيء لم يخرج الشقيق التركي اﻷكبر بعد من تراث اﻷتاتوركية، فأتاتورك فعل الكثير من أجل بلده وأقام نظامًا علمانيًا قويًا ومستقرًا. المشكلة مع ورثة أتاتورك هي أنهم جعلوا العلمانية بمثابة “ديانة” جديدة تحل محل اﻹسلام التركي المعتدل. لذلك يبقى خطر حصول انقلاب يفجر الدولة التركية تحت شعار “الحفاظ على العلمانية” هو ما يؤرق كل محبي هذا البلد العظيم.
مقارنة مع “أربكان” فقد نجح “أردوغان” في إقامة منظومة صالحت بين التراث اﻹسلامي التركي العريق وبين الدولة العلمانية والديمقراطية الراسخة.
هل صوّت اﻷتراك بقلوبهم لصالح الرجل القوي وحزبه ذي المسار الواضح والثابت وهم يضعون نصب أعينهم مجزرة أشقائهم في سوريا على يد أعداء تركيا التاريخيين ذاتهم؟ الفرس الشيعة والروس الأورثوذوكس؟
أيًا يكن الدافع من أجل تصويت اﻷتراك لصالح “أردوغان” وحزبه فلا يكفي أن نشكر “أردوغان” و “داوود أوغلو” بل يجب أن نتوجه بالشكر لكل تركي صوّت بقلبه وبضميره.
في الستينيات قامت حملة تبرعات في أمريكا لصالح إسرائيل وكان شعار البعض “ادفع دولارًا تقتل عربيًا” في الحالة التركية يصح القول “صوّت لأردوغان تنقذ سوريًا…”.